يكاد لا يخلو برنامج انتخابي أو خطاب سياسي في هذه الأيام من "الازمة" الدعوة إلى مكافحة الفساد وملاحقته، لِما ينطوي عليه هذا الشعار البرّاق من جاذبية يحتاج إليها مرشحون كُثر، يفتقرون إلى "الوسامة" السياسية. لكنّ المفارقة المستمرّة في لبنان هي أنّ هناك الكثير من الفساد والقليلَ مِن الفاسدين.
تضجّ الساحة الداخلية بالكلام حول الصفقات المشبوهة والهدر الفاضح، على وقعِ اتهامات متبادلة، وثقيلة الوزن، بين الاطراف الممسكة بزمام السلطة ومقدّراتها، إلّا أنّ الحصانات الطائفية والسياسية تحمي المرتكبين الذين يصبحون فجأةً بلا أسماء وملامح، حرصاً على التوازنات اللبنانية والسِلم الأهلي!
إزاء هذه الحقيقة المؤلمة، خرَج قاضٍ كبير عن صمته المزمِن، و"أفرج" عن بعض مكنوناته التي كانت مسجونة خلف قضبان "التكتّم القضائي"، ليبوح في مجلسٍ خاص بما يدور في باله وما يخفيه في جعبته.
يقول القاضي المتحسّر على الواقع المرير، إنّ الفساد منتشر في كثير من أنحاء العالم، وهو يشكّل ظاهرة قديمة، لكنّه في لبنان متميّز وله خصائص إضافية تحوّله "فساد إكسترا"، ملاحظاً أنّ في الماضي كان يوجد بعض الحياء، أمّا حالياً فقد طقّ شرش الحياء وصار كلّ شيء مباحاً ومستباحاً. ويشير إلى أنه كان يعوّل على قانون الانتخاب لإنتاج طبقة سياسية جديدة تكون قادرةً على خوض تحدّي الإصلاح ومكافحة الفساد، لكنْ تبيّن أنّ القانون الذي تمّ اعتماده لا يَسمح بإحداث تغيير حقيقي.
ويروي القاضي تجربةً شخصية تؤشّر إلى حجم تجاهلِ السياسيين لدور السلطة القضائية، موضحاً أنّ هناك وزيراً متّهَما بارتكاب مخالفات معيّنة في وزارته، أصَرّ ولا يزال على رفض المثولِ أمامه للإدلاء بإفادته، على رغم الإلحاح عليه للحضور مراراً، و"قد حصَل أن التقيتُ به مرّةً، فبادرتُه إلى القول: "أنا أعرف أنك لم تحضر إلى العدلية وقد لا تأتي بتاتاً، وأنّ طائفتك ومنطقتك ستهبّان ضدّنا إذا حاولتُ استدعاءَك قسراً، أمّا إذا كان المستدعى أو المُلاحَق هو مواطن عادي فإنّ دوريةً أمنية تقتاده فوراً إلى القضاء".
ويضيف القاضي الرفيع المستوى: "أقول بكلّ مرارة وحرقة إنّ أسوأ الفاسدين وأكبرَهم يحتمون بالطائفة والمذهب، وأنا أستغرب أن يتطوّع الناس لحماية هؤلاء الذين يسيئون إلى طوائفهم ومذاهبهم بالدرجة الأولى". ويلفت هذا القاضي "المنتفض" الانتباه إلى أنّ "هذه السلبية حيال القضاء لا تقتصر على كبار القوم في الدولة، بل تشمل أيضاً موظفين عاديين"، ويقول: "تصوّر أنّ موظفا في إحدى الوزارات، وهو بصفة رئيس دائرة، امتنَع بدوره عن المثول أمامي للبتّ بملف معيّن، مع أنني طلبتُ الاستماع إليه شاهداً وليس متّهَماً، ويبدو أنّ الوزير المسؤول عنه يغطّيه...".
ويتابع القاضي سرد معاناته قائلاً: "مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية لاحظتُ أنّ المخالفات كثرَت في المشاعات، وأنّ الناس "فلتانة"، والأرجح أنّ هناك "قبِة باط" أو حماية لهم من مرشّحين إلى الانتخابات يفترضون أنّ كلّ مخالفة يغطّونها تساوي مجموعةً مِن الأصوات".
ويؤكّد القاضي الذي أنيطَت به ملفّات حسّاسة، أنّ "هناك نظاماً قانونياً فاسداً يَحمي الفاسدين والمفسِدين الكبار في لبنان، بينما يقتصر العقاب على الصغار ممّن ليس لهم "ظهر" يَستندون إليه". ويتساءل: "أين هي هيئة محاكمة الوزراء والنواب؟ وأين هو قانون الإثراء غير المشروع أو مِن أين لك هذا؟ هل تعلم أنّ هذا القانون لم يطبَّق مرّةً واحدة منذ إقراره، لأنّ المشرّع وضَع فيه عقباتٍ تُعرقل تنفيذه، من نوعِ اشتراط تسديدِ كفالة مقدارُها 25 مليون ليرة على كلّ من يريد أن يرفع دعوى إثراء غير مشروع، بحيث إنّ المدّعي لا يمكنه أن يستعيد هذا المبلغ إذا خسر الدعوى، وهذا ما يفسّر أنّ أحداً لا يتقدّم بادّعاء في هذا المجال خشيةً مِن خسارة الكفالة".
ويشير القاضي "الغاضب" إلى أنّ كتبَ "التربية المدنية" في لبنان لا تتضمّن أيَّ نصّ يتعلق بمكافحة الفساد"، معتبراً أنّ "هذه الثغرة تحمل دلالات سلبية تعكس نمط التعاطي الرسمي مع هذا الملف". ويشدّد على ضرورة "وضعِ استراتيجية متكاملة لمكافحة الفساد، بمشاركة الجميع، لأنّ مِثل هذه المهمّة ليست من اختصاص جهة واحدة فقط في الدولة، بل هي تتطلب تضافرَ الجهود وتكامل الأدوار، ولكن يبدو أنه لا يوجد بعدُ قرارٌ سياسي شامل بإنجاز تلك الاستراتيجية وتنفيذِها".
ويَعتبر هذا القاضي الرفيع المستوى أنّ "الإطار السياسي المطلوب لمعالجة ظاهرة الفساد يتمثّل في إلغاء الطائفية السياسية، وإجراء الانتخابات النيابية وفق النسبية خارج القيد الطائفي وعلى أساس لبنان دائرة واحدة، إلّا أنه يجب الإقرار بأنّ هذا الطموح غير قابل للتحقّق قريباً".
وأمام الانسداد في "شرايين الإصلاح"، يذهب القاضي بعيداً في جرأته، قائلاً: "بصراحة، البلد أصبح يحتاج إلى "فرّامة".. يجب هدمُ ما بُنيَ على فسادٍ وباطل، وإعادةُ بنائه من جديد على قواعد سليمة". ويشدّد على أنّ "القاضي يستطيع أن يكون مستقلاً ونزيهاً، مهما اشتدّت الضغوط السياسية عليه، وهذا الأمر يتوقّف في نهاية المطاف على شخصية القاضي، وهو بالتأكيد يستطيع أن يضيء شمعةً حيث يكون، وفي إمكانه أن يتصدّى لكلّ المداخلات، إلى أن يقطعوا الأملَ منه". ويتابع: "كلّما استلمتُ قضية يَكثر المتّصلون بي من أصحاب النفوذ، لكنّني لا أعطيهم مجالاً، وأبلِغ إليهم أنّني سأتصرّف ضِمن حيّزِ القانون".
تضجّ الساحة الداخلية بالكلام حول الصفقات المشبوهة والهدر الفاضح، على وقعِ اتهامات متبادلة، وثقيلة الوزن، بين الاطراف الممسكة بزمام السلطة ومقدّراتها، إلّا أنّ الحصانات الطائفية والسياسية تحمي المرتكبين الذين يصبحون فجأةً بلا أسماء وملامح، حرصاً على التوازنات اللبنانية والسِلم الأهلي!
إزاء هذه الحقيقة المؤلمة، خرَج قاضٍ كبير عن صمته المزمِن، و"أفرج" عن بعض مكنوناته التي كانت مسجونة خلف قضبان "التكتّم القضائي"، ليبوح في مجلسٍ خاص بما يدور في باله وما يخفيه في جعبته.
يقول القاضي المتحسّر على الواقع المرير، إنّ الفساد منتشر في كثير من أنحاء العالم، وهو يشكّل ظاهرة قديمة، لكنّه في لبنان متميّز وله خصائص إضافية تحوّله "فساد إكسترا"، ملاحظاً أنّ في الماضي كان يوجد بعض الحياء، أمّا حالياً فقد طقّ شرش الحياء وصار كلّ شيء مباحاً ومستباحاً. ويشير إلى أنه كان يعوّل على قانون الانتخاب لإنتاج طبقة سياسية جديدة تكون قادرةً على خوض تحدّي الإصلاح ومكافحة الفساد، لكنْ تبيّن أنّ القانون الذي تمّ اعتماده لا يَسمح بإحداث تغيير حقيقي.
ويروي القاضي تجربةً شخصية تؤشّر إلى حجم تجاهلِ السياسيين لدور السلطة القضائية، موضحاً أنّ هناك وزيراً متّهَما بارتكاب مخالفات معيّنة في وزارته، أصَرّ ولا يزال على رفض المثولِ أمامه للإدلاء بإفادته، على رغم الإلحاح عليه للحضور مراراً، و"قد حصَل أن التقيتُ به مرّةً، فبادرتُه إلى القول: "أنا أعرف أنك لم تحضر إلى العدلية وقد لا تأتي بتاتاً، وأنّ طائفتك ومنطقتك ستهبّان ضدّنا إذا حاولتُ استدعاءَك قسراً، أمّا إذا كان المستدعى أو المُلاحَق هو مواطن عادي فإنّ دوريةً أمنية تقتاده فوراً إلى القضاء".
ويضيف القاضي الرفيع المستوى: "أقول بكلّ مرارة وحرقة إنّ أسوأ الفاسدين وأكبرَهم يحتمون بالطائفة والمذهب، وأنا أستغرب أن يتطوّع الناس لحماية هؤلاء الذين يسيئون إلى طوائفهم ومذاهبهم بالدرجة الأولى". ويلفت هذا القاضي "المنتفض" الانتباه إلى أنّ "هذه السلبية حيال القضاء لا تقتصر على كبار القوم في الدولة، بل تشمل أيضاً موظفين عاديين"، ويقول: "تصوّر أنّ موظفا في إحدى الوزارات، وهو بصفة رئيس دائرة، امتنَع بدوره عن المثول أمامي للبتّ بملف معيّن، مع أنني طلبتُ الاستماع إليه شاهداً وليس متّهَماً، ويبدو أنّ الوزير المسؤول عنه يغطّيه...".
ويتابع القاضي سرد معاناته قائلاً: "مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية لاحظتُ أنّ المخالفات كثرَت في المشاعات، وأنّ الناس "فلتانة"، والأرجح أنّ هناك "قبِة باط" أو حماية لهم من مرشّحين إلى الانتخابات يفترضون أنّ كلّ مخالفة يغطّونها تساوي مجموعةً مِن الأصوات".
ويؤكّد القاضي الذي أنيطَت به ملفّات حسّاسة، أنّ "هناك نظاماً قانونياً فاسداً يَحمي الفاسدين والمفسِدين الكبار في لبنان، بينما يقتصر العقاب على الصغار ممّن ليس لهم "ظهر" يَستندون إليه". ويتساءل: "أين هي هيئة محاكمة الوزراء والنواب؟ وأين هو قانون الإثراء غير المشروع أو مِن أين لك هذا؟ هل تعلم أنّ هذا القانون لم يطبَّق مرّةً واحدة منذ إقراره، لأنّ المشرّع وضَع فيه عقباتٍ تُعرقل تنفيذه، من نوعِ اشتراط تسديدِ كفالة مقدارُها 25 مليون ليرة على كلّ من يريد أن يرفع دعوى إثراء غير مشروع، بحيث إنّ المدّعي لا يمكنه أن يستعيد هذا المبلغ إذا خسر الدعوى، وهذا ما يفسّر أنّ أحداً لا يتقدّم بادّعاء في هذا المجال خشيةً مِن خسارة الكفالة".
ويشير القاضي "الغاضب" إلى أنّ كتبَ "التربية المدنية" في لبنان لا تتضمّن أيَّ نصّ يتعلق بمكافحة الفساد"، معتبراً أنّ "هذه الثغرة تحمل دلالات سلبية تعكس نمط التعاطي الرسمي مع هذا الملف". ويشدّد على ضرورة "وضعِ استراتيجية متكاملة لمكافحة الفساد، بمشاركة الجميع، لأنّ مِثل هذه المهمّة ليست من اختصاص جهة واحدة فقط في الدولة، بل هي تتطلب تضافرَ الجهود وتكامل الأدوار، ولكن يبدو أنه لا يوجد بعدُ قرارٌ سياسي شامل بإنجاز تلك الاستراتيجية وتنفيذِها".
ويَعتبر هذا القاضي الرفيع المستوى أنّ "الإطار السياسي المطلوب لمعالجة ظاهرة الفساد يتمثّل في إلغاء الطائفية السياسية، وإجراء الانتخابات النيابية وفق النسبية خارج القيد الطائفي وعلى أساس لبنان دائرة واحدة، إلّا أنه يجب الإقرار بأنّ هذا الطموح غير قابل للتحقّق قريباً".
وأمام الانسداد في "شرايين الإصلاح"، يذهب القاضي بعيداً في جرأته، قائلاً: "بصراحة، البلد أصبح يحتاج إلى "فرّامة".. يجب هدمُ ما بُنيَ على فسادٍ وباطل، وإعادةُ بنائه من جديد على قواعد سليمة". ويشدّد على أنّ "القاضي يستطيع أن يكون مستقلاً ونزيهاً، مهما اشتدّت الضغوط السياسية عليه، وهذا الأمر يتوقّف في نهاية المطاف على شخصية القاضي، وهو بالتأكيد يستطيع أن يضيء شمعةً حيث يكون، وفي إمكانه أن يتصدّى لكلّ المداخلات، إلى أن يقطعوا الأملَ منه". ويتابع: "كلّما استلمتُ قضية يَكثر المتّصلون بي من أصحاب النفوذ، لكنّني لا أعطيهم مجالاً، وأبلِغ إليهم أنّني سأتصرّف ضِمن حيّزِ القانون".
عماد مرمل - "الجمهورية" - 21 نيسان 2018
إرسال تعليق