أن يقفل ملف حادثة قبرشمون باجتماع مصالحة ومصارحة، على طريقة لفلفة الأحداث التقليدية، لا يعني أن ما حصل انتهى فعلياً. الكثير من تداعياته يمكن أن تبقي الجمر تحت الرماد، في انتظار المصالحة بين جنبلاط وحزب الله، واستمرار المواجهة بين زعيم المختارة والوزير جبران باسيل.
ويُسجّل للرئيس سعد الحريري، هذه المرة، أنه لم يتراجع عن تعهداته تحت ضغط العهد وباسيل. قد تكون من المرات النادرة التي يتمسك فيها بدعم حلفائه، مستمداً ثباته من موقف الرئيس نبيه بري. فالأخير وقف الى جانب جنبلاط، وتمكّن من فرض إيقاعه في الحل. وزكّت علاقته المقطوعة مع النائب طلال أرسلان، منذ الانتخابات النيابية، خريطة طريقه نحو الحل التي أسفرت - بتقاطع مع جهود المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم - عن إنتاج لقاء بعبدا. ورغم أن جهود إبراهيم كانت بإيعاز من رئيس الجمهورية ميشال عون، إلا أن الأخير - أو بعضاً من فريقه - غامر كثيراً حين ذهب في أكثر من رسالة علنية الى التلويح بما هو «أفظع» نحو جنبلاط. منذ الحادثة، ومواقف بعبدا تتأرجح، من طرح المجلس العدلي الى التراجع عنه وإعطاء إشارات إيجابية لحل عبر المحكمة العسكرية، ومن ثم رفع مستوى الحادثة من محاولة اغتيال الوزير صالح الغريب الى محاولة اغتيال الوزير باسيل.
ما بين عقد الاجتماع واستعداد عون للتوجه الى القصر الرئاسي الصيفي، وهو ما لم يكن ممكناً لولا ترطيب الأجواء بينه وبين جنبلاط، يمكن الخروج ببعض الإشارات حول موقع جنبلاط في المعادلة الإقليمية والدولية.
حصول الحادثة في ظل زعامة وليد جنبلاط، جنّب البلد كارثة حقيقية، لأنه لا يزال ممسكاً بشارعه وبمناصريه وبطائفته، وركناً أساسياً في تركيبة البلد قبل الحديث عن موقعه الإقليمي والدولي. من هنا يمكن التساؤل بجدية: لو كان خليفته تيمور جنبلاط وحده في هذه المعمعة، من دون قدرة والده على تحريك الشارع أو ضبطه بلحظة، هل كان الجبل ليسلم من حرب مفتوحة؟
وهنا النقطة الثانية. بإمكان التيار الوطني الحر أن يقارع جنبلاط في عقر داره، وبإمكان عون وباسيل أن يقفزا فوقه في سياسة تطبيق الطائف ويحمّلانه (وبرّي) مسؤولية سوء تطبيقه، ويحرمانه من تعيينات إدارية. لكن كل ذلك يُصرف محلياً فقط. موقع جنبلاط، المتداخل مع موقع الطائفة الدرزية في التركيبة المحلية والإقليمية، وامتداد الوجود الدرزي في سوريا وفلسطين، أظهر مرة أخرى أنه لا يزال له وزنه. وبصرف النظر عن تأثير الرسالة الدبلوماسية الأميركية وتحرك الاتحاد الأوروبي، وتواصل معظم الدبلوماسيات الغربية مع جنبلاط في إخراج التسوية، لمنع انفلات الوضع الداخلي، إلا أن ذلك عنى في مكان ما بقاء موقع جنبلاط المؤثر في معادلة متداخلة الأطراف. إذا كان التحرك الدولي تجاهه يشبه الذي حصل على مستوى مختلف، مع استقالة الحريري من الرياض، إلا أن ذلك عكس دور الطائفة الدرزية وقياداتها في العلاقات التي نسجتها إقليمياً مع السعودية ودولياً مع واشنطن وموسكو والعواصم المؤثرة أوروبياً. ورغم أن تأثير ذلك لن يترجم حكماً في التفاصيل اليومية والعلاقة مع العهد وحزب الله، إلا أنها في الصورة العامة شكلت حماية لموقعه.
يترك ذلك انطباعاً يتعدى اصطفاف القوى بين 8 و14 آذار، أو انحياز الأطراف الغربيين الى جنبلاط بوصفه من 14 آذار، ليطرح معادلة الطوائف الأخرى وارتباطاتها الإقليمية والدولية. وهذا ليس جديداً، بل عمره من عمر لبنان الكبير وما قبله. لكنه اليوم يبرّر التساؤل عن الدور المسيحي الحالي خارج الحدود. فما حصل من تحرك مع جنبلاط، قد لا يتكرر مع أي من الزعامات المسيحية. وبصرف النظر عن الزيارات الدبلوماسية التقليدية، فإن هذه القيادات فقدت دورها الخارجي وموقعها المؤثر. وهو أمر لم تشهد له مثيلاً حتى في عز الحرب وتسليم الأطراف الغربيين لسوريا في مرحلة ما بعد الطائف. إذ بقيت الكنيسة المارونية عنوان هذا الحضور والتواصل، فيما هي اليوم غائبة كلياً. ووقوف الدول الغربية الى جانب 14 آذار، لم يكن موجهاً للمسيحيين الذين أيضاً فرّقتهم مرحلة السلم، ولم تجمعهم قيادة واحدة قادرة على فرض موقع خارجي لها. وعدا عن العلاقة التي نسجتها القوات اللبنانية وشخصيات من 14 آذار السابقة مع السعودية، فإن الحضور المسيحي المعارض لسوريا وإيران، ينحسر تماماً على مستوى العلاقات الدولية والإقليمية. في المقابل، فإن وصول عون الى رئاسة الجمهورية وحركة باسيل الخارجية عززا انحياز هذا الفريق المسيحي نحو سوريا وإيران (وموسكو أخيراً)، في مقابل عزل واضح من واشنطن له. وغطاء باريس وبعض الدول الحليفة لـ«سيدر» واستكشاف الغاز، لا يصبّ على الإطلاق في خانة تعزيز العلاقة مع العهد أو التيار بوصفه فريقاً مسيحياً. وهذا كله يطرح إشكالية حادثة قبرشمون، إذ إنها كشفت حجم عمق الاصطفافات الطائفية ومعها استمرار رعاية الدول الخارجية للطوائف المؤثرة.
هيام القصيفي - الاخبار - 14 اب 2019
ويُسجّل للرئيس سعد الحريري، هذه المرة، أنه لم يتراجع عن تعهداته تحت ضغط العهد وباسيل. قد تكون من المرات النادرة التي يتمسك فيها بدعم حلفائه، مستمداً ثباته من موقف الرئيس نبيه بري. فالأخير وقف الى جانب جنبلاط، وتمكّن من فرض إيقاعه في الحل. وزكّت علاقته المقطوعة مع النائب طلال أرسلان، منذ الانتخابات النيابية، خريطة طريقه نحو الحل التي أسفرت - بتقاطع مع جهود المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم - عن إنتاج لقاء بعبدا. ورغم أن جهود إبراهيم كانت بإيعاز من رئيس الجمهورية ميشال عون، إلا أن الأخير - أو بعضاً من فريقه - غامر كثيراً حين ذهب في أكثر من رسالة علنية الى التلويح بما هو «أفظع» نحو جنبلاط. منذ الحادثة، ومواقف بعبدا تتأرجح، من طرح المجلس العدلي الى التراجع عنه وإعطاء إشارات إيجابية لحل عبر المحكمة العسكرية، ومن ثم رفع مستوى الحادثة من محاولة اغتيال الوزير صالح الغريب الى محاولة اغتيال الوزير باسيل.
ما بين عقد الاجتماع واستعداد عون للتوجه الى القصر الرئاسي الصيفي، وهو ما لم يكن ممكناً لولا ترطيب الأجواء بينه وبين جنبلاط، يمكن الخروج ببعض الإشارات حول موقع جنبلاط في المعادلة الإقليمية والدولية.
حصول الحادثة في ظل زعامة وليد جنبلاط، جنّب البلد كارثة حقيقية، لأنه لا يزال ممسكاً بشارعه وبمناصريه وبطائفته، وركناً أساسياً في تركيبة البلد قبل الحديث عن موقعه الإقليمي والدولي. من هنا يمكن التساؤل بجدية: لو كان خليفته تيمور جنبلاط وحده في هذه المعمعة، من دون قدرة والده على تحريك الشارع أو ضبطه بلحظة، هل كان الجبل ليسلم من حرب مفتوحة؟
وهنا النقطة الثانية. بإمكان التيار الوطني الحر أن يقارع جنبلاط في عقر داره، وبإمكان عون وباسيل أن يقفزا فوقه في سياسة تطبيق الطائف ويحمّلانه (وبرّي) مسؤولية سوء تطبيقه، ويحرمانه من تعيينات إدارية. لكن كل ذلك يُصرف محلياً فقط. موقع جنبلاط، المتداخل مع موقع الطائفة الدرزية في التركيبة المحلية والإقليمية، وامتداد الوجود الدرزي في سوريا وفلسطين، أظهر مرة أخرى أنه لا يزال له وزنه. وبصرف النظر عن تأثير الرسالة الدبلوماسية الأميركية وتحرك الاتحاد الأوروبي، وتواصل معظم الدبلوماسيات الغربية مع جنبلاط في إخراج التسوية، لمنع انفلات الوضع الداخلي، إلا أن ذلك عنى في مكان ما بقاء موقع جنبلاط المؤثر في معادلة متداخلة الأطراف. إذا كان التحرك الدولي تجاهه يشبه الذي حصل على مستوى مختلف، مع استقالة الحريري من الرياض، إلا أن ذلك عكس دور الطائفة الدرزية وقياداتها في العلاقات التي نسجتها إقليمياً مع السعودية ودولياً مع واشنطن وموسكو والعواصم المؤثرة أوروبياً. ورغم أن تأثير ذلك لن يترجم حكماً في التفاصيل اليومية والعلاقة مع العهد وحزب الله، إلا أنها في الصورة العامة شكلت حماية لموقعه.
يترك ذلك انطباعاً يتعدى اصطفاف القوى بين 8 و14 آذار، أو انحياز الأطراف الغربيين الى جنبلاط بوصفه من 14 آذار، ليطرح معادلة الطوائف الأخرى وارتباطاتها الإقليمية والدولية. وهذا ليس جديداً، بل عمره من عمر لبنان الكبير وما قبله. لكنه اليوم يبرّر التساؤل عن الدور المسيحي الحالي خارج الحدود. فما حصل من تحرك مع جنبلاط، قد لا يتكرر مع أي من الزعامات المسيحية. وبصرف النظر عن الزيارات الدبلوماسية التقليدية، فإن هذه القيادات فقدت دورها الخارجي وموقعها المؤثر. وهو أمر لم تشهد له مثيلاً حتى في عز الحرب وتسليم الأطراف الغربيين لسوريا في مرحلة ما بعد الطائف. إذ بقيت الكنيسة المارونية عنوان هذا الحضور والتواصل، فيما هي اليوم غائبة كلياً. ووقوف الدول الغربية الى جانب 14 آذار، لم يكن موجهاً للمسيحيين الذين أيضاً فرّقتهم مرحلة السلم، ولم تجمعهم قيادة واحدة قادرة على فرض موقع خارجي لها. وعدا عن العلاقة التي نسجتها القوات اللبنانية وشخصيات من 14 آذار السابقة مع السعودية، فإن الحضور المسيحي المعارض لسوريا وإيران، ينحسر تماماً على مستوى العلاقات الدولية والإقليمية. في المقابل، فإن وصول عون الى رئاسة الجمهورية وحركة باسيل الخارجية عززا انحياز هذا الفريق المسيحي نحو سوريا وإيران (وموسكو أخيراً)، في مقابل عزل واضح من واشنطن له. وغطاء باريس وبعض الدول الحليفة لـ«سيدر» واستكشاف الغاز، لا يصبّ على الإطلاق في خانة تعزيز العلاقة مع العهد أو التيار بوصفه فريقاً مسيحياً. وهذا كله يطرح إشكالية حادثة قبرشمون، إذ إنها كشفت حجم عمق الاصطفافات الطائفية ومعها استمرار رعاية الدول الخارجية للطوائف المؤثرة.
هيام القصيفي - الاخبار - 14 اب 2019
إرسال تعليق