أدّت مصالحة بعبدا برعاية رئيس الجمّهورية ميشال عون إلى الإتفاق بين القوى السياسية على ورشة عمل إقتصادية ـ مالية تُنقذ لبنان من آتون الإفلاس المُنتظر وما له من تداعيات كارثية على المواطن. هذا القرار تمّ تجسيده في قرارات إجتماع بعبدا الإقتصادي ـ المالي الذي جمع ثلاث قوى رئيسية في البلاد وحظي بدعم باقي القوى الأخرى.
رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، وبعد إجتماع بعبدا الإقتصادي المالي صرّح أن المجتمعين وصفوا بشكل دقيق الأوضاع المالية والإقتصادية الحالية، وقاموا بطرح حلول لها. وأعلن عن جّملة من الخطوات الأساسية التي سيُعمل على تطبيقها في المرحلة المُقبلة والتي تُساهم في تفعيل الإقتصاد وتعزيز وضع المالية العامّة والمباشرة بمناقشة تقرير ماكينزي والملاحظات المُقدّمة عليه من الأطراف كافة. كما عدّد الرئيس الحريري أهم الخطوات التي تمّ الاتفاق عليها.
إذًا ومما تقدّم، نرى أن هناك ثلاث خطط ستقوم الحكومة بتنفيذها: خطّة ماكينزي، مشاريع سيدر ومُقرّرات اجتماع بعبدا المالي والإقتصادي. التحليل يُظهر أن مشاريع سيدر وخطّة ماكينزي لنُ تعطي نتائج مباشرة أو ملموسة قبل العام 2021، والسبب يعود بالدرجة الأولى إلى أن القرارات فيما يخصّ مشاريع سيدر لا تعود إلى الحكومة اللبنانية وحدها. وبحسب مؤتمر سيدر، تقوم الحكومة اللبنانية بتقديم المشاريع مع الجدوى الإقتصادية وفي المقابل وبعد الموافقة على التمويل، تقوم لجّنة مُشتركة بين لبنان والدول المُقرضة بالإشراف ومتابعة تنفيذ المشاريع. إذا أولوية المشاريع وتقييمها تقوم بهما الحكومة والموافقة على التمويل يتمّ من قبل ممثلي الدوّل المُقرضة والإشراف على التنفيذ يتمّ من قبل اللجنة المُشتركة. هذه الآلية تتطلّب وقتًا وبالتالي فإن البدء بالمشاريع سيتطّلب بعض الوقت على ألا يتمّ لحظ تداعيات إيجابية على الأرض إلا بدءًا من العام 2021. وهناك خوف من صرف اموال سيدر ـ1 على المشاريع والتحايل على الرقابة الدولية.
على صعيد خطّة ماكينزي، فهي ستخضع لمناقشات في مجلس الوزراء على أن يتمّ إقرار الخطوات المُتفق عليها وجدّولتها في خطّة زمنية تبقى رهينة إيجاد التمّويل لها وتتعلّق بنسبة كبيرة بمسار مشاريع سيدر. لذا لن يتمّ لحظ تداعيات إيجابية لهذه الخطّة إلا إبتداءً من العام 2021 نظرا إلى البعد الإقتصادي العميق لبعض الإجراءات المُقترحة. وحدها إجراءات إجتماع بعبدا المالي والإقتصادي، لها مفعول فوري مع بدء تطبيق هذه الإجراءات التي يُمكن وصفها بالإجراءات الإنقاذية.
في الظاهر، هذه القرارات هي قرارات سديدة وتذهب في الإتجاه الصحيح، وبفرضية أنها لن تواجه أي إشكالية سياسية أو أمنية مثل حادثة قبرشمون الأليمة تُعطّل عمل الحكومة وبالتالي تطبيق هذه القرارات، يحقّ للمراقب السؤال عن مدى فعّالية هذه القرارات على الصعيد الإقتصادي، المالي، الإجتماعي، والبيئي كما وقدّرتها على إنتشال لبنان من المأزق؟
بين الإنماء والنموّ الإقتصادي ماذا يقول العلم؟
قبل سبعينيات القرّن الماضي، كانت السياسات الإقتصادية ترتكز على ما يُسمّى اليوم بالتدابير الإقتصادية التقليدية أي أنها تدابير لها علاقة بالإقتصاد بشكل حصري. وكان أصحاب القرار ينظرون الى التنّمية على أنها ظاهرة إقتصادية حيث كان يُنظر إلى الفقر، توزيع الدخلّ، البطالة.. على أنها مشاكل ثانوية! وهذا ما يُمكن ملاحظته من البيانات التاريخية التي تُظهر أنه في خمسينات وستينات من القرن الماضي، كان هناك ركود لمستويات المعيشة على الرغم من النموّ الإقتصادي المُحقّق. وحتى يومنا هذا يُمكن ملاحظّة أن هناك فارقاً فعلياً بين النمو والتنّمية من خلال الإطّلاع على بلد كنيجيريا الذي يمّتلك موارد هائلة ويُسجّل نموا إقتصاديا، وفي المقابل هناك فقر كبير وبطالة مرتفعة ناهيك عن صعوبة الوصول إلى الطبابة والإستشفاء والتعلّم...
هذا الواقع دفع واضعوا السياسات الإقتصادية في الدوّل المُتطوّرة إلى إعتماد مفهوم جديد إسمه "الإقتصاد للتنّمية" حيث يُنظر إلى التنّمية على أنها عملية متعددة الأبعاد تنطوي على تغييرات في البنية الاجتماعية والمواقف الشعبية والغرائز الوطنية، إلى جانب تسارع النمو الاقتصادي، والحد من عدم المساواة، والقضاء على الفقر... وهذا المفهوم يتعارض مع النظرة التقليدية التي تنظرّ حصريًا إلى الدخلّ الفردي لقياس مستوى التنّمية في البلدان من دون الأخذ بعين الإعتبار توزيع الثروات!
تعتمد التنّمية المُستدامة على ثلاث ركائز أساسية:
أولاً ـ الركيزة الاقتصادية وهي الطرق المختلفة التي يمكن أن تتدخل بها الدولة للتأثير على الوضع الإقتصادي، ولا سيما فيما يتعلق بتطور الإنتاج ومستوى الأسعار. ويراها بعض الباحثين على أنها مجموعة من القرارات المتماسكة التي تتخذها السلطات العامة وتهدف، بمساعدة أدوات مختلفة، إلى تحقيق الأهداف من أجل توجيه الاقتصاد في الاتجاه المطلوب؛
ثانيًا ـ الركيزة البيئية والتي تنصّ على إحترام التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية، والحد من الإنبعاثات الملوثة، وعدم تدمير رأس المال الطبيعي؛
ثالثًا ـ الركيزة الإجتماعية وهي تأخذ بعين الإعتبار الآثار الإجتماعية للنشاط الإقتصادي مثل مشكلة عدم المساواة، ظروف العمل، توزيع الثروات...
السياسة الإقتصادية ماكينزي، سيدر وإجتماع بعبدا
يطرح العديد من المواطنين السؤال عن الفارق بين ماكينزي، مشاريع سيدر ومقررات اجتماع بعبدا الإقتصادي ـ المالي؟ والأهم أين تموضّع هذه الخطط والمشاريع من الخطة الإقتصادية للحكومة اللبنانية بمفهومها الحديث أي التنّمية المُستدامة؟
في العام 2015، أصدرت الأمم المُتحدة خطّة التنمية المُستدامة لعام 2030 والتي تضمّ 17 هدفًا (SDGs) تُشكّل دعوة لجميع البلدان الفقيرة والغنية والمتوسطة الدخل للعمل على تعزيز الإزدهار مع الأخذ بالإعتبار حماية كوكب الأرض والقضاء على الفقر جنباً إلى جنب مع الإستراتيجيات التي تبني النمو الاقتصادي كما وتتناول مجموعة من الإحتياجات الإجتماعية بما في ذلك التعليم والصحة والحماية الإجتماعية وفرص العمل مع معالجة تغير المناخ وحماية البيئة. وبالتالي نرى أن أي خطّة إقتصادية يجب أن تحوي إجراءات تُغطّي الشق الإقتصادي، الشق الإجتماعي والشقّ البيئي عملا بالخبرة والتجّربة الطويلة للأمم المُتحدة. وتحوي الأهداف السبعة عشر القضاء على الفقر بجميع أشكاله في كل مكان، القضاء على الجوع وتوفير الأمن الغذائي والتغذية المحسّنة وتعزيز الزراعة المستدامة، ضمان تمتّع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار، ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع، تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء والفتيات، ضمان توافر المياه وخدمات الصرف الصحي للجميع، ضمان حصول الجميع بتكلفة ميسورة على خدمات الطاقة الحديثة الموثوقة والمستدامة، تعزيز النمو الاقتصادي المطرد والشامل للجميع والمستدام والعمالة الكاملة والمنتجة وتوفير العمل اللائق للجميع، إقامة بنى تحتية قادرة على الصمود وتحفيز التصنيع الشامل للجميع والمستدام وتشجيع الابتكار، الحد من انعدام المساواة داخل البلدان وفيما بينها، جعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود ومستدامة، ضمان وجود أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة، اتخاذ إجراءات عاجلة للتصدي لتغير المناخ وآثاره، حفظ المحيطات والبحار والموارد البحرية واستخدامها على نحو مستدام لتحقيق التنمية المستدامة، حماية النظم الإيكولوجية البرية وترميمها وتعزيز استخدامها على نحو مستدام وإدارة الغابات على نحو مستدام ومكافحة التصحر ووقف تدهور الأراضي وعكس مساره ووقف فقدان التنوع البيولوجي، السلام والعدل والمؤسسات، وتعزيز وسائل التنفيذ وتنشيط الشراكة العالمية من أجل التنمية المستدامة.
ينص نموذج الـ"iSDG" على أن هناك ثلاثين قطاعا يتوزّعون على ركائز ثلاث: الإجتماعية (الشعب، الخصوبة، الوفيات، التعليم، الصحة، البنية التحتية، المركبات، التوظيف، توزيع الدخل، الفقر)، الإقتصادية (الزراعة، الصناعة، الخدمات، الإنتاج الكلي، الاستثمارات، الأسر، الحكومة، الحوكمة، المالية، ميزان المدفوعات)، البيئية (الأرض، التربة، الطلب على المياه، إمدادات المياه، استهلاك الطاقة، توليد الكهرباء، امدادات الطاقة، استهلاك المواد، الانبعاثات والنفايات، التنوع البيولوجي).
خطّة ماكينزي الموضوعة، وصفت بشكل دقيق الواقع الإقتصادي اللبناني من كافة نواحيه وعرضت على الدوّلة اللبنانية خطوات تطال خمّس قطاعات إقتصادية سمّتها "قطاعات واعدة" وهي: الزراعة، الصناعة، السياحة، الخدمات المالية، إقتصاد المعرفة. وأشارت إلى دور المُنتشرين في العالم كما أعطت عوامل تمّكين مُساعدة مثل البنى التحتية (زيادة قدرة المطار الاستيعابية، تنفيذ استراتيجية وزارة الاتصالات المتعلقة بالألياف الضوئية، إصلاح البنية التحتية المحلية، تسهيل الوصول من/إلى الوجهات الرئيسية لتفعيل نموذج "المراكز الأولية والثانوية"، إعطاء الأولوية لتمويل المناطق الصناعية الحالية) ونشر الإصلاحات الجذرية في القطاع العام، إعتماد قواعد مالية جديدة ومراجعة القواعد القائمة حاليًا، وتطوير إنتاجية البرلمان.
في الواقع، دراسة هذه الإقتراحات (الأساسية) تُشير إلى أن ماكينزي إعتمدت سياسة المُربّع السحري (نيكولاس كالدور - 1971) والذي هو عبارة عن رسم بياني يُظّهر النمو الإقتصادي (تحفيز تطوير الإنتاج والدخل القومي)، العمالة الكاملة (خفض في البطالة)، إستقرار الأسعار (للحد من تطور التضخم) والتوازن الخارجي (مسألة موازنة تدفق السلع والخدمات والدخل ورأس المال مع بقية العالم). بمعّنى أخر، إقترحت ماكينزي في خطّتها إجراءات لزيادة حصّة القطاعين الصناعي والزراعي في الناتج المحلّي الإجّمالي وزيادة هذا الأخير بالمطّلق. وبالتالي يُمكن الإستنتاج أن خطّة ماكينزي هي عبارة عن قسم أساسي من الشق الإقتصادي من الخطّة الإقتصادية التي يجب أن تعتمدها الحكومة اللبنانية.
مشاريع سيدر المنصوص عليها في الورقة التي قدّمتها الحكومة اللبنانية خلال مؤتمر سيدر (Capital Investment Programme)، هي عبارة عن مشاريع بنى تحتية أساسية تطال الشق الإقتصادي ولكن أيضًا الشق الإجتماعي. وبالتالي فإن تنفيذ هذه المشاريع هو أمر أساسي وضروري ويُعتبر كشرّط لأي نهوض إقتصادي وإجتماعي. ويُمكن القوّل إن هذه المشاريع هي شق من الخطّة الإقتصادية التي يتوجّب على الحكومة وضعها.
إجتماع بعبدا المالي الإقتصادي، نصّ على مجموعة من الإجراءات (أنظر أعلاه) التي تُغطّي قسم من الشق الإقتصادي وقطاع الكهرباء من الشقّ البيئي. ولكن الأهمّ وهو ما يُعطي لمقرّرات إجتماع بعبدا قيمة كبيرة هو شق العمل على الحكومة والحوكمة (أي بمعنى أخر محاربة الفساد وتنظيم وتفعيل القطاع العام) وهذا الأمر سيكون له وقع كبير على الحياة الإقتصادية، الإجتماعية، والبيئية إذا ما تمّ تنفيذه.
على كلٍ وكما يظهر من تحليلنا، خطّة ماكينزي ومشاريع سيدر وقرارات إجتماع بعبدا هي خطوات أساسية في الخطّة الإقتصادية التي يجب على الحكومة وضعها وما وجود كل هذه الخطط والخطوات إلا دليل على أنها لا تُغطّي كل ما يحتاجه لبنان.
مخاطر التعطيل
مما سبق، يُمكن القول إن خيار القوى السياسية بمُعالجة الوضع الإقتصادي هو خيار صائب (ولو مُتأخر)، وبالتالي فإن المواطن اللبناني يتوقّع أن تقوم الحكومة بالإلتئام مرتين أو أكثرّ أسبوعيًا على غرار لجّنة المال والموازنة، لوضع خطّة إقتصادية شاملة ومُتكاملة تأخذ بعين الإعتبار الشق الإجتماعي خصوصًا الفقر وتوزيع الثروات كما والشقّ البيئي الذي يُمكن القوّل إنه أصبح أكثر من كارثي مع كل التلوّث البيئي الذي يُحيط بنا والذي أصبّحت كلفته على الإقتصاد تفوق الـ 1.4 مليار دولار أميركي سنويا.
وفي ظلّ أهمّية الذهاب في هذا الإتجاه، نرى أن هناك مخاطر سياسية تحّف بالحكومة وبعملها وإنتاجيتها خصوصًا أن تداعيات حادثة قبرشمون لم تنته كليا كما تُثبته التصريحات التي نسمعها في وسائل الإعلام. وفي ظلّ بدء نفاذ هامش التحرّك الذي تمتلكه الدوّلة اللبنانية والذي قدّمه لها مصرف لبنان، نرى أن أي تعطيل لعمل الحكومة سيجّلب الكوارث على المواطن وعلى الكيان اللبناني.
رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، وبعد إجتماع بعبدا الإقتصادي المالي صرّح أن المجتمعين وصفوا بشكل دقيق الأوضاع المالية والإقتصادية الحالية، وقاموا بطرح حلول لها. وأعلن عن جّملة من الخطوات الأساسية التي سيُعمل على تطبيقها في المرحلة المُقبلة والتي تُساهم في تفعيل الإقتصاد وتعزيز وضع المالية العامّة والمباشرة بمناقشة تقرير ماكينزي والملاحظات المُقدّمة عليه من الأطراف كافة. كما عدّد الرئيس الحريري أهم الخطوات التي تمّ الاتفاق عليها.
إذًا ومما تقدّم، نرى أن هناك ثلاث خطط ستقوم الحكومة بتنفيذها: خطّة ماكينزي، مشاريع سيدر ومُقرّرات اجتماع بعبدا المالي والإقتصادي. التحليل يُظهر أن مشاريع سيدر وخطّة ماكينزي لنُ تعطي نتائج مباشرة أو ملموسة قبل العام 2021، والسبب يعود بالدرجة الأولى إلى أن القرارات فيما يخصّ مشاريع سيدر لا تعود إلى الحكومة اللبنانية وحدها. وبحسب مؤتمر سيدر، تقوم الحكومة اللبنانية بتقديم المشاريع مع الجدوى الإقتصادية وفي المقابل وبعد الموافقة على التمويل، تقوم لجّنة مُشتركة بين لبنان والدول المُقرضة بالإشراف ومتابعة تنفيذ المشاريع. إذا أولوية المشاريع وتقييمها تقوم بهما الحكومة والموافقة على التمويل يتمّ من قبل ممثلي الدوّل المُقرضة والإشراف على التنفيذ يتمّ من قبل اللجنة المُشتركة. هذه الآلية تتطلّب وقتًا وبالتالي فإن البدء بالمشاريع سيتطّلب بعض الوقت على ألا يتمّ لحظ تداعيات إيجابية على الأرض إلا بدءًا من العام 2021. وهناك خوف من صرف اموال سيدر ـ1 على المشاريع والتحايل على الرقابة الدولية.
على صعيد خطّة ماكينزي، فهي ستخضع لمناقشات في مجلس الوزراء على أن يتمّ إقرار الخطوات المُتفق عليها وجدّولتها في خطّة زمنية تبقى رهينة إيجاد التمّويل لها وتتعلّق بنسبة كبيرة بمسار مشاريع سيدر. لذا لن يتمّ لحظ تداعيات إيجابية لهذه الخطّة إلا إبتداءً من العام 2021 نظرا إلى البعد الإقتصادي العميق لبعض الإجراءات المُقترحة. وحدها إجراءات إجتماع بعبدا المالي والإقتصادي، لها مفعول فوري مع بدء تطبيق هذه الإجراءات التي يُمكن وصفها بالإجراءات الإنقاذية.
في الظاهر، هذه القرارات هي قرارات سديدة وتذهب في الإتجاه الصحيح، وبفرضية أنها لن تواجه أي إشكالية سياسية أو أمنية مثل حادثة قبرشمون الأليمة تُعطّل عمل الحكومة وبالتالي تطبيق هذه القرارات، يحقّ للمراقب السؤال عن مدى فعّالية هذه القرارات على الصعيد الإقتصادي، المالي، الإجتماعي، والبيئي كما وقدّرتها على إنتشال لبنان من المأزق؟
بين الإنماء والنموّ الإقتصادي ماذا يقول العلم؟
قبل سبعينيات القرّن الماضي، كانت السياسات الإقتصادية ترتكز على ما يُسمّى اليوم بالتدابير الإقتصادية التقليدية أي أنها تدابير لها علاقة بالإقتصاد بشكل حصري. وكان أصحاب القرار ينظرون الى التنّمية على أنها ظاهرة إقتصادية حيث كان يُنظر إلى الفقر، توزيع الدخلّ، البطالة.. على أنها مشاكل ثانوية! وهذا ما يُمكن ملاحظته من البيانات التاريخية التي تُظهر أنه في خمسينات وستينات من القرن الماضي، كان هناك ركود لمستويات المعيشة على الرغم من النموّ الإقتصادي المُحقّق. وحتى يومنا هذا يُمكن ملاحظّة أن هناك فارقاً فعلياً بين النمو والتنّمية من خلال الإطّلاع على بلد كنيجيريا الذي يمّتلك موارد هائلة ويُسجّل نموا إقتصاديا، وفي المقابل هناك فقر كبير وبطالة مرتفعة ناهيك عن صعوبة الوصول إلى الطبابة والإستشفاء والتعلّم...
هذا الواقع دفع واضعوا السياسات الإقتصادية في الدوّل المُتطوّرة إلى إعتماد مفهوم جديد إسمه "الإقتصاد للتنّمية" حيث يُنظر إلى التنّمية على أنها عملية متعددة الأبعاد تنطوي على تغييرات في البنية الاجتماعية والمواقف الشعبية والغرائز الوطنية، إلى جانب تسارع النمو الاقتصادي، والحد من عدم المساواة، والقضاء على الفقر... وهذا المفهوم يتعارض مع النظرة التقليدية التي تنظرّ حصريًا إلى الدخلّ الفردي لقياس مستوى التنّمية في البلدان من دون الأخذ بعين الإعتبار توزيع الثروات!
تعتمد التنّمية المُستدامة على ثلاث ركائز أساسية:
أولاً ـ الركيزة الاقتصادية وهي الطرق المختلفة التي يمكن أن تتدخل بها الدولة للتأثير على الوضع الإقتصادي، ولا سيما فيما يتعلق بتطور الإنتاج ومستوى الأسعار. ويراها بعض الباحثين على أنها مجموعة من القرارات المتماسكة التي تتخذها السلطات العامة وتهدف، بمساعدة أدوات مختلفة، إلى تحقيق الأهداف من أجل توجيه الاقتصاد في الاتجاه المطلوب؛
ثانيًا ـ الركيزة البيئية والتي تنصّ على إحترام التنوع البيولوجي والنظم الإيكولوجية، والحد من الإنبعاثات الملوثة، وعدم تدمير رأس المال الطبيعي؛
ثالثًا ـ الركيزة الإجتماعية وهي تأخذ بعين الإعتبار الآثار الإجتماعية للنشاط الإقتصادي مثل مشكلة عدم المساواة، ظروف العمل، توزيع الثروات...
السياسة الإقتصادية ماكينزي، سيدر وإجتماع بعبدا
يطرح العديد من المواطنين السؤال عن الفارق بين ماكينزي، مشاريع سيدر ومقررات اجتماع بعبدا الإقتصادي ـ المالي؟ والأهم أين تموضّع هذه الخطط والمشاريع من الخطة الإقتصادية للحكومة اللبنانية بمفهومها الحديث أي التنّمية المُستدامة؟
في العام 2015، أصدرت الأمم المُتحدة خطّة التنمية المُستدامة لعام 2030 والتي تضمّ 17 هدفًا (SDGs) تُشكّل دعوة لجميع البلدان الفقيرة والغنية والمتوسطة الدخل للعمل على تعزيز الإزدهار مع الأخذ بالإعتبار حماية كوكب الأرض والقضاء على الفقر جنباً إلى جنب مع الإستراتيجيات التي تبني النمو الاقتصادي كما وتتناول مجموعة من الإحتياجات الإجتماعية بما في ذلك التعليم والصحة والحماية الإجتماعية وفرص العمل مع معالجة تغير المناخ وحماية البيئة. وبالتالي نرى أن أي خطّة إقتصادية يجب أن تحوي إجراءات تُغطّي الشق الإقتصادي، الشق الإجتماعي والشقّ البيئي عملا بالخبرة والتجّربة الطويلة للأمم المُتحدة. وتحوي الأهداف السبعة عشر القضاء على الفقر بجميع أشكاله في كل مكان، القضاء على الجوع وتوفير الأمن الغذائي والتغذية المحسّنة وتعزيز الزراعة المستدامة، ضمان تمتّع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار، ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع، تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين كل النساء والفتيات، ضمان توافر المياه وخدمات الصرف الصحي للجميع، ضمان حصول الجميع بتكلفة ميسورة على خدمات الطاقة الحديثة الموثوقة والمستدامة، تعزيز النمو الاقتصادي المطرد والشامل للجميع والمستدام والعمالة الكاملة والمنتجة وتوفير العمل اللائق للجميع، إقامة بنى تحتية قادرة على الصمود وتحفيز التصنيع الشامل للجميع والمستدام وتشجيع الابتكار، الحد من انعدام المساواة داخل البلدان وفيما بينها، جعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود ومستدامة، ضمان وجود أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة، اتخاذ إجراءات عاجلة للتصدي لتغير المناخ وآثاره، حفظ المحيطات والبحار والموارد البحرية واستخدامها على نحو مستدام لتحقيق التنمية المستدامة، حماية النظم الإيكولوجية البرية وترميمها وتعزيز استخدامها على نحو مستدام وإدارة الغابات على نحو مستدام ومكافحة التصحر ووقف تدهور الأراضي وعكس مساره ووقف فقدان التنوع البيولوجي، السلام والعدل والمؤسسات، وتعزيز وسائل التنفيذ وتنشيط الشراكة العالمية من أجل التنمية المستدامة.
ينص نموذج الـ"iSDG" على أن هناك ثلاثين قطاعا يتوزّعون على ركائز ثلاث: الإجتماعية (الشعب، الخصوبة، الوفيات، التعليم، الصحة، البنية التحتية، المركبات، التوظيف، توزيع الدخل، الفقر)، الإقتصادية (الزراعة، الصناعة، الخدمات، الإنتاج الكلي، الاستثمارات، الأسر، الحكومة، الحوكمة، المالية، ميزان المدفوعات)، البيئية (الأرض، التربة، الطلب على المياه، إمدادات المياه، استهلاك الطاقة، توليد الكهرباء، امدادات الطاقة، استهلاك المواد، الانبعاثات والنفايات، التنوع البيولوجي).
خطّة ماكينزي الموضوعة، وصفت بشكل دقيق الواقع الإقتصادي اللبناني من كافة نواحيه وعرضت على الدوّلة اللبنانية خطوات تطال خمّس قطاعات إقتصادية سمّتها "قطاعات واعدة" وهي: الزراعة، الصناعة، السياحة، الخدمات المالية، إقتصاد المعرفة. وأشارت إلى دور المُنتشرين في العالم كما أعطت عوامل تمّكين مُساعدة مثل البنى التحتية (زيادة قدرة المطار الاستيعابية، تنفيذ استراتيجية وزارة الاتصالات المتعلقة بالألياف الضوئية، إصلاح البنية التحتية المحلية، تسهيل الوصول من/إلى الوجهات الرئيسية لتفعيل نموذج "المراكز الأولية والثانوية"، إعطاء الأولوية لتمويل المناطق الصناعية الحالية) ونشر الإصلاحات الجذرية في القطاع العام، إعتماد قواعد مالية جديدة ومراجعة القواعد القائمة حاليًا، وتطوير إنتاجية البرلمان.
في الواقع، دراسة هذه الإقتراحات (الأساسية) تُشير إلى أن ماكينزي إعتمدت سياسة المُربّع السحري (نيكولاس كالدور - 1971) والذي هو عبارة عن رسم بياني يُظّهر النمو الإقتصادي (تحفيز تطوير الإنتاج والدخل القومي)، العمالة الكاملة (خفض في البطالة)، إستقرار الأسعار (للحد من تطور التضخم) والتوازن الخارجي (مسألة موازنة تدفق السلع والخدمات والدخل ورأس المال مع بقية العالم). بمعّنى أخر، إقترحت ماكينزي في خطّتها إجراءات لزيادة حصّة القطاعين الصناعي والزراعي في الناتج المحلّي الإجّمالي وزيادة هذا الأخير بالمطّلق. وبالتالي يُمكن الإستنتاج أن خطّة ماكينزي هي عبارة عن قسم أساسي من الشق الإقتصادي من الخطّة الإقتصادية التي يجب أن تعتمدها الحكومة اللبنانية.
مشاريع سيدر المنصوص عليها في الورقة التي قدّمتها الحكومة اللبنانية خلال مؤتمر سيدر (Capital Investment Programme)، هي عبارة عن مشاريع بنى تحتية أساسية تطال الشق الإقتصادي ولكن أيضًا الشق الإجتماعي. وبالتالي فإن تنفيذ هذه المشاريع هو أمر أساسي وضروري ويُعتبر كشرّط لأي نهوض إقتصادي وإجتماعي. ويُمكن القوّل إن هذه المشاريع هي شق من الخطّة الإقتصادية التي يتوجّب على الحكومة وضعها.
إجتماع بعبدا المالي الإقتصادي، نصّ على مجموعة من الإجراءات (أنظر أعلاه) التي تُغطّي قسم من الشق الإقتصادي وقطاع الكهرباء من الشقّ البيئي. ولكن الأهمّ وهو ما يُعطي لمقرّرات إجتماع بعبدا قيمة كبيرة هو شق العمل على الحكومة والحوكمة (أي بمعنى أخر محاربة الفساد وتنظيم وتفعيل القطاع العام) وهذا الأمر سيكون له وقع كبير على الحياة الإقتصادية، الإجتماعية، والبيئية إذا ما تمّ تنفيذه.
على كلٍ وكما يظهر من تحليلنا، خطّة ماكينزي ومشاريع سيدر وقرارات إجتماع بعبدا هي خطوات أساسية في الخطّة الإقتصادية التي يجب على الحكومة وضعها وما وجود كل هذه الخطط والخطوات إلا دليل على أنها لا تُغطّي كل ما يحتاجه لبنان.
مخاطر التعطيل
مما سبق، يُمكن القول إن خيار القوى السياسية بمُعالجة الوضع الإقتصادي هو خيار صائب (ولو مُتأخر)، وبالتالي فإن المواطن اللبناني يتوقّع أن تقوم الحكومة بالإلتئام مرتين أو أكثرّ أسبوعيًا على غرار لجّنة المال والموازنة، لوضع خطّة إقتصادية شاملة ومُتكاملة تأخذ بعين الإعتبار الشق الإجتماعي خصوصًا الفقر وتوزيع الثروات كما والشقّ البيئي الذي يُمكن القوّل إنه أصبح أكثر من كارثي مع كل التلوّث البيئي الذي يُحيط بنا والذي أصبّحت كلفته على الإقتصاد تفوق الـ 1.4 مليار دولار أميركي سنويا.
وفي ظلّ أهمّية الذهاب في هذا الإتجاه، نرى أن هناك مخاطر سياسية تحّف بالحكومة وبعملها وإنتاجيتها خصوصًا أن تداعيات حادثة قبرشمون لم تنته كليا كما تُثبته التصريحات التي نسمعها في وسائل الإعلام. وفي ظلّ بدء نفاذ هامش التحرّك الذي تمتلكه الدوّلة اللبنانية والذي قدّمه لها مصرف لبنان، نرى أن أي تعطيل لعمل الحكومة سيجّلب الكوارث على المواطن وعلى الكيان اللبناني.
الديار - 12 اب 2019
إرسال تعليق