من تاريخ فرنسا، وتحديداً من الجمهورية الثالثة الفرنسية (1875- 1940) التي تربطها بلبنان صلة "مصاهرة دستورية"، أنقل حكاية الفضيحة التي أجبرت رئيس الجمهورية جول غريفي (Jules Grévy) على الاستقالة من منصبه، وأنهت الحياة السياسية لأحد أبرز السياسيين الفرنسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بطريقة مأسوية. وأنا أروي للقراء هذه القصة من باب التندر في هذه الأيام الكالحة السواد الكئيبة، وعن حسن نية، من دون أن أقصد أحداً أو أغمز من قناة أحد. صدّقوني!
على أثر استقالة أول رئيس للجمهورية الثالثة الفرنسية، وهو المارشال باتريس دو ماك- ماهون في 30/1/1879، التأمت "الجمعية الوطنية" (المؤلفة من مجلسَي الشيوخ والنواب) في اليوم ذاته وانتخبت رئيس مجلس النواب جول غريفي (Jules Grévy)، من الدورة الأولى، رئيساً للجمهورية لمدة سبع سنوات تنتهي في 30/1/ 1886.
كان جول غريفي (1807-1891) سياسياً مخضرماً محنكاً، ومحامياً لامعاً انتخب نقيباً لمحامي باريس في عام 1868.
أما على الصعيد الشخصي، فكان يعيش حياة عائلية هادئة بسيطة تلامس التقشف والتقتير، واستمر على النمط ذاته بعد انتخابه رئيساً للجمهورية حتى قيل عنه على سبيل التهكم: إن الرئيس غريفي يتقاضى تعويض انتقال ويكاد لا يغادر قصر الاليزيه، ويتقاضى مخصصات ضيافة وتشريفات ولا يدعو أحداً إلى مائدته!
إلا أن نقطة ضعف الرئيس غريفي كانت ابنته الوحيدة أليس التي كان مولعاً بها جداً ومستعداً لأن يضحي بكل شيء في سبيل إرضائها. وشاء القدر أن تتزوج، في العام 1881، من تاجر يدعى دانيال ويلسون.
بدأ دانيال ويلسون، وهو من أصل ايرلندي، حياته العملية في ممارسة التجارة وتمكّن من جمع ثروة لا بأس بها، فاتجه إلى العمل السياسي إلى جانب التجارة. وكان حظه عظيماً فاقترن بابنة رئيس الجمهورية، وانفتحت أمامه أبواب ومجالات لم يكن ليحلم بها في أبهى المنام.
استغل ويلسون وضعه كصهر لرئيس الجمهورية أبشع استغلال. فما من التزام في الدولة إلا وله فيه حصة، وما من مشروع عام يمكن أن يمر ما لم يقبض عليه عمولة. وإلى ذلك، فقد أصبح نائباً عن منطقة "لوار". وحوّل الطابق السفلي في قصر الاليزيه إلى مكاتب خاصة له، يجتمع فيها مع زمرة من المحيطين به من رجال أعمال وسماسرة وسياسيين متملقين انتهازيين لترتيب الصفقات وحبك الدسائس ضد خصومه السياسيين.
كانت ولاية الرئيس غريفي ستنتهي في 30/ 1/ 1886 كما ذكرنا. وقبل انتهائها بمدة شهر، التأمت "الجمعية الوطنية" وأعادت انتخابه، بأكثرية محترمة، لولاية ثانية تنتهي في 30/1/1893.
ازدهرت "أعمال" ويلسون وأصبح له نفوذ سياسي كبير، إلى أن انفجرت في تشرين الأول 1887 فضيحة لم تعرف فرنسا مثلها من قَبل، هي فضيحة "بيع الأوسمة". وتبين من التحقيق القضائي الذي أجراه قاضٍ نزيه، شجاع ومستقل، أن الصهر المدلل، ويلسون، هو بطلها وأنه باع عدداً كبيراً من الأوسمة، وعلى الأخص أوسمة "جوقة الشرف"، إلى ضباط كبار ورجال مال وأعمال بأسعار مرتفعة، مستغلاً ثقة عمه الرئيس به الذي كان يوقع على المراسيم والقرارات التي يعرضها عليه الصهر "العظيم" من دون تدقيق.
أثارت تلك الفضيحة ضجة كبرى في الأوساط السياسية والشعبية واحتلت عناوين الصحف، لا بسبب فداحتها ولأنها تطال رؤوساً مدنية وعسكرية كبيرة فحسب، بل لأن ويلسون كان قد أصبح رمز الفساد في البلاد ومكروهاً من جميع السياسيين نظراً لأسلوبه الاستعلائي الاستفزازي في التعاطي معهم وغطرسته ورعونته ككل حديث نعمة وجاه.
طلب النواب إلى الرئيس غريفي أن يقدم استقالته من منصبه فوراً، فرفض بحزم منتفضاً لكرامته، وحجته أن لا علاقة له بما قام به صهره. لكن النواب حمّلوه مسؤولية تقصيرية ومسؤولية معنوية عما جرى. فلولا صلة القربى بينه وبين ويلسون لما كان هذا الأخير قد تجاسر على القيام بما قام به. وعندما ظل الرئيس مصراً على عدم الاستقالة هدده النواب بأنهم لن يتعاونوا معه ولن يمنحوا الثقة لأي حكومة يؤلفها، فاضطر إلى تقديم استقالته في 2 كانون الأول 1887. وانزوى في منزله إلى أن وافته المنية في 9 أيلول 1891. وهكذا ذهب الرئيس غريفي ضحية صهره "الشهم". بل، على الأصح، ضحية ضعفه تجاه صهرٍ فاسدٍ وتقديمه مصلحة العائلة على مصلحة الوطن.
نشرت الصحف يومها الكثير من المقالات اللاذعة عن فضيحة "بيع الأوسمة" ودُبّجت القصائد التهكمية من وحيها، وراحت الناس تردد في مجالسها الخاصة: "إنها لمصيبة أن يكون للرئيس صهر". ويبدو أن هذا القول المأثور يصح في كل زمان ومكان.
على أثر استقالة أول رئيس للجمهورية الثالثة الفرنسية، وهو المارشال باتريس دو ماك- ماهون في 30/1/1879، التأمت "الجمعية الوطنية" (المؤلفة من مجلسَي الشيوخ والنواب) في اليوم ذاته وانتخبت رئيس مجلس النواب جول غريفي (Jules Grévy)، من الدورة الأولى، رئيساً للجمهورية لمدة سبع سنوات تنتهي في 30/1/ 1886.
كان جول غريفي (1807-1891) سياسياً مخضرماً محنكاً، ومحامياً لامعاً انتخب نقيباً لمحامي باريس في عام 1868.
أما على الصعيد الشخصي، فكان يعيش حياة عائلية هادئة بسيطة تلامس التقشف والتقتير، واستمر على النمط ذاته بعد انتخابه رئيساً للجمهورية حتى قيل عنه على سبيل التهكم: إن الرئيس غريفي يتقاضى تعويض انتقال ويكاد لا يغادر قصر الاليزيه، ويتقاضى مخصصات ضيافة وتشريفات ولا يدعو أحداً إلى مائدته!
إلا أن نقطة ضعف الرئيس غريفي كانت ابنته الوحيدة أليس التي كان مولعاً بها جداً ومستعداً لأن يضحي بكل شيء في سبيل إرضائها. وشاء القدر أن تتزوج، في العام 1881، من تاجر يدعى دانيال ويلسون.
بدأ دانيال ويلسون، وهو من أصل ايرلندي، حياته العملية في ممارسة التجارة وتمكّن من جمع ثروة لا بأس بها، فاتجه إلى العمل السياسي إلى جانب التجارة. وكان حظه عظيماً فاقترن بابنة رئيس الجمهورية، وانفتحت أمامه أبواب ومجالات لم يكن ليحلم بها في أبهى المنام.
استغل ويلسون وضعه كصهر لرئيس الجمهورية أبشع استغلال. فما من التزام في الدولة إلا وله فيه حصة، وما من مشروع عام يمكن أن يمر ما لم يقبض عليه عمولة. وإلى ذلك، فقد أصبح نائباً عن منطقة "لوار". وحوّل الطابق السفلي في قصر الاليزيه إلى مكاتب خاصة له، يجتمع فيها مع زمرة من المحيطين به من رجال أعمال وسماسرة وسياسيين متملقين انتهازيين لترتيب الصفقات وحبك الدسائس ضد خصومه السياسيين.
كانت ولاية الرئيس غريفي ستنتهي في 30/ 1/ 1886 كما ذكرنا. وقبل انتهائها بمدة شهر، التأمت "الجمعية الوطنية" وأعادت انتخابه، بأكثرية محترمة، لولاية ثانية تنتهي في 30/1/1893.
ازدهرت "أعمال" ويلسون وأصبح له نفوذ سياسي كبير، إلى أن انفجرت في تشرين الأول 1887 فضيحة لم تعرف فرنسا مثلها من قَبل، هي فضيحة "بيع الأوسمة". وتبين من التحقيق القضائي الذي أجراه قاضٍ نزيه، شجاع ومستقل، أن الصهر المدلل، ويلسون، هو بطلها وأنه باع عدداً كبيراً من الأوسمة، وعلى الأخص أوسمة "جوقة الشرف"، إلى ضباط كبار ورجال مال وأعمال بأسعار مرتفعة، مستغلاً ثقة عمه الرئيس به الذي كان يوقع على المراسيم والقرارات التي يعرضها عليه الصهر "العظيم" من دون تدقيق.
أثارت تلك الفضيحة ضجة كبرى في الأوساط السياسية والشعبية واحتلت عناوين الصحف، لا بسبب فداحتها ولأنها تطال رؤوساً مدنية وعسكرية كبيرة فحسب، بل لأن ويلسون كان قد أصبح رمز الفساد في البلاد ومكروهاً من جميع السياسيين نظراً لأسلوبه الاستعلائي الاستفزازي في التعاطي معهم وغطرسته ورعونته ككل حديث نعمة وجاه.
طلب النواب إلى الرئيس غريفي أن يقدم استقالته من منصبه فوراً، فرفض بحزم منتفضاً لكرامته، وحجته أن لا علاقة له بما قام به صهره. لكن النواب حمّلوه مسؤولية تقصيرية ومسؤولية معنوية عما جرى. فلولا صلة القربى بينه وبين ويلسون لما كان هذا الأخير قد تجاسر على القيام بما قام به. وعندما ظل الرئيس مصراً على عدم الاستقالة هدده النواب بأنهم لن يتعاونوا معه ولن يمنحوا الثقة لأي حكومة يؤلفها، فاضطر إلى تقديم استقالته في 2 كانون الأول 1887. وانزوى في منزله إلى أن وافته المنية في 9 أيلول 1891. وهكذا ذهب الرئيس غريفي ضحية صهره "الشهم". بل، على الأصح، ضحية ضعفه تجاه صهرٍ فاسدٍ وتقديمه مصلحة العائلة على مصلحة الوطن.
نشرت الصحف يومها الكثير من المقالات اللاذعة عن فضيحة "بيع الأوسمة" ودُبّجت القصائد التهكمية من وحيها، وراحت الناس تردد في مجالسها الخاصة: "إنها لمصيبة أن يكون للرئيس صهر". ويبدو أن هذا القول المأثور يصح في كل زمان ومكان.
وليد عبلا - النهار 11 تشرين الثاني 2020
إرسال تعليق