مع الصليبِ ذهبَ، ومعه يَعود. بعدَ مرور ستٍ وثلاثينَ سنةً لا أعرف بعدُ أيَّهما الأكثرُ خلودًا: يومُ انتخابِه وانتصارهِ حين أصبح رئيسًا، أم يومُ استشهادِه وانتقالِه حين أصبحَ أيقونَة. كان يومًا عظيمًا: اتّحدَت فيه المقاومةُ والدولة، تَماثلَت الرئاسةُ والزعامة. تحاكى وادي النصارى ووادي قنّوبين. توافَق العربُ والغرب. انتَفت الفوارقُ بين المنتصرِ والمنهزِم. أُزيل الاختلالُ بين الأقليّاتِ والأكثريّات. تَوحّدت شرعيّةُ الأرضِ وشرعيةُ الدستور. خَجِل الفسادُ من نفسِه وسادَت النزاهةُ. انزوَت القُرى والأقضيةُ والمحافظاتُ ليولدَ الوطن. انكفأت الأديانُ والطوائفُ والمذاهبُ ليولدَ المواطن. تبادل الشهداءُ في ملكوتِهم نَخْبَ المناسبةِ، فاستشهادُهم أثمرَ انتصارًا. تَجسَّد مفهومُ الرئيسِ القوي والمنقِذِ وطنَه لا طائفتَهُ وحزبَهُ وآلَهُ. ذاك يومٌ يبقى في التاريخِ «نورًا للشعوب» و... للعهود.
لا يوجدُ تفسيرٌ علميٌّ أو سياسيٌّ للالتفافِ الوطنيِّ الذي تحقّقَ حولَ بشير الجميل، زعيمِ الأمّةِ الذي صار رئيسًا للدولة. يجب البحثُ عن هذه الظاهرةِ الاستثنائيّةِ في حالاتِ التَجلّي. قبلَ دقائقَ من انتخابِه، كان زعيمَ نِصفِ لبنان وخَصمَ النِصفِ الآخر، وبعد ساعاتٍ قليلةٍ أصبحَ زعيمَ من خاصَموه كما زعيمَ من أحبّوه وتَركوا خلافاتِهم وتَبِعوه.
تلاقى التجلّي مع أسبابٍ دنيويّةٍ بَرّرت هذا الإجماعَ المفاجِئ: مقاومةُ بشير كانت مقاومةً لبنانيّةً لا مسيحيّةً حصرًا، ولطالما رَدّد: «لقد هوجِمنا كمسيحيّين فَرَدَدْنا كلبنانيّين» و«الزعيمُ لا يولد لمِنطقةٍ أو لطائفةٍ إنما لشعبٍ ووطن». لكنَّ المسلمين، وقد كان مغلوبًا على أمرِهم تحت الاحتلالين الفلسطينيِّ والسوريّ وأدواتِهما المحليّةِ طَوالَ سنواتِ الحربِ، وَجدوا في انتخابِ بشير اللحظةَ التاريخيّةَ ليُزيحوا الكابوسَ عنهم ويَنضمّوا إلى مشروعِ الحريّةِ والسيادة. لقد آمَن الشعبُ اللبنانيُّ أنَّ بشير قادرٌ أنْ يُنقذَهم دفعةً واحدةً من الإسرائيليِّ والسوريِّ والفلسطينيِّ ومن الميليشياتِ والطبقةِ السياسيّةِ والفساد.
وفعلًا، ما إن انتُخِب بشير حتّى بدأ الفِلسطينيُّ بالمغادرة، والسوريُّ بالانسحابِ الكامِل، والإسرائيليُّ بالبحثِ عن ورقةٍ موقَّعةٍ تُغطّي تورّطَه وانسحابَه، والميليشياتُ بالاستسلام، والفسادُ بالتواري عن الأنظار، والطبقةُ السياسيّةُ بتسليمِ الوديعة...وكان بشيرُ خيرَ الوكيل.
ليست القياداتُ وحدَها من أيّدَ الرئيسَ بشير الجميل، بل الشعبُ أساسًا. وتأييدُ الشعبِ أصدقُ من تأييدِ القيادات، فهو عفويٌّ وصادِقٌ ومُجرّدٌ من المصالحِ والحِصَص. لم تكن صورُ بشير الجميل في «بيروت الغربيّةِ» وطرابلس والجَنوب والبقاع مُلصَقةً على الطرقاتِ فقط، كانت معلّقةً في مداخلِ المنازلِ والدُورِ وغرفِ النومِ والمكاتب. الاطفالُ رأوا فيه أبًا، والشبابُ أخًا، والآباءُ والأمّهاتُ ابنًا، والأجدادُ حفيدًا. أما الشعبُ كجماعةٍ فمِنهم من اعتبرَ بشيرَ فخرَ الدّين الجديد، وآخَرون عبدَ الناصر المسيحيِّ، وآخرون ديغول لبنان، وآخرون تشي غيفارا الشرق. بشير كان هو، «البشيرَ» الآتي إلينا من معاناةِ العصورِ والأجيال، كان شعبًا في رَجل.
لم يَستخدِم بشيرُ صلاحيّاتِه الدستوريّةَ. كان يملِكُ صلاحياتٍ ذاتيّةً أقوى:الهيبةُ والشخصيّة، الصدقيّةُ والثقة، الإرادةُ والصلابة، القولُ والفعل، الإيمانُ والتجرّد، الإطلالةُ والكاريزما، الحقُّ والحسْم، العبوسُ والابتسامة، كان يملِك صلاحيّةَ الوقوفِ أمامَ قبرِ الشهداءِ و»الشهيدةِ» برأسٍ مرفوعٍ وعينٍ دامعةٍ وخَيالٍ سارِح، ويَدعوهم إلى وليمةِ القيامةِ.
في عهدِ الواحدِ والعشرين يومًا حَقّق بشير: دولةَ لبنانَ الكبير ودولةَ لبنانَ المستقِل ودولةَ لبنانَ المقاوِم واستَوعَب كلَّ الأحاسيسِ والحساسيّاتِ اللبنانيّة. قال للّبنانيّين: تعالَوا، لبنانُ وحدَه يُريحكم. تعالَوا من فينيقيا والعروبة، من المسيحيّةِ والإسلام، من اليمينِ واليسار، تعالَوا من الهوّياتِ القاتلةِ والقوميّات التجريديّة. ضَعُوا جميعَ عقائدِكم في «العَقدِ اللبناني» وانسَوا كلَّ شيءٍ، فحيثما يكون قلبُكم يكون وطنُكم، فاختاروا، وويلٌ لمَن يُشرِك.
كان بشير ديكتاتورًا ديمقراطيًّا. هذا قدرُ كلِّ مَن أَنقذَ شعبَه. الديكتاتوريّةُ العادلةُ تُنقِذُ، والديمقراطيّة القويّةُ تديرُ. الأمنُ بالنسبة إليه حرّيةٌ، والحرّيةُ نظامٌ، والنظامُ عدالةٌ، والعدالةُ مساواةٌ، والمساواةُ كرامةٌ، وجميعُها: سعادةُ الإنسان. مسيحيًّا عرَفَ بشير أخطاءَ الموارنِةِ، ولبنانيًّا خَبِرَ ولاءاتِ المسلمين، ومشرقيًّا امتَحنَ قدرَ الأقلّيات، ومقاوِمًا اختبرَ تَواطؤَ الغربِ والشرق.
في تلك الظروفِ كان بشير قادرًا أنْ يُخيِّر الناسَ بين الولاءِ للوطنِ دون سواه وبين استخلاصِ العِبَر، فأتاه الجواب:»لبنانُ ثم لبنانُ ثم لبنان». مع بشير كان الخطأُ الوطنيُّ ممنوعًا، ففَرِح الوطنيّون وتضايق المُشرِكون. ومعه كان الحقدُ محظورًا فسعى إلى استعادةِ كلِّ النِعاجِ الضالّةِ حتى لو لم تَكن نِعاجًا.
لدى انتخابِ بشير الجميّل، لم يَعد أحدٌ يُفكّر بالتقسيمِ والفِدراليّةِ واللامركزيّة والمركزيّة والوِحدةِ العربيّةِ والتوطينِ الفِلسطينيّ. صار لبنانُ فوقَ الصيغِ والأشكالِ الدستوريّةِ والمؤامرات. صار لبنانُ الرسالة أرضَ التعايش وأرضَ العودة: عودةِ المغتربين.
عدا أنَّ بشيرَ رئيسٌ قويٌّ بالمفهومِ السياسيّ، هو منقِذٌ بالمفهومِ التاريخيّ، فلبنان، آنذاك، كان يحتاج إنقاذًا وطنيًّا شاملًا لا حكمًا قويًّا فقط. ما جاءَ بشير ليَفرِضَ القانونَ ـ هذا أقلُّ الإيمان ـ إنّما جاء لتحريرِ الوطنِ وإعادةِ بناءِ دولة.
يَومان في هذا الزمنِ... يُذكِّرانِنا بالمجدِ ويُشبِهانِنا: 23 آب و14 أيلول.
لا يوجدُ تفسيرٌ علميٌّ أو سياسيٌّ للالتفافِ الوطنيِّ الذي تحقّقَ حولَ بشير الجميل، زعيمِ الأمّةِ الذي صار رئيسًا للدولة. يجب البحثُ عن هذه الظاهرةِ الاستثنائيّةِ في حالاتِ التَجلّي. قبلَ دقائقَ من انتخابِه، كان زعيمَ نِصفِ لبنان وخَصمَ النِصفِ الآخر، وبعد ساعاتٍ قليلةٍ أصبحَ زعيمَ من خاصَموه كما زعيمَ من أحبّوه وتَركوا خلافاتِهم وتَبِعوه.
تلاقى التجلّي مع أسبابٍ دنيويّةٍ بَرّرت هذا الإجماعَ المفاجِئ: مقاومةُ بشير كانت مقاومةً لبنانيّةً لا مسيحيّةً حصرًا، ولطالما رَدّد: «لقد هوجِمنا كمسيحيّين فَرَدَدْنا كلبنانيّين» و«الزعيمُ لا يولد لمِنطقةٍ أو لطائفةٍ إنما لشعبٍ ووطن». لكنَّ المسلمين، وقد كان مغلوبًا على أمرِهم تحت الاحتلالين الفلسطينيِّ والسوريّ وأدواتِهما المحليّةِ طَوالَ سنواتِ الحربِ، وَجدوا في انتخابِ بشير اللحظةَ التاريخيّةَ ليُزيحوا الكابوسَ عنهم ويَنضمّوا إلى مشروعِ الحريّةِ والسيادة. لقد آمَن الشعبُ اللبنانيُّ أنَّ بشير قادرٌ أنْ يُنقذَهم دفعةً واحدةً من الإسرائيليِّ والسوريِّ والفلسطينيِّ ومن الميليشياتِ والطبقةِ السياسيّةِ والفساد.
وفعلًا، ما إن انتُخِب بشير حتّى بدأ الفِلسطينيُّ بالمغادرة، والسوريُّ بالانسحابِ الكامِل، والإسرائيليُّ بالبحثِ عن ورقةٍ موقَّعةٍ تُغطّي تورّطَه وانسحابَه، والميليشياتُ بالاستسلام، والفسادُ بالتواري عن الأنظار، والطبقةُ السياسيّةُ بتسليمِ الوديعة...وكان بشيرُ خيرَ الوكيل.
ليست القياداتُ وحدَها من أيّدَ الرئيسَ بشير الجميل، بل الشعبُ أساسًا. وتأييدُ الشعبِ أصدقُ من تأييدِ القيادات، فهو عفويٌّ وصادِقٌ ومُجرّدٌ من المصالحِ والحِصَص. لم تكن صورُ بشير الجميل في «بيروت الغربيّةِ» وطرابلس والجَنوب والبقاع مُلصَقةً على الطرقاتِ فقط، كانت معلّقةً في مداخلِ المنازلِ والدُورِ وغرفِ النومِ والمكاتب. الاطفالُ رأوا فيه أبًا، والشبابُ أخًا، والآباءُ والأمّهاتُ ابنًا، والأجدادُ حفيدًا. أما الشعبُ كجماعةٍ فمِنهم من اعتبرَ بشيرَ فخرَ الدّين الجديد، وآخَرون عبدَ الناصر المسيحيِّ، وآخرون ديغول لبنان، وآخرون تشي غيفارا الشرق. بشير كان هو، «البشيرَ» الآتي إلينا من معاناةِ العصورِ والأجيال، كان شعبًا في رَجل.
لم يَستخدِم بشيرُ صلاحيّاتِه الدستوريّةَ. كان يملِكُ صلاحياتٍ ذاتيّةً أقوى:الهيبةُ والشخصيّة، الصدقيّةُ والثقة، الإرادةُ والصلابة، القولُ والفعل، الإيمانُ والتجرّد، الإطلالةُ والكاريزما، الحقُّ والحسْم، العبوسُ والابتسامة، كان يملِك صلاحيّةَ الوقوفِ أمامَ قبرِ الشهداءِ و»الشهيدةِ» برأسٍ مرفوعٍ وعينٍ دامعةٍ وخَيالٍ سارِح، ويَدعوهم إلى وليمةِ القيامةِ.
في عهدِ الواحدِ والعشرين يومًا حَقّق بشير: دولةَ لبنانَ الكبير ودولةَ لبنانَ المستقِل ودولةَ لبنانَ المقاوِم واستَوعَب كلَّ الأحاسيسِ والحساسيّاتِ اللبنانيّة. قال للّبنانيّين: تعالَوا، لبنانُ وحدَه يُريحكم. تعالَوا من فينيقيا والعروبة، من المسيحيّةِ والإسلام، من اليمينِ واليسار، تعالَوا من الهوّياتِ القاتلةِ والقوميّات التجريديّة. ضَعُوا جميعَ عقائدِكم في «العَقدِ اللبناني» وانسَوا كلَّ شيءٍ، فحيثما يكون قلبُكم يكون وطنُكم، فاختاروا، وويلٌ لمَن يُشرِك.
كان بشير ديكتاتورًا ديمقراطيًّا. هذا قدرُ كلِّ مَن أَنقذَ شعبَه. الديكتاتوريّةُ العادلةُ تُنقِذُ، والديمقراطيّة القويّةُ تديرُ. الأمنُ بالنسبة إليه حرّيةٌ، والحرّيةُ نظامٌ، والنظامُ عدالةٌ، والعدالةُ مساواةٌ، والمساواةُ كرامةٌ، وجميعُها: سعادةُ الإنسان. مسيحيًّا عرَفَ بشير أخطاءَ الموارنِةِ، ولبنانيًّا خَبِرَ ولاءاتِ المسلمين، ومشرقيًّا امتَحنَ قدرَ الأقلّيات، ومقاوِمًا اختبرَ تَواطؤَ الغربِ والشرق.
في تلك الظروفِ كان بشير قادرًا أنْ يُخيِّر الناسَ بين الولاءِ للوطنِ دون سواه وبين استخلاصِ العِبَر، فأتاه الجواب:»لبنانُ ثم لبنانُ ثم لبنان». مع بشير كان الخطأُ الوطنيُّ ممنوعًا، ففَرِح الوطنيّون وتضايق المُشرِكون. ومعه كان الحقدُ محظورًا فسعى إلى استعادةِ كلِّ النِعاجِ الضالّةِ حتى لو لم تَكن نِعاجًا.
لدى انتخابِ بشير الجميّل، لم يَعد أحدٌ يُفكّر بالتقسيمِ والفِدراليّةِ واللامركزيّة والمركزيّة والوِحدةِ العربيّةِ والتوطينِ الفِلسطينيّ. صار لبنانُ فوقَ الصيغِ والأشكالِ الدستوريّةِ والمؤامرات. صار لبنانُ الرسالة أرضَ التعايش وأرضَ العودة: عودةِ المغتربين.
عدا أنَّ بشيرَ رئيسٌ قويٌّ بالمفهومِ السياسيّ، هو منقِذٌ بالمفهومِ التاريخيّ، فلبنان، آنذاك، كان يحتاج إنقاذًا وطنيًّا شاملًا لا حكمًا قويًّا فقط. ما جاءَ بشير ليَفرِضَ القانونَ ـ هذا أقلُّ الإيمان ـ إنّما جاء لتحريرِ الوطنِ وإعادةِ بناءِ دولة.
يَومان في هذا الزمنِ... يُذكِّرانِنا بالمجدِ ويُشبِهانِنا: 23 آب و14 أيلول.
سجعان القزي - "الجمهورية" - 14 أيلول 2018
إرسال تعليق