نادرًا ما يسرد المؤرخون سير القادة الذين يمنعون نشوب الحروب في بلدانهم أو خارجها، في حين يسهبون في تأريخ أعمال أولئك الذين يخوضون الحروب عن حق أو باطل، وإن ربحوا حروبهم وأفادوا مجتمعاتهم أو خسروا ونكبوا شعوبهم وربما الانسانية جمعاء.
كذلك حال سير الرجال الذين يقودون الحوار، ذلك الذي لا يقاس فقط بما أنتج من مصالحات واتفاقات وتفاهمات، بل قبل كل شيء بما يمكن أن يجنب البلاد من العثرات والاضطرابات والتجاذبات من خلال تلاقي الأطراف المتحاورة وانعكاس ذلك على الأحوال السياسية والأمنية والإقتصادية للبلاد، فهؤلاء القادة ايضًا يبقون خارج الاضواء.
وإذا كان التواصل (Communication) ركن أساسي الى جانب اللامركزية (Décentralisation) والمشاركة (Participation) من أركان القيادة الرشيدة، فإن الحوار(Dialogue) أصبح في مجتمعنا المعاصر، وظيفة أساسية من وظائف الحكومات تضاف إلى وظيفتيها التقليديتين المعروفتين بالديموقراطية (Democratie) والنمو(Développement)، ما يعرف إيجازًا بـ 3D.
فالحوار أصبح ضرورة ملحّة على مساحة الكون، الذي رغم المخاض الذي يمرّ به، يمضي قدمًا في نظام العولمة بفعل الثورة الصناعية الرابعة والرقمية (4IR) وتطور تكنولوجيا المعلومات وتقنيات الإتصال.
اذا كان هذا هو المناخ العالمي السائد، فكيف هو الحال في لبنان؟ فهو في حاجة للحوار المستدام كون الممارسة الديموقراطية فيه مختلفة عن كل ديموقراطيات العالم، وترتكز على تفاعل حضارات الأديان المتنوعة وقدراتها الثقافية وتعدديتها لا على قدراتها المادية أو العددية.
وكيف لنا أن نعرض لبنان كمركز عالمي لحوار الأديان والحضارات إذا كنا لا نتحاور في الداخل في ما بيننا، لا بل نتقاتل في ساحات الخارج مثل سوريا أو بسببها ولا نلتزم "إعلان بعبدا" الهادف إلى وقف هذا الاقتتال أو منعه، بعدما أوقف الطائف منذ ثلاثة عقود قتال الآخرين على الساحة اللبنانية.
إن جوهر الإستقلال يفرض التخلي عن الرهانات المتناقضة على الأوضاع الخارجية، وعن أي منطق استقواء أو غلبة يتناقض مع روح الميثاق الوطني. فالرهان لا يجوز على حساب الوطن، فهو مساحة عيشنا الحرّ والمنزل الجامع... والتاريخ لن يرحم المجازفين والمخالفين.
وتستدعي الضرورة كما يفرض الواجب على جميع الأفرقاء في الظروف الدقيقة، الإقدام على الحوار بقلب منفتح وبصدق، بدل البحث عن الذرائع والحجج لتعطيل الحوار أو تقييده بشروط مسبقة، أو التشكيك في أهلية ووطنية المتحاورين، أو أن نتكبر بعضنا على البعض، ونحتكر الشعارات الجيدة لنا ونتهم الآخر بالشعارات السيئة والوطنية الناقصة، في مقابل ولاء أعمى وتزمت وطني وانعزال واحتكار للهوية اللبنانية.
علينا ان نعلم ان حسنة ما يوفره النظام الميثاقي من مشاركة، تحتم على كل مكون من مكونات المجتمع أن يلعب دوره في رفع التشنجات الفئوية إذا ما حصلت، وأن تعمل كل فئة على تقريب وجهات النظر وتحقيق المصالحة والتفاهم بين فئة وأخرى إذا ما وجدتا نفسهما على طرفي نزاع.
ومن أولى بديهيات فوائد الحوار أنه يوحّد مفهوم المفردات التي نجمع عليها والتي تسود خطابنا السياسي وتلك التي ترد في الدستور والقوانين والانظمة التي ترعى شؤوننا، لتحديد تعريفها مثل الاستقلال، السيادة، الحرية، التحييد، النأي بالنفس، المواطنة والعروبة وغيرها الكثير...
هذا وقد خاض لبنان تجربة ناجحة بدأت بدعوة من رئيس مجلس النواب عام 2006 الى طاولة حوار برعايته، وارتقت الى هيئة حوار وطني عام 2008 في القصر الجمهوري برئاسة رئيس الجمهورية واستمرت ولو بتقطع حتى نهاية الولاية في أيار 2014.
وقد اسفرت اجتماعات هيئة الحوار عن نتائج مفيدة عبر مواكبة التطورات الداخلية والاقليمية والاستحقاقات الدستورية من نيابية وبلدية، وبعدما تم الاتفاق على طاولة الحوار في عين التينة على ترسيم الحدود ونزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات. أسفرت اجتماعات هئية الحوار الوطني في بعبدا عن النتائج الآتية:
1- إقرار "إعلان بعبدا" الذي أصبح وثيقة دولية وينص على تحييد لبنان ما أدى إلى طمأنة وتهدئة الأطراف الذين كانوا يقفون ضد تدخل "حزب الله" في الحرب السورية رغم عدم التزامه إيّاه حتى كتابة هذه السطور، علمًا ان "إعلان بعبدا" أصبح وثيقة تشكل مرجعية للهيئات الأممية ولبعض الدول الكبرى ليس آخرها تقرير غوتيريس بالامس، وعلى القاعدة السياسية لهذا الإعلان تأسست المجموعة الدولية لدعم لبنان ISG التي تعتبر من أرفع الهيئات الأممية والتي حددت خلاصاتها خطة طريق للإستقرار السياسي والأمني والإقتصادي وأوصت بالاتفاق مع البنك الدولي على إنشاء صندوق ائتماني لتلقي الهبات لإعادة إعمار البنى التحتية والإدارات المتضررة من جراء الحرب السورية.
2- طرح غالبية المشاركين في الحوار تصورهم للاستراتيجية الدفاعية عن لبنان وتشكيل لجنة خبراء لدرسها وبنتيجتها طرح رئيس الجمهورية مسودة تصور لم تتم مناقشته، يضع قدرات "حزب الله" في تصرف الدولة لاستعمالها عند الحاجة (بقرار من رئيس الجمهورية مبدئيًا) لدعم الجيش بناء على طلبه وبإمرته، لفترة إنتقالية يحصر بعدها امتلاك السلاح في أيدي الجيش والقوى الأمنية. ان وضع هذا التصور معطوفًا على "إعلان بعبدا" أدى إلى زيادة دعم الجيش من الخارج وبخاصة الهبتين السعوديتين اللتين بلغتا 4 مليار دولارات والغيتا لاحقًا.
3- مواكبة أحداث فلسطين والهجوم الاسرائيلي على غزة ودعم الفلسطينيين ومنع استعمال لبنان منصة لإطلاق الصواريخ.
4- الإشارات الإيجابية التي انبعثت من إجتماعات هيئة الحوار نحو المجتمع العربي والدولي واللبناني والمستثمرين اللبنانيين المقيمين والمغتربين والمستثمرين الاجانب، مفادها أن نيات القيادة في لبنان تتجه إلى استعادة سيادة الدولة والتحييد عن الصراعات، ما عزز الثقة بالدولة اللبنانية وأدى إلى تجاوز الأزمة المالية التي ضربت العالم عام ٢٠٠٩ وارتفع معدل النمو في بلدنا الى 10% قبل اندلاع الحرب في سوريا والجوار رغم تعطيل تشكيل الحكومات...
أما اليوم، وبعد إقرار الموازنة التي نأمل أن تحول دون الانهيار الإقتصادي ورغم إدراكنا أنها لن تؤدي إلى رفع معدل النمو إلى مستوى مقبول، وفي مناخ التجاذب والإضطراب المحدق والاخطار المحيطة بنا وبالاقليم، ألا يجدر أن يدعو رئيس الجمهورية إلى الحوار في أي شكل أو أسلوب يراه مناسبًا قبل فوات الآوان، لاكتساب الثقة بمنظومة الحكم ولتجنيب شعبنا الانعاكسات الكارثية وجعل وطننا يدفع مجددًا ثمن حروب الآخرين و"ديموقراطيتهم" بعدما دفع غاليًا ثمن الحفاظ على حريته وديموقراطيته؟
كذلك حال سير الرجال الذين يقودون الحوار، ذلك الذي لا يقاس فقط بما أنتج من مصالحات واتفاقات وتفاهمات، بل قبل كل شيء بما يمكن أن يجنب البلاد من العثرات والاضطرابات والتجاذبات من خلال تلاقي الأطراف المتحاورة وانعكاس ذلك على الأحوال السياسية والأمنية والإقتصادية للبلاد، فهؤلاء القادة ايضًا يبقون خارج الاضواء.
وإذا كان التواصل (Communication) ركن أساسي الى جانب اللامركزية (Décentralisation) والمشاركة (Participation) من أركان القيادة الرشيدة، فإن الحوار(Dialogue) أصبح في مجتمعنا المعاصر، وظيفة أساسية من وظائف الحكومات تضاف إلى وظيفتيها التقليديتين المعروفتين بالديموقراطية (Democratie) والنمو(Développement)، ما يعرف إيجازًا بـ 3D.
فالحوار أصبح ضرورة ملحّة على مساحة الكون، الذي رغم المخاض الذي يمرّ به، يمضي قدمًا في نظام العولمة بفعل الثورة الصناعية الرابعة والرقمية (4IR) وتطور تكنولوجيا المعلومات وتقنيات الإتصال.
اذا كان هذا هو المناخ العالمي السائد، فكيف هو الحال في لبنان؟ فهو في حاجة للحوار المستدام كون الممارسة الديموقراطية فيه مختلفة عن كل ديموقراطيات العالم، وترتكز على تفاعل حضارات الأديان المتنوعة وقدراتها الثقافية وتعدديتها لا على قدراتها المادية أو العددية.
وكيف لنا أن نعرض لبنان كمركز عالمي لحوار الأديان والحضارات إذا كنا لا نتحاور في الداخل في ما بيننا، لا بل نتقاتل في ساحات الخارج مثل سوريا أو بسببها ولا نلتزم "إعلان بعبدا" الهادف إلى وقف هذا الاقتتال أو منعه، بعدما أوقف الطائف منذ ثلاثة عقود قتال الآخرين على الساحة اللبنانية.
إن جوهر الإستقلال يفرض التخلي عن الرهانات المتناقضة على الأوضاع الخارجية، وعن أي منطق استقواء أو غلبة يتناقض مع روح الميثاق الوطني. فالرهان لا يجوز على حساب الوطن، فهو مساحة عيشنا الحرّ والمنزل الجامع... والتاريخ لن يرحم المجازفين والمخالفين.
وتستدعي الضرورة كما يفرض الواجب على جميع الأفرقاء في الظروف الدقيقة، الإقدام على الحوار بقلب منفتح وبصدق، بدل البحث عن الذرائع والحجج لتعطيل الحوار أو تقييده بشروط مسبقة، أو التشكيك في أهلية ووطنية المتحاورين، أو أن نتكبر بعضنا على البعض، ونحتكر الشعارات الجيدة لنا ونتهم الآخر بالشعارات السيئة والوطنية الناقصة، في مقابل ولاء أعمى وتزمت وطني وانعزال واحتكار للهوية اللبنانية.
علينا ان نعلم ان حسنة ما يوفره النظام الميثاقي من مشاركة، تحتم على كل مكون من مكونات المجتمع أن يلعب دوره في رفع التشنجات الفئوية إذا ما حصلت، وأن تعمل كل فئة على تقريب وجهات النظر وتحقيق المصالحة والتفاهم بين فئة وأخرى إذا ما وجدتا نفسهما على طرفي نزاع.
ومن أولى بديهيات فوائد الحوار أنه يوحّد مفهوم المفردات التي نجمع عليها والتي تسود خطابنا السياسي وتلك التي ترد في الدستور والقوانين والانظمة التي ترعى شؤوننا، لتحديد تعريفها مثل الاستقلال، السيادة، الحرية، التحييد، النأي بالنفس، المواطنة والعروبة وغيرها الكثير...
هذا وقد خاض لبنان تجربة ناجحة بدأت بدعوة من رئيس مجلس النواب عام 2006 الى طاولة حوار برعايته، وارتقت الى هيئة حوار وطني عام 2008 في القصر الجمهوري برئاسة رئيس الجمهورية واستمرت ولو بتقطع حتى نهاية الولاية في أيار 2014.
وقد اسفرت اجتماعات هيئة الحوار عن نتائج مفيدة عبر مواكبة التطورات الداخلية والاقليمية والاستحقاقات الدستورية من نيابية وبلدية، وبعدما تم الاتفاق على طاولة الحوار في عين التينة على ترسيم الحدود ونزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات. أسفرت اجتماعات هئية الحوار الوطني في بعبدا عن النتائج الآتية:
1- إقرار "إعلان بعبدا" الذي أصبح وثيقة دولية وينص على تحييد لبنان ما أدى إلى طمأنة وتهدئة الأطراف الذين كانوا يقفون ضد تدخل "حزب الله" في الحرب السورية رغم عدم التزامه إيّاه حتى كتابة هذه السطور، علمًا ان "إعلان بعبدا" أصبح وثيقة تشكل مرجعية للهيئات الأممية ولبعض الدول الكبرى ليس آخرها تقرير غوتيريس بالامس، وعلى القاعدة السياسية لهذا الإعلان تأسست المجموعة الدولية لدعم لبنان ISG التي تعتبر من أرفع الهيئات الأممية والتي حددت خلاصاتها خطة طريق للإستقرار السياسي والأمني والإقتصادي وأوصت بالاتفاق مع البنك الدولي على إنشاء صندوق ائتماني لتلقي الهبات لإعادة إعمار البنى التحتية والإدارات المتضررة من جراء الحرب السورية.
2- طرح غالبية المشاركين في الحوار تصورهم للاستراتيجية الدفاعية عن لبنان وتشكيل لجنة خبراء لدرسها وبنتيجتها طرح رئيس الجمهورية مسودة تصور لم تتم مناقشته، يضع قدرات "حزب الله" في تصرف الدولة لاستعمالها عند الحاجة (بقرار من رئيس الجمهورية مبدئيًا) لدعم الجيش بناء على طلبه وبإمرته، لفترة إنتقالية يحصر بعدها امتلاك السلاح في أيدي الجيش والقوى الأمنية. ان وضع هذا التصور معطوفًا على "إعلان بعبدا" أدى إلى زيادة دعم الجيش من الخارج وبخاصة الهبتين السعوديتين اللتين بلغتا 4 مليار دولارات والغيتا لاحقًا.
3- مواكبة أحداث فلسطين والهجوم الاسرائيلي على غزة ودعم الفلسطينيين ومنع استعمال لبنان منصة لإطلاق الصواريخ.
4- الإشارات الإيجابية التي انبعثت من إجتماعات هيئة الحوار نحو المجتمع العربي والدولي واللبناني والمستثمرين اللبنانيين المقيمين والمغتربين والمستثمرين الاجانب، مفادها أن نيات القيادة في لبنان تتجه إلى استعادة سيادة الدولة والتحييد عن الصراعات، ما عزز الثقة بالدولة اللبنانية وأدى إلى تجاوز الأزمة المالية التي ضربت العالم عام ٢٠٠٩ وارتفع معدل النمو في بلدنا الى 10% قبل اندلاع الحرب في سوريا والجوار رغم تعطيل تشكيل الحكومات...
أما اليوم، وبعد إقرار الموازنة التي نأمل أن تحول دون الانهيار الإقتصادي ورغم إدراكنا أنها لن تؤدي إلى رفع معدل النمو إلى مستوى مقبول، وفي مناخ التجاذب والإضطراب المحدق والاخطار المحيطة بنا وبالاقليم، ألا يجدر أن يدعو رئيس الجمهورية إلى الحوار في أي شكل أو أسلوب يراه مناسبًا قبل فوات الآوان، لاكتساب الثقة بمنظومة الحكم ولتجنيب شعبنا الانعاكسات الكارثية وجعل وطننا يدفع مجددًا ثمن حروب الآخرين و"ديموقراطيتهم" بعدما دفع غاليًا ثمن الحفاظ على حريته وديموقراطيته؟
الرئيس ميشال سليمان - افتتاحية النهار - 25 تموز 2019
إرسال تعليق