يكفي التفكير في المعادلة الآتية لمعرفة أولويّات الناس واهتماماتهم: الرئيس بشير الجميل الذي شكّل عنواناً انقسامياً في حياته الحزبية، عاد وشكّل عنواناً جامعاً في أيامه الرئاسية المعدودة. لماذا؟
شكّل الشهيد بشير الجميل رأس حربة سياسية للقضية التي آمن بها، ما جعل الموقف منه في غاية الوضوح: إما معه، واستطراداً مع القضية التي يناضل في سبيلها، وإما ضده وضد القضية التي يحملها، وحدّته التي كانت تعبِّر عن وجعه ممّا آلت إليه الأحداث والأوضاع، جعلت الفرز سهلاً بين مَن معه حتى العشق ومَن ضده حتى الكره والبغض.
والسؤال الذي طرح ويطرح نفسه بقوة: كيف نجح بشير الجميل في كسر حواجز البغض حياله والخوف من مشروعه مع انتخابه رئيساً؟
الرئيس الشهيد، ومع انتخابه، لم يبدِّل في أفكاره ولم يتراجع عن أهدافه ولم يعدِّل في مشروعه، ولذلك كان يُفترض أن يستمرّ الانقسام حول شخصه بين مَن يؤيّده ومَن يعارضه، ولكنّ الوضع اختلف تماماً بعد انتخابه للأسباب الآتية:
أولاً، لأنّ الناس لمست في خطابه أن لا أثر لمنطق الغالب والمغلوب والمنتصر والمهزوم وأنّ انتخابه هو انتصار لفئة لبنانية على أخرى، بل رأت في كل العناوين التي أطلقها وأثارها ما يطمئنها إلى مستقبلها في هذا البلد.
ثانياً، لأنّ الناس كانت ملّت من الحرب وويلاتها وفظائعها والدمار الذي خلفته في الحجر والبشر بعد سبعة أعوام أكلت الأخضر واليابس، فرأت في انتخاب بشير فرصةً لإنهاء الحرب وإحلال السلام وعودة الاستقرار.
ثالثاً، لأنّ الناس كانت متعطّشة إلى الدولة والدستور والقانون والمؤسسات والانتظام والنظام، فوجدت في خطاب الرئيس المنتخب ما يروي غليلها ويجسِّد تطلعاتها وآمالها وطموحاتها في عودة الدولة التي كانت اعتقدت أنها زالت إلى غير رجعة.
رابعاً، لأنّ الناس لم تعتد منذ زمن طويل على خطاب سياسي جامع يركِّز على المشترك ويبتعد من المختلف، يركِّز على يومياتها وهمومها وأوجاعها الاقتصادية والمالية والاجتماعية، كما لم ترَ في خطابه وعوداً فارغة أو كلاماً للكلام، بل رأت تصميماً وإصراراً على نقلها من الواقع المأسوي التي هي فيه إلى واقع مختلف تماماً.
خامساً، لأنّ الناس حفظت من زمن الرئيس فؤاد شهاب أنّ أكلة الجبنة أقوى من الدولة وسيأكلونها وينهشونها، وأنّ علّة لبنان هي الفساد الذي ولّد هوّة سحيقة بين المواطن والدولة، فتراجع انتماؤه للبنان والدولة، ولكنها وجدت في خطاب الرئيس الشاب فرصةً لدفن دولة المزرعة التي هاجمها مراراً وتكراراً، وقيام الدولة المنشودة.
سادساً، لأنّ الناس رأت ولمست في عنفوان البشير وقوّته واندفاعته وتصميمه الفرصة الفعلية لإعلاء الدولة وقيام حكم القانون والمؤسسات. فالحكم هيبة، وما لم يشعر كل مواطن داخل الدولة وخارجها أنّ سقفه هو القانون وأنّ تجاوزه لهذا السقف سيعرِّضه للمساءلة والمحاسبة لن تستقيم الأمور ولن يقوم بلد.
وقد شعرت الناس مع انتخاب بشير بعودة الهيبة إلى الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها، كما شعرت بالثقة كون بشير يوحي بخطابه ونبرته بتلك الثقة التي فُقدت طويلاً، فباتت متأكدةً أنّ ما يقوله قادرٌ على تنفيذه، ونتيجة الهيبة والثقة استعادت الأمل بمستقبلها في لبنان.
كانت ٢٠ يوماً ويوم كافية لإثبات ثلاث مسائل أساسية:
المسألة الأولى، أنّ الشعب اللبناني قادر على تجاوز انقساماته وخلافاته متى وجَد مَن يولي شؤونه الحياتية الأولوية، ويضمن أمنه واستقراره وحرّيته وديموقراطيته. الناس تريد العيش بكرامة وبحبوحة ومساواة أمام القانون، وأحد أسباب تخلّيها عن الدولة يكمن في تخلّي الدولة عنها.
المسألة الثانية أنّ لبنان ليس دولة فاشلة وأنّ الفشل ليس قدر اللبنانيين، ولكنّ المشكلة أنه لم يوجد في سدّة المسؤولية مَن يملك القرار والتوجّه والإرادة لتحويل لبنان إلى دولة ناجحة. ولا توجد دولة ناجحة وأخرى فاشلة لأسباب توارثية أو تكوينية، إنما الفشل أو النجاح مرتبط بإرادة الشعب بإنجاح تجربته، والشعب اللبناني المقيم والمغترب أثبت عن نجاحات وإنجازات، إلّا أنّ مكمن الخلل البنيوي هو في تعاقب مَن تحمّل المسؤولية ولم يتحمّل مسؤوليّته بالشكل والقدر المطلوبين.
المسألة الثالثة أنّ ما تحقق مع الرئيس المنتخب ليس استثناءً ولمرة واحدة وأخيرة، فالرئيس الشهيد لم يصنع العجائب، إنما تكلّم بعفوية وصدق وعنفوان وصراحة بثلاثة عناوين أساسية: دولة قوية وسيدة على أرضها، القانون فوق الجميع وهو الحُكم والحَكم، والأولوية للإنسان اللبناني.
بشير الجميل ليس حلماً بل حقيقة عاشها الشعب اللبناني في فترة انتخابه، وهذه الحقيقة يمكن أن تتكرّر مع أيّ رئيس يتّخذ قراراً بمكافحة الفساد فعلاً لا قولاً، ويجعل القانون في الموقع الذي يُعلى فيه ولا يُعلى عليه، ويمنع الرشوة والزبائنية والمحاصصة ويُخضع الجميع للمساءلة والمحاسبة.
ولا علاقة لهذه المسألة بالصلاحيات، بل تتعلق بأمر واحد أوحد: وجود قرار سياسي بقيام دولة، ولن يستطيع أحد الوقوف في وجهه، بل هو قادر على إحراج الجميع، والاعتبارات الإقليمية أو الخلافية تسقط لوحدها متى وُجد مَن يعطي الناس حقوقها البديهية.
وقد يكون الظرف الحالي أكثر ظرف مؤات، لأنّ الناس موحَّدة بالقرف من كل شيء، من زحمة السير وغياب فرص العمل والضائقة الاقتصادية والفساد والمحسوبيات والنفايات والتلوّث (...)، ومتى وُجد مَن يوحي للناس بالهيبة والثقة والأمل ستتخلّى عن ترسيماتِها السياسية لمصلحة أولوياتها الحياتية والمستقبلية.
يخطئ مَن يعتقد أنّ تجربة ٢٣ آب ١٩٨٢ لن تتكرّر، فالرئيس بشير الشهيد لم يقل شيئاً غيرَ مألوف، بل تكلم بالمألوف نفسه، وخطابه أكثر من بديهي ويجب أن يكون القاعدة لا الاستثناء، وإذا كانت شكّلت تجربتُه استثناءً، فهذه التجربة ستتكرّر، وكل عوامل تكرارها بدأت تتجمّع. ومَن يَعِشْ يرَ.
شكّل الشهيد بشير الجميل رأس حربة سياسية للقضية التي آمن بها، ما جعل الموقف منه في غاية الوضوح: إما معه، واستطراداً مع القضية التي يناضل في سبيلها، وإما ضده وضد القضية التي يحملها، وحدّته التي كانت تعبِّر عن وجعه ممّا آلت إليه الأحداث والأوضاع، جعلت الفرز سهلاً بين مَن معه حتى العشق ومَن ضده حتى الكره والبغض.
والسؤال الذي طرح ويطرح نفسه بقوة: كيف نجح بشير الجميل في كسر حواجز البغض حياله والخوف من مشروعه مع انتخابه رئيساً؟
الرئيس الشهيد، ومع انتخابه، لم يبدِّل في أفكاره ولم يتراجع عن أهدافه ولم يعدِّل في مشروعه، ولذلك كان يُفترض أن يستمرّ الانقسام حول شخصه بين مَن يؤيّده ومَن يعارضه، ولكنّ الوضع اختلف تماماً بعد انتخابه للأسباب الآتية:
أولاً، لأنّ الناس لمست في خطابه أن لا أثر لمنطق الغالب والمغلوب والمنتصر والمهزوم وأنّ انتخابه هو انتصار لفئة لبنانية على أخرى، بل رأت في كل العناوين التي أطلقها وأثارها ما يطمئنها إلى مستقبلها في هذا البلد.
ثانياً، لأنّ الناس كانت ملّت من الحرب وويلاتها وفظائعها والدمار الذي خلفته في الحجر والبشر بعد سبعة أعوام أكلت الأخضر واليابس، فرأت في انتخاب بشير فرصةً لإنهاء الحرب وإحلال السلام وعودة الاستقرار.
ثالثاً، لأنّ الناس كانت متعطّشة إلى الدولة والدستور والقانون والمؤسسات والانتظام والنظام، فوجدت في خطاب الرئيس المنتخب ما يروي غليلها ويجسِّد تطلعاتها وآمالها وطموحاتها في عودة الدولة التي كانت اعتقدت أنها زالت إلى غير رجعة.
رابعاً، لأنّ الناس لم تعتد منذ زمن طويل على خطاب سياسي جامع يركِّز على المشترك ويبتعد من المختلف، يركِّز على يومياتها وهمومها وأوجاعها الاقتصادية والمالية والاجتماعية، كما لم ترَ في خطابه وعوداً فارغة أو كلاماً للكلام، بل رأت تصميماً وإصراراً على نقلها من الواقع المأسوي التي هي فيه إلى واقع مختلف تماماً.
خامساً، لأنّ الناس حفظت من زمن الرئيس فؤاد شهاب أنّ أكلة الجبنة أقوى من الدولة وسيأكلونها وينهشونها، وأنّ علّة لبنان هي الفساد الذي ولّد هوّة سحيقة بين المواطن والدولة، فتراجع انتماؤه للبنان والدولة، ولكنها وجدت في خطاب الرئيس الشاب فرصةً لدفن دولة المزرعة التي هاجمها مراراً وتكراراً، وقيام الدولة المنشودة.
سادساً، لأنّ الناس رأت ولمست في عنفوان البشير وقوّته واندفاعته وتصميمه الفرصة الفعلية لإعلاء الدولة وقيام حكم القانون والمؤسسات. فالحكم هيبة، وما لم يشعر كل مواطن داخل الدولة وخارجها أنّ سقفه هو القانون وأنّ تجاوزه لهذا السقف سيعرِّضه للمساءلة والمحاسبة لن تستقيم الأمور ولن يقوم بلد.
وقد شعرت الناس مع انتخاب بشير بعودة الهيبة إلى الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها، كما شعرت بالثقة كون بشير يوحي بخطابه ونبرته بتلك الثقة التي فُقدت طويلاً، فباتت متأكدةً أنّ ما يقوله قادرٌ على تنفيذه، ونتيجة الهيبة والثقة استعادت الأمل بمستقبلها في لبنان.
كانت ٢٠ يوماً ويوم كافية لإثبات ثلاث مسائل أساسية:
المسألة الأولى، أنّ الشعب اللبناني قادر على تجاوز انقساماته وخلافاته متى وجَد مَن يولي شؤونه الحياتية الأولوية، ويضمن أمنه واستقراره وحرّيته وديموقراطيته. الناس تريد العيش بكرامة وبحبوحة ومساواة أمام القانون، وأحد أسباب تخلّيها عن الدولة يكمن في تخلّي الدولة عنها.
المسألة الثانية أنّ لبنان ليس دولة فاشلة وأنّ الفشل ليس قدر اللبنانيين، ولكنّ المشكلة أنه لم يوجد في سدّة المسؤولية مَن يملك القرار والتوجّه والإرادة لتحويل لبنان إلى دولة ناجحة. ولا توجد دولة ناجحة وأخرى فاشلة لأسباب توارثية أو تكوينية، إنما الفشل أو النجاح مرتبط بإرادة الشعب بإنجاح تجربته، والشعب اللبناني المقيم والمغترب أثبت عن نجاحات وإنجازات، إلّا أنّ مكمن الخلل البنيوي هو في تعاقب مَن تحمّل المسؤولية ولم يتحمّل مسؤوليّته بالشكل والقدر المطلوبين.
المسألة الثالثة أنّ ما تحقق مع الرئيس المنتخب ليس استثناءً ولمرة واحدة وأخيرة، فالرئيس الشهيد لم يصنع العجائب، إنما تكلّم بعفوية وصدق وعنفوان وصراحة بثلاثة عناوين أساسية: دولة قوية وسيدة على أرضها، القانون فوق الجميع وهو الحُكم والحَكم، والأولوية للإنسان اللبناني.
بشير الجميل ليس حلماً بل حقيقة عاشها الشعب اللبناني في فترة انتخابه، وهذه الحقيقة يمكن أن تتكرّر مع أيّ رئيس يتّخذ قراراً بمكافحة الفساد فعلاً لا قولاً، ويجعل القانون في الموقع الذي يُعلى فيه ولا يُعلى عليه، ويمنع الرشوة والزبائنية والمحاصصة ويُخضع الجميع للمساءلة والمحاسبة.
ولا علاقة لهذه المسألة بالصلاحيات، بل تتعلق بأمر واحد أوحد: وجود قرار سياسي بقيام دولة، ولن يستطيع أحد الوقوف في وجهه، بل هو قادر على إحراج الجميع، والاعتبارات الإقليمية أو الخلافية تسقط لوحدها متى وُجد مَن يعطي الناس حقوقها البديهية.
وقد يكون الظرف الحالي أكثر ظرف مؤات، لأنّ الناس موحَّدة بالقرف من كل شيء، من زحمة السير وغياب فرص العمل والضائقة الاقتصادية والفساد والمحسوبيات والنفايات والتلوّث (...)، ومتى وُجد مَن يوحي للناس بالهيبة والثقة والأمل ستتخلّى عن ترسيماتِها السياسية لمصلحة أولوياتها الحياتية والمستقبلية.
يخطئ مَن يعتقد أنّ تجربة ٢٣ آب ١٩٨٢ لن تتكرّر، فالرئيس بشير الشهيد لم يقل شيئاً غيرَ مألوف، بل تكلم بالمألوف نفسه، وخطابه أكثر من بديهي ويجب أن يكون القاعدة لا الاستثناء، وإذا كانت شكّلت تجربتُه استثناءً، فهذه التجربة ستتكرّر، وكل عوامل تكرارها بدأت تتجمّع. ومَن يَعِشْ يرَ.
شارل جبور - "الجمهورية" - 20 آب 2018
إرسال تعليق