كثيرون اعتقدوا أنّ أزمة "استقالة" الرئيس سعد الحريري في الرياض ستعطّل انزلاقَ لبنان "الخفيّ" والبطيء نحو محور طهران. لكنّهم فوجئوا بأنّ "الحالة اللبنانية" امتصّت مفاعيلَ الأزمة. وبعد أقلّ من شهر على عودة الحريري إلى مواقعه في بيروت، يعود الجميع إلى وضعية ما قبل "الاستقالة"، بكلّ ما فيها من تناقضات، ويمشي كلٌّ منهم "بالصف"... "مِتل الشاطر"!
مِن إيجابيات الأزمة الأخيرة أنّها كشَفت المواقف على حقيقتها داخل فريق 14 آذار. فالحريري كان يرى حتمية المضيّ في التسوية المعقودة في نهايات 2016، فيما تعتقد "القوات اللبنانية" أنّ مِن الممكن فرملة الاندفاع نحو تكريس نفوذ "حزب الله" والتطبيع مع دمشق الأسد.
الحريري في هذا المجال أكثر براغماتية من الدكتور سمير جعجع. فهو عندما تبنّى مرشّحاً من 8 آذار لرئاسة الجمهورية (فرنجية ثمّ عون) أدرَك مسبقاً أنّ التوازن في السلطة سيكون مختلّاً، وأن لا مجال لمقاومة هذا الخلل إلّا في حالٍ واحدة وهي أن تؤدي التسويات الآتية إلى الشرق الأوسط إلى تقليص نفوذ طهران والأسد و"حزب الله".
يبدو أنّ الحريري اقتنع جيّداً بأنّ مَن ينخرط في تسوية مختلّة التوازن عليه أن يقبل بكلّ مفاعيلها. ولكن، على النقيض، جاء جعجع مضطرّاً إلى تسوية 2016، ونفَّذ "انسحاباً تكتياً" من معركة الرئاسة نتيجة القرارات المفاجئة التي اتّخَذها حليفه الأزرق.
بين الحريري وجعجع حديثٌ طويل على الخطأ والصواب وتحديد المسؤوليات عن الهزيمة. لكنّ الحريري له منطقُه الخاص: "إنتظَرْنا طويلاً وكنّا سننتظر سنوات ولن يأتيَنا رئيس للجمهورية من 14 آذار. مفتاح المجلس والانتخابات ليس في جيبنا. وإذا استمرّ الانتظار، فستكون خسائرنا كبيرة داخل 14 آذار و"المستقبل"، وسيخسر البلد في الفراغ، ولكن لن يخسر "حزب الله".
دافعَ الحريري عن منطقه: "الأفضل أن أعود إلى بيروت وإلى رئاسة الحكومة، بعد غياب سنوات، وأن تعود 14 آذار بقوّة إلى الحكومة وتشاركَ في القرارات. وإذا كنّا نريد رئاسة الحكومة لـ"المستقبل"، أي لـ14 آذار، فإنّ 8 آذار لن تقبلَ إلّا بإعطائها رئاسة الجمهورية للتوازن. ولا بأس بالرئيس نبيه بري في رئاسة المجلس".
ليس هذا اقتناع جعجع. هو اختار تبنّي ترشيح عون على أساس أن تكون رئاسة الجمهورية أقربَ إلى منطق الدولة لا منطق "حزب الله" ومحوره الإقليمي. واعتقد أنّ "القوات" ستكون "الحزب المدلّل" في العهد، مكافأةً لها على تسهيل انتخاب الرئيس، وتالياً أن يكون جعجع هو الأقوى في العهد المقبل.
طبعاً، مراهنة جعجع فيها من الرومانسية أكثر بكثير ممّا في مراهنة الحريري من براغماتية. ولذلك، كان التصادم تلقائياً. ومن الظلم أن يقال في بعض أوساط "المستقبل"، بتحريض من خصوم "القوات"، إنّ جعجع هو الذي حرّض السعوديين على الحريري. فموقف جعجع الاعتراضي كان واضحاً على مدى أشهر في بيروت، داخلَ الحكومة وخارجها.
ولكن، على "القوات" أن تدركَ أنّ ما زُرِع في خريف 2016 لا يأتي إلّا بالثمار التي تراها اليوم. والمواجهة اليوم أصعب بكثير ممّا كانت قبل التسوية. وعلى الحريري وجعجع أن يقرّرا معاً: هل كان الأفضل أن يستمرّ الفراغ الرئاسي إلى أجَلٍ غير مسمّى ويبقى الحريري خارج البلد وجعجع خارج السلطة؟
في العمق، تعتبر "القوات" أنّ تلك الوضعية كانت أفضل. لكنّ الحريري لا يشاركها الرأيَ إطلاقاً. ففي أيّ حال، هو اليوم رئيس حكومة وزعيم طائفة كبيرة وشريك أساسي في القرارات والمشاريع، وهذه المكاسب لا يمكن تفويتُها. وأمّا "حزب الله" - فمهما فعلَ، فلن يستطيع ابتلاع البلد.
وفوق ذلك، يسعى الحريري إلى حماية نفسِه من "الابتلاع" بالتحالف مع رئيس الجمهورية، المسيحي الأقوى، وبناء شبكة مصالح معه تمنَحه القوّة وتعطّل أيّ محاولة لاستفراده. ولذلك، بات التحالف مع المسيحي الآخر، جعجع، أقلَّ حيويةً بالنسبة إلى الحريري. فما الذي سيقدّمه رئيس "القوات" طوال السنوات الـ 5 المقبلة من العهد؟
ضِمن هذه النظرة، تتبلوَر استراتيجية "المستقبل" للانتخابات المقبلة: الأولوية مصلحيّاً هي للتنسيق مع عون في الدرجة الأولى، لا مع "القوات"، وفي كلّ الدوائر التي يقع فيها التماسّ بين الناخبَين السنّي والمسيحي.
وكذلك، سيكون التنسيق حتمياً مع الرئيس نبيه بري (حيث الناخب الشيعي) والنائب وليد جنبلاط (حيث الناخب الدرزي). وبعد ذلك، يأتي دور الآخرين، ولا سيّما منهم "القوات"... إذا لم يتضارب تحالفُه مع "القوات" وتحالفه مع عون.
في الموازاة، لا يرغب عون في منحِ "القوات" ما تريده من "امتيازات" ثمناً لدعمِ ترشيحِه للرئاسة، ويهمّه أن يبقى الحريري أقربَ إلى "التيار"، من خلال الوزير جبران باسيل، لا إلى "القوات". لكن عون لا يرغب في خلق أجواء متشنّجة مع "القوات" لسببين: هو يريد منها الدعمَ في مواجهاتٍ ذات طابع مسيحي يخوضها وسيخوضها وتتعلّق بصلاحيات الرئاسة (مرسوم الترقيات مثالاً)، كذلك يريد إبقاءَ خيطِ التواصل مع "القوات" لمصلحةٍ انتخابية مشتركة في بعض الدوائر.
سيضطرّ الحريري إلى اعتماد خيارات انتقائية بين القوى المسيحية، وفقاً للحاجة. وستكون الأولوية لـ"التيار" على الرغم من أنّ المملكة العربية السعودية ستبذل الجهد الممكن لتمكين حلفائها من الفوز بغالبية المقاعد في المجلس النيابي المقبل، ولو مع المستقلّين والوسطيين وقوى الحراك المدني والمعترضين، أي أولئك المصنّفين خارج دائرة قرار "حزب الله". وهي ستُسخّر طاقتها لخلقِ تنسيق بين الحريري وجعجع وسائر الحلفاء في الانتخابات.
إذاً، في الانتخابات المقبلة، تريد السعودية أن تردّ الضربة لخصومها وتقلبَ المعادلة التي يسير فيها "التحالف السلطوي"، لأنّ خسارة الانتخابات ستؤسس لخسارةٍ تدوم في السنوات الـ 5 المقبلة من العهد.
في المقابل، يستعدُّ "حزب الله" لانتخابات يضمن فيها بالتأكيد غالبية المقاعد الشيعية، ولكن أيضاً هو يريد تحقيقَ "فتوحات" جديدة في المقاعد السنّية والدرزية والمسيحية، بحيث تأتي غالبية المجلس من 8 آذار. ولذلك سيتعاطى الانتخابات حتى في الدوائر التي لا حضور وازناً فيها للناخب الشيعي، كطرابلس وصيدا وبيروت.
ستكون الانتخابات في هذه الحال عبارةً عن عمليات ثأريّة: الحريري سيثأر من البعض (مسيحياً وسنّياً)، و"التيار الوطني الحر" سيثأر مسيحياً ("القوات") وشيعياً (بري)، و"القوات" لها ثأرُها المسيحي والسنّي والدرزي. وأمّا "حزب الله" فسيثأر من المرحلة التي سادت منذ 2005، وستحاول السعودية أن تثأرَ من نتائج الأزمة الأخيرة.
وهكذا، فإنّ الجميع ينتظر الجميع "على كوع" الانتخابات، على رغم أنّها "انتخابات افتراضية" حتى الآن، لا أحد يعرف "كوعَها مِن بوعِها"!
مِن إيجابيات الأزمة الأخيرة أنّها كشَفت المواقف على حقيقتها داخل فريق 14 آذار. فالحريري كان يرى حتمية المضيّ في التسوية المعقودة في نهايات 2016، فيما تعتقد "القوات اللبنانية" أنّ مِن الممكن فرملة الاندفاع نحو تكريس نفوذ "حزب الله" والتطبيع مع دمشق الأسد.
الحريري في هذا المجال أكثر براغماتية من الدكتور سمير جعجع. فهو عندما تبنّى مرشّحاً من 8 آذار لرئاسة الجمهورية (فرنجية ثمّ عون) أدرَك مسبقاً أنّ التوازن في السلطة سيكون مختلّاً، وأن لا مجال لمقاومة هذا الخلل إلّا في حالٍ واحدة وهي أن تؤدي التسويات الآتية إلى الشرق الأوسط إلى تقليص نفوذ طهران والأسد و"حزب الله".
يبدو أنّ الحريري اقتنع جيّداً بأنّ مَن ينخرط في تسوية مختلّة التوازن عليه أن يقبل بكلّ مفاعيلها. ولكن، على النقيض، جاء جعجع مضطرّاً إلى تسوية 2016، ونفَّذ "انسحاباً تكتياً" من معركة الرئاسة نتيجة القرارات المفاجئة التي اتّخَذها حليفه الأزرق.
بين الحريري وجعجع حديثٌ طويل على الخطأ والصواب وتحديد المسؤوليات عن الهزيمة. لكنّ الحريري له منطقُه الخاص: "إنتظَرْنا طويلاً وكنّا سننتظر سنوات ولن يأتيَنا رئيس للجمهورية من 14 آذار. مفتاح المجلس والانتخابات ليس في جيبنا. وإذا استمرّ الانتظار، فستكون خسائرنا كبيرة داخل 14 آذار و"المستقبل"، وسيخسر البلد في الفراغ، ولكن لن يخسر "حزب الله".
دافعَ الحريري عن منطقه: "الأفضل أن أعود إلى بيروت وإلى رئاسة الحكومة، بعد غياب سنوات، وأن تعود 14 آذار بقوّة إلى الحكومة وتشاركَ في القرارات. وإذا كنّا نريد رئاسة الحكومة لـ"المستقبل"، أي لـ14 آذار، فإنّ 8 آذار لن تقبلَ إلّا بإعطائها رئاسة الجمهورية للتوازن. ولا بأس بالرئيس نبيه بري في رئاسة المجلس".
ليس هذا اقتناع جعجع. هو اختار تبنّي ترشيح عون على أساس أن تكون رئاسة الجمهورية أقربَ إلى منطق الدولة لا منطق "حزب الله" ومحوره الإقليمي. واعتقد أنّ "القوات" ستكون "الحزب المدلّل" في العهد، مكافأةً لها على تسهيل انتخاب الرئيس، وتالياً أن يكون جعجع هو الأقوى في العهد المقبل.
طبعاً، مراهنة جعجع فيها من الرومانسية أكثر بكثير ممّا في مراهنة الحريري من براغماتية. ولذلك، كان التصادم تلقائياً. ومن الظلم أن يقال في بعض أوساط "المستقبل"، بتحريض من خصوم "القوات"، إنّ جعجع هو الذي حرّض السعوديين على الحريري. فموقف جعجع الاعتراضي كان واضحاً على مدى أشهر في بيروت، داخلَ الحكومة وخارجها.
ولكن، على "القوات" أن تدركَ أنّ ما زُرِع في خريف 2016 لا يأتي إلّا بالثمار التي تراها اليوم. والمواجهة اليوم أصعب بكثير ممّا كانت قبل التسوية. وعلى الحريري وجعجع أن يقرّرا معاً: هل كان الأفضل أن يستمرّ الفراغ الرئاسي إلى أجَلٍ غير مسمّى ويبقى الحريري خارج البلد وجعجع خارج السلطة؟
في العمق، تعتبر "القوات" أنّ تلك الوضعية كانت أفضل. لكنّ الحريري لا يشاركها الرأيَ إطلاقاً. ففي أيّ حال، هو اليوم رئيس حكومة وزعيم طائفة كبيرة وشريك أساسي في القرارات والمشاريع، وهذه المكاسب لا يمكن تفويتُها. وأمّا "حزب الله" - فمهما فعلَ، فلن يستطيع ابتلاع البلد.
وفوق ذلك، يسعى الحريري إلى حماية نفسِه من "الابتلاع" بالتحالف مع رئيس الجمهورية، المسيحي الأقوى، وبناء شبكة مصالح معه تمنَحه القوّة وتعطّل أيّ محاولة لاستفراده. ولذلك، بات التحالف مع المسيحي الآخر، جعجع، أقلَّ حيويةً بالنسبة إلى الحريري. فما الذي سيقدّمه رئيس "القوات" طوال السنوات الـ 5 المقبلة من العهد؟
ضِمن هذه النظرة، تتبلوَر استراتيجية "المستقبل" للانتخابات المقبلة: الأولوية مصلحيّاً هي للتنسيق مع عون في الدرجة الأولى، لا مع "القوات"، وفي كلّ الدوائر التي يقع فيها التماسّ بين الناخبَين السنّي والمسيحي.
وكذلك، سيكون التنسيق حتمياً مع الرئيس نبيه بري (حيث الناخب الشيعي) والنائب وليد جنبلاط (حيث الناخب الدرزي). وبعد ذلك، يأتي دور الآخرين، ولا سيّما منهم "القوات"... إذا لم يتضارب تحالفُه مع "القوات" وتحالفه مع عون.
في الموازاة، لا يرغب عون في منحِ "القوات" ما تريده من "امتيازات" ثمناً لدعمِ ترشيحِه للرئاسة، ويهمّه أن يبقى الحريري أقربَ إلى "التيار"، من خلال الوزير جبران باسيل، لا إلى "القوات". لكن عون لا يرغب في خلق أجواء متشنّجة مع "القوات" لسببين: هو يريد منها الدعمَ في مواجهاتٍ ذات طابع مسيحي يخوضها وسيخوضها وتتعلّق بصلاحيات الرئاسة (مرسوم الترقيات مثالاً)، كذلك يريد إبقاءَ خيطِ التواصل مع "القوات" لمصلحةٍ انتخابية مشتركة في بعض الدوائر.
سيضطرّ الحريري إلى اعتماد خيارات انتقائية بين القوى المسيحية، وفقاً للحاجة. وستكون الأولوية لـ"التيار" على الرغم من أنّ المملكة العربية السعودية ستبذل الجهد الممكن لتمكين حلفائها من الفوز بغالبية المقاعد في المجلس النيابي المقبل، ولو مع المستقلّين والوسطيين وقوى الحراك المدني والمعترضين، أي أولئك المصنّفين خارج دائرة قرار "حزب الله". وهي ستُسخّر طاقتها لخلقِ تنسيق بين الحريري وجعجع وسائر الحلفاء في الانتخابات.
إذاً، في الانتخابات المقبلة، تريد السعودية أن تردّ الضربة لخصومها وتقلبَ المعادلة التي يسير فيها "التحالف السلطوي"، لأنّ خسارة الانتخابات ستؤسس لخسارةٍ تدوم في السنوات الـ 5 المقبلة من العهد.
في المقابل، يستعدُّ "حزب الله" لانتخابات يضمن فيها بالتأكيد غالبية المقاعد الشيعية، ولكن أيضاً هو يريد تحقيقَ "فتوحات" جديدة في المقاعد السنّية والدرزية والمسيحية، بحيث تأتي غالبية المجلس من 8 آذار. ولذلك سيتعاطى الانتخابات حتى في الدوائر التي لا حضور وازناً فيها للناخب الشيعي، كطرابلس وصيدا وبيروت.
ستكون الانتخابات في هذه الحال عبارةً عن عمليات ثأريّة: الحريري سيثأر من البعض (مسيحياً وسنّياً)، و"التيار الوطني الحر" سيثأر مسيحياً ("القوات") وشيعياً (بري)، و"القوات" لها ثأرُها المسيحي والسنّي والدرزي. وأمّا "حزب الله" فسيثأر من المرحلة التي سادت منذ 2005، وستحاول السعودية أن تثأرَ من نتائج الأزمة الأخيرة.
وهكذا، فإنّ الجميع ينتظر الجميع "على كوع" الانتخابات، على رغم أنّها "انتخابات افتراضية" حتى الآن، لا أحد يعرف "كوعَها مِن بوعِها"!
طوني عيسى - "الجمهورية" - 17 كانون الثاني 2018
إرسال تعليق