في اللحظة التي كانت بيروت مشدودةً إلى «نقطة ضوءٍ» لاحتْ في آخر نَفَق مأزق تشكيل الحكومة الجديدة مع مسعى الرئيس المكلف سعد الحريري لتدوير زوايا العقد المستحكمة عبر مشاوراته المكثّفة مع مختلف الأطراف المعنية، باغَتَ «حزب الله» الجميع بتسديدِه ضربةً بالاستراتيجي من شأنها تقويض كل محاولات استيلاد الحكومة قبل أن تتحوّل هذه الأزمة «كرة ثلج» تتدحدرج على وهج «كرة النار» الاقليمية.
53 كلمة وردتْ في بيان كتلة نواب «حزب الله» بعد اجتماعها وبدت بمثابة «أمر عملياتٍ» برسْم الداخل والخارج حدّد معه الحزب «جدول أعمال» الحكومة المقبلة وبيانها الوزاري المرتقب حين أعلن «ان لبنان مدعو، حكومة وقوى سياسية، إلى الاستفادة من تطورات الأوضاع في المنطقة لمراجعة تموْضعه الاستراتيجي ولإعادة النظر في بعض علاقاته الإقليمية والدولية في ضوء التزامه حماية سيادته الوطنية ومنْع العدو الاسرائيلي من التسلل عبر تطبيع علاقاته مع بعض الدول العربية، في سعي دؤوب منه لاختراق المنطقة سواء بإنتاجه الاقتصادي أو بمشاريعه السياسية».
وأثار هذا الموقف في توقيته ومضمونه علامات استفهام كبرى حول مآل الأزمة الحكومية والتي ظهّر بيان كتلة «حزب الله» وبما لا يقبل أي التباس أنها تدور على خلفية التموْضع الإقليمي للبنان ورغبة الحزب، ومن خلفه إيران، في شرْعنة إمرته الاستراتيجية عبر حكومةٍ يريدها تجسيداً لـ «الانقلاب» الذي شكّلتْه نتائج الانتخابت النيابية الأخيرة.
ووضعتْ أوساط سياسية هذا التطور البارز في سياق ترجمة «الخط البياني» لمرحلة ما بعد الانتخابات لبنانياً الذي كان رسمه بوضوح قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني الجنرال قاسم سليماني حين جاهَرَ في كلامٍ نُقل عنه في 11 يونيو الماضي بـ «الانتصار الانتخابي» لـ «حزب الله» وحلفائه وحصْده غالبية 74 نائباً، داعياً في ضوء ذلك إلى «حكومة مقاومة».
وفيما حاولت بعض الدوائر المعنية بملف تشكيل الحكومة التقليل من وطأة «قنبلة حزب الله» عبر تأكيد أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس الحريري ملتزمان النأي بالنفس، إلا أن الأوساط السياسية تعاطتْ مع موقف الحزب على أنه تتويج لمسارٍ متدحْرج من تفريغ هذه السياسة التي أعلن لبنان الرسمي التزامها والتي شكّلتْ مع عنوان تحييد الملفات الخلافية، وفي مقدّمها الأزمة السورية، ركنيْ التسوية التي أنهت الفراغ الرئاسي قبل نحو عامين. وفي رأي هذه الأوساط ان «حزب الله» الذي غالباً ما كان يحاذر تظهير التماهي الكامل بينه وبين لبنان الرسمي بهدف ترْك هامش لـ «الدولة» يتيح له الاحتماء خلفها ويحول دون جعل البلاد «غزة ثانية»، بدا وكأنه أطلق دينامية جديدة باتجاه الدفْع نحو نقل لبنان من ضفة استراتيجية إلى أخرى ربْطاً بالتطورات في المنطقة و«الرياح الساخنة» التي تهبّ على الجبهة الأميركية - الإيرانية والتي يقع الحزب في «عيْنها»، لافتة الى أن «حزب الله» انتقل في تكتكياته من «التسامح» حيال سياسة النأي بالنفس عن أزمات المنطقة إلى المطالبة بأن يعتمد لبنان الرسمي وحكومته العتيدة خيار النأي عن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة.
وإذ توقّفتْ الأوساط عند تَقاطُع اندفاعة «حزب الله» مع ترويج رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل لـ «مساحةٍ مَشْرقيةٍ» بما فُسّر على أنه رغبة في ترسيخ «تَحالُف أقليات» بحمايةٍ روسية، لاحظتْ أن موقف كتلة نواب «حزب الله» يعني أن الأخير أَطْلق مساراً عملياً لـ «دفْن» النأي بالنفس - رغم دعوة أمينه العام السيد حسن نصرالله قبل أيام لوضْع ملفّ التطبيع مع سوريا جانباً لمرحلة ما بعد تأليف الحكومة - وذلك منذ أن استقبلت قيادته الوفد الحوثي، فيما شكّل الاتصال الذي كُشف عن حصوله بين الرئيس عون والرئيس السوري بشار الأسد إشارة انتهاء سياسة تحييد الملفات الخلافية.
وتساءت الأوساط عن تداعيات «موت» التسوية بمرتكزاتها، رغم معاندة بعض أطرافها الإقرار بذلك، على ملف تأليف الحكومة وإذا كان موقف «حزب الله» يعكس قراراً باعتماد «قواعد سلوك» سياسية جديدة من شأنها المزيد من احتجاز الحكومة وجعل هذا الملف جزءاً من لعبة الأوراق المتصلة بالأجندة الإيرانية وذلك في غمرة الرسائل الدولية للبنان بضرورة البقاء تحت «خيمة» النأي بالنفس.
"الراي الكويتية" - 1 أيلول 2018
إرسال تعليق