0
ثلاثة أسابيع فقط انقضت بين نشر موسكو صور زيارة بشار، أو استدعائه كما أوحي بذلك، إلى سوتشي، ونشرها صور زيارة بوتين إلى قاعدة حميميم في سورية. في الحالتين، تعمد الروس نشر صور مهينة لبشار، وغير مألوفة في البروتوكول الديبلوماسي، وكان آخرها (في حميميم) التدخل الجسدي من قبل عسكري روسي لمنع بشار من اللحاق ببوتين.

قبلها كانت أوساط روسية مقربة من الكرملين قد شبّهت بشار بذنب الكلب، قبل أشهر من وصف ترامب له بالحيوان، وفي كل الحالات يتضح ذلك الإصرار الروسي على إذلاله علناً، لتكون الرسالة الأهم في الإشهار لا في الفعل نفسه.

مع صمت بشار على إهانات الحليف الروسي، يتوجب علينا فهم الرسالة التي تنص على وقوعه موقع الخانع المطواع. لكن مهلاً، لندع اعتبارات الكرامة الشخصية جانباً، ولنفكّر في المقايضة القائمة حالياً. فبالتزامن مع تسريب إهانات حميميم سُرّب خبر عن وجود تفاهم بين بوتين وترامب مفاده تفاهمهما على بقاء بشار حتى 2021، أي حتى انتهاء ولايته بموجب الدستور الذي فصّله على قياسه بعد عام من اندلاع الثورة. هذه المقايضة تذكّر أيضاً بإهانة ترامب له، وكانت تتضمن عملياً الاكتفاء بالضربة الأميركية المحدودة لمطار الشعيرات، إثر الهجوم الكيماوي على خان شيخون، وإعفاء بشار من المحاسبة على نقضه صفقة الكيماوي مع الإدارة الأميركية السابقة.

الحق، مع تنحية الاعتبارات الشخصية، أن المعنيّ يحظى بصفقة رابحة حالياً، انطلاقاً من أن هدفه «الأسمى» هو التشبث بالسلطة ومغانمها. في الأصل لم يكن من معنى لاستجلاب الاحتلال الإيراني والميليشيات الشيعية، ثم الاحتلال الروسي، سوى خدمة هذا الهدف، وكان محتماً أن يمر الاحتماء بتلك القوى بالتذلل أمامها، ما دامت العلاقة هي بين ضعيف مهزوم وقوي بات يملك زمام المبادرة. بالطبع، بعيداً من الاعتبارات الشخصية، يلزم أيضاً تنحية الحديث عن السيادة الوطنية، فالمقايضة هي بين محتلين كبار لهم حساباتهم الاستراتيجية ومتشبث مكتفٍ بالسلطة ضمن الحسابات الأصغر.

مع ذلك، ثمة ما يثير الارتياب في الإصرار الروسي على إظهار السيطرة المطلقة على بشار، حتى مع تفهّم نزعة استعراض القوة لدى بوتين. الأخير لا يحتاج لإثبات سطوته على الأول أمام الغرب، لأن أجهزة الاستخبارات الدولية قادرة على معرفة خريطة توزع القوى في سورية، ولا يحتاج لإيصال هذه الرسالة إلى الحليف الإيراني «الصامت» لأنه أقدر من غيره على معرفة مدى سطوة كل منهما. وإذا كانت السطوة حقيقية فمدلولها أن كل ما يفعله تنظيم الأسد هو بإشراف روسي مباشر، بما في ذلك أداء وفده في مفاوضات جنيف وشروطه التي تنص تحديداً على إسقاط المعارضة مطلب تنحي بشار، لنعود إلى معادلة الإذلال مقابل البقاء.

سيكون أيضاً من الخطأ الظن، كما يذهب بعض التحليلات، أن إعلان بوتين من حميميم سحب جزء من قواته هو شكل إضافي من أشكال الضغط على بشار. وهو كما نعلم الإعلان الثالث من نوعه، من دون ترجمة على الأرض، بل هو أعقب الإعلانين السابقين زيادة في عدد القوات وفي عتادها. إذا صدق الإعلان، على رغم تقليل الإدارة الأميركية من صدقيته، فهو على الأرجح خبر سار لبشار مع تراجع الخطر على قواته، ومع إدراكه أن الروس لن يضحوا بالنصر الذي يتباهون فيه، ويحاولون الإيحاء بأن نصرهم وحدهم في تجاهل للميليشيات الإيرانية والشيعية الشريكة في القتال على الأرض.

حتى موعد ترجمة ألفاظ ومشاهد الإذلال بشكل مختلف، يمكن فهمها بغير طريقة أيضاً. قد تفيد إضافة وزير الخارجية الفرنسي الذي وصَفه مؤخراً بالوحش، لكنْ الوحش الموجود والذي لا حيلة إزاء بقائه! فأن يوصف شخص بكافة الأوصاف التي ينبغي أن تؤدي إلى إزاحته من أدنى موقع قيادي وأن تخضعه للمحاكمة، وأن يُعامل واقعياً أدنى بكثير من موقعه الشكلي، ثم يُفرض بقاؤه رئيساً على السوريين، فهذا يرقى لأن يكون تنكيلاً متعمداً لم يُمارس في حق شعب آخر. في الحالة الفلسطينية مثلاً، كان هناك دائماً إنكار للإرهاب الإسرائيلي يسوّغ دعمه، ما يعني الاحتفاظ بقليل من الحياء تجاه المعايير الإنسانية عامةً. شماتة قسم معتبر من السوريين بإذلال بشار تصلح للاستهلاك البَيْني فقط، بوصفها رداً على شماتة مواليه المحتفية ببقائه بأي ثمن إلى الآن.

هذا في الأمد القريب، أما إذا استرجعنا السابقة الوحيدة في المنطقة فقد نصل إلى النهاية المنطقية. القوى الدولية التي أذلت ديكتاتوراً من وزن صدام حسين، بتفتيش غرف نومه في قصوره، فضلاً عن النعوت السلبية التي راحت تسبق أو تلحق باسمه، لم تكتفِ بالإذلال بل صار بقاؤه مع فضيحة الإذلال عبئاً عليها. ويبقى الإذلال الحقيقي الذي تعرض له صدام هو مثوله أمام المحكمة، على رغم ما شابها من استعجال ثأري منعَ محاكمات أخرى، وعلى رغم أدائه المتمكن فيها. ديكتاتور مثل صدام لم يدفعه الإذلال السابق إلى التنحي، أو إلى وضع حد لحياته بنفسه، وهذا سلوك معتاد لدى طغاة المنطقة يؤكد على أن الجشع للسلطة ومكاسبها يتفوق على الاعتبارات الشخصية كما يفهمها الأناس الطبيعيون.

في كل الأحوال، لا سلوى حقيقية يقدّمها تصغير بشار، طالما بقي على حساب التصفير المطلوب لما يُعرف بعقدة الأسد. الإيحاء بأن ورقة بشار مُمسَكة جيداً شأن مختلف عن رميها، أو عن المطالبة بثمن باهظ لقاء رميها، وهو الثمن الذي لا يريد الغرب دفعه. رهان بشار الأكبر لم يعد على حلفاء يتلهفون لقبض الثمن، وإنما على خصوم لا يرون حاجة إلى دفعه، مع افتراق في مصالح الحليفين، إذ تسعى موسكو إلى قبض الثمن دولياً بينما تريد طهران قبضه إقليمياً.

سيكون مؤسفاً بالطبع أن ثمناً ما سيُدفع في مكان آخر لقاء هذه الصفقة، أو أن تبقى الحال على ما هي عليه فيدفع السوريون وحدهم الثمن. كان يمكن تلافي هذا الوضع بوضع العراقيل أمام طموحات بوتين، بدل انتظار أن تحترق هذه الورقة في يده فيقتضي التعقل رميها، فضلاً عن الافتقار الحالي إلى قيادة دولية تقدّم مثلاً مرموقاً عن التعقل.

عمر قدور - "الحياة" - 17 كانون الأول 2017

إرسال تعليق

 
Top