ثمة وجهتا نظر تتبلوران اليوم حول ما يثار عن احتدام الخلاف بين موسكو وطهران على حصص النفوذ في سوريا، ربطاً بتواتر أخبار تنافسهما المكشوف للاستيلاء على ثروات البلاد ومفاصل المؤسستين الأمنية والعسكرية، وتكرار الاشتباكات بين قوات موالية لكلا الطرفين في السباق لانتزاع بعض المواقع والمرافق الحيوية في أرياف حماة ودرعا ودمشق، يحدوها تصريحات للكرملين حول ضرورة خروج جميع القوات الأجنبية من البلاد بما فيها القوات الإيرانية والميليشيا التابعة لها، والردود المتحدية لقيادات إيرانية بأنه لا أحد يستطيع إبعادهم عن الساحة السورية.
وجهة النظر الأولى تعتقد أن هذا الخلاف سطحي وربما أشبه بمناورة أو شكل من أشكال توزيع الأدوار بينهما، ولن يصل، بأي حالة، إلى حد كسر العظم، بل سيجد طريقه بسرعة، نحو التفاهم والتقاسم التوافقي للمغانم، حتى لو اكتنفته بعض المواقف والتصريحات المتعارضة، أو بعض الاحتكاكات العسكرية والمعارك الجانبية، والأسباب في رأيهم كثيرة، تبدأ بعلاقة تاريخية عميقة بين الطرفين انعكست بتنسيق وتعاضد لم تشبهما شائبة لعقود من الزمن في مواجهة العدو الغربي المشترك، وفي التكاتف للالتفاف على العقوبات الاقتصادية المتخذة ضدهما، مروراً بتفهم موسكو لمصلحة إيران في سوريا وغض نظرها عن كثير من اتفاقات الشراكة الاستراتيجية الموقعة بين دمشق وطهران، إنْ في المجال الأمني أو العسكري أو في مجال المساهمة بإعادة إعمار قطاعات الاتصالات والتعليم والصحة والبناء السكني، والأسوأ صمتها عن التغيير المذهبي والديموغرافي ونقل ملكية كثير من البيوت والأراضي الزراعية التي تركها السوريون الفارون من الحرب، إلى مرتزقة إيرانيين، وانتهاء بتحسب الكرملين من مخاطر وتكلفة فتح معركة مع طهران لإخراجها بالكامل من سوريا، وتالياً لاحتمال انزلاقه إلى فخ استنزاف لا طاقة له على تحمله، ربطاً بما تمتلكه الأخيرة من حضور قوي ومهم في سوريا وأدوات أذى ضاربة في لبنان والعراق، فكيف الحال حين تدرك روسيا أنه من دون إيران لا يمكنها الحفاظ على استقرار الميزان العسكري للصراع السوري تجاه وفرة المتدخلين فيه!
وكيف الحال حين يذهب العقل التآمري، ربما يكون محقاً، نحو الإشارة إلى وجود مصلحة حقيقية لموسكو في الحفاظ على البعبع الإيراني ورعايته في الإقليم، لابتزاز الغرب والعرب معاً وتحصيل المزيد من النفوذ والمنافع! واستدراكاً، ومثلما ليس من مصلحة طهران منازعة موسكو على حضورها ودورها في سوريا والمشرق العربي ما دامت تستمد منها وجوهاً متعددة من الدعم والحماية، إنْ في مواجهة الضغوط الأميركية، وإنْ لتغطية توغلها في العراق ولبنان واليمن، وإنْ لتغيير ميزان القوى في سوريا بعد فشلها ولسنوات في إحداث انعطافة عسكرية لصالح النظام، كذلك ليس من مصلحة موسكو خسارة تحالفها مع طهران وورقة الملف السوري ما دامت توظفهما في صلب لعبة التنازع على النفوذ مع الغرب حول بؤر التوتر في العالم، إنْ في مشكلة القرم والأزمة مع أوكرانيا ومؤخراً في فنزويلا، وإنْ في مواجهة تمدد الدرع الصاروخية، والأهم قطع الطريق على كل من يفكر في مد خطوط غاز من الإقليم باتجاه أوروبا، والقصد أنه ليس ثمة حافز عميق لدى موسكو لإنهاء وجود طهران في سوريا، وإن كانت تسعى لتحجيمه وتطويعه، في سياق تعويم دورها ليكون أكثر نجاعة في ضبط توازنات القوى في الإقليم، بما في ذلك محاصرة التمدد التركي عسكرياً وعقائدياً، والتحكم باحتمال تقدم دور جديد للغرب في سوريا قد تحفزه عملية إعادة الإعمار.
وفي المقابل، ترى وجهة النظر الثانية أن هذا الخلاف جدي وسوف يتفاقم مع خمود المعارك وبدء موسم القطاف، ليأخذ أبعاداً حادة تفضي في نهاية المطاف لتمكين طرف على حساب الآخر في تقرير المصير السوري، ليس فقط لأن التجربة تفيد بأن قوتين نافذتين يصعب أن تتعايشا على أرض واحدة، وإنما أيضاً بسبب تباين شروط الطرفين ودوافعهما للتدخل في الشأن السوري وتعارض خططهما حول مستقبل البلاد، ففي حين يفتقد التدخل الإيراني للشرعية الإقليمية والدولية، وتحدوه حسابات طائفية فاقعة طمعاً في الهلال الشيعي وإحياء الإمبراطورية الفارسية، محتقناً برغبة مزمنة في إزاحة الكتلة الإسلامية السنية من الوجود عنفاً، أو على الأقل إضعاف وزنها ودورها إلى أبعد الحدود، يمتلك التدخل الروسي تفاهمات دولية، خصوصاً مع الأميركيين والأوروبيين، تحدوه حسابات سياسية تميل إلى أخذ مصالح مختلف مكونات المجتمع في الاعتبار توخياً للاستقرار وديمومة نفوذه في سوريا والمنطقة، الأمر الذي تجلى بفتح خطوط مبكرة ومصالحات واسعة مع قوى معارضة ذات وجه إسلامي سني، والبدء بتنظيم القوى شبه العسكرية، خاصة جماعات الدفاع الوطني المشكّلة والمدعومة من طهران، ومحاسبة وإقصاء الضباط الفاسدين أو المرتبطين مع الميليشيا الإيرانية لمنع طهران من زج البلاد في معارك مذهبية لتغيير الستاتيكو القائم في المشرق العربي، من دون أن نغفل ما يعنيه صمت روسيا وحيادها تجاه الغارات المتكررة للطيران الإسرائيلي على مواقع للحرس الثوري و«حزب الله» في سوريا.
ويخلص أصحاب هذا الرأي إلى أنه ليس من مصلحة موسكو الذهاب بعيداً في تغطية سياسة طهران التوسعية، خاصة وقد أدركت مؤخراً أن الوجود الإيراني في سوريا بات سبباً رئيسياً للتوتر والتفكك داخليا، ولإزعاج أطراف إقليمية وعالمية، وأنه هو دون غيره ما يعيق تحويل نصرها العسكري إلى إنجاز سياسي مقبول دولياً، ما يعني تأخير تمويل إعادة الإعمار، الذي يربطه المجتمع الدولي بمستوى من التغيير السياسي، تبدو طهران معادية له على طول الخط. أخيراً، وأياً تكن طبيعة التنازع على النفوذ بين روسيا وإيران حول سوريا فإن أفقه يبقى محدوداً، ما يعني ضرورة توخي الحذر من البناء والتعويل عليه أو تشجيع التدخل لتسعيره على أمل تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا والمنطقة العربية، فالتجربة التاريخية، أكدت مراراً مرارة هذا الرهان، وأنه مجرد هدر للجهد والفرص، وأظهرت قدرة الطرفين واستعدادهما العالي لتجاوز أي خلاف وهما أكثر تضامناً وتعاضداً، ولنقل أكثر إدراكاً لفداحة الأضرار الناجمة من دفع تنافسهما وما يرافقه من افتراق في المصالح والأهداف إلى آخر الشوط!
أكرم البني - الشرق الاوسط - الجمعة 8 شباط 2019
إرسال تعليق