0
بلغ الدين العام اللبناني مستويات خطيرة يصعب معها على الدولة السيطرة على الإنتظام المالي. هذا الواقع يُنذر بمرحلة قادمة ستكون زيادة الضرائب عنوانها الأساسي كما تنص عليها النظرية الإقتصادية «دين اليوم هو ضرائب الغد». وبالتالي يُطرح السؤال الأساسي: كيف وصل الدين العام إلى هذا المُستوى وما هي الحلول للخروج من هذه الأزمة؟ 
 
لا يُخفى على أحد أن مستوى الدين العام الذي وصل إليه لبنان (77 مليار دولار أميركي في تمّوز 2017 أي 154% من الناتج المحلّي الإجمالي) أصبح مُقلقًا ويطرح السؤال عن مدى إمكانية السيطرة عليه في ظل تراجع النمو الإقتصادي وعدم ظهور بوادر إيجابية لتحفيز هذا النمو وغياب السياسات الإقتصادية وإرتفاع نسبة الهدر والفساد. كل هذا يؤدّي إلى مخاوف حقيقة لا تمّحوها أحلام إستخراج البترول ولا القوانين الإنتخابية.

النظرية الإقتصادية

النظرية الإقتصادية لا تمنع الإستدانة خصوصًا أن لها فوائد على صعيد الرافعة (Leverage) أي أنها تُعظّم المردود المالي للدولة إذا ما كان مستوى الدين في نطاق مقبول. من هذا المُنطلق، وضعت القوى الإقتصادية المُتطوّرة معايير تضبط من خلالها مستوى الدين العام على مثال الإتحاد الأوروبي الذي وضع عتبة الـ 60% من الناتج المحلّي الإجمالي كحدّ أقصى للإشتراك في العملة المُوحّدة.

تنصّ النظرية الإقتصادية على أن المالية العامّة للدوّلة تخضع لعدد من القيود من ناحية أن تمويل النفقات الإجمالية في الميزانية لكل سنة مالية من الضرائب أو من الإصدارات لسندات خزينة.

هذه القيود تُترجم في المُعادلة الحسابية التالية:

الإصدارات الجديدة (أو زيادة الدين العام) + الإيرادات الضريبية = خدمة الدين العام + الإنفاق العام.

من هذا المُنطلق نرى أن الدوّلة لا يُمكنها أن تُغطّي إنفاقها إلا من خلال الإستدانة أو الضرائب. وبما أن الضرائب في معظمها هي ضرائب على النشاط الإقتصادي، لذا من الطبيعي القول أنه في حال تراجع الإقتصاد هناك إلزامية للدوّلة اللبنانية للجوء إلى الإستدانة بهدف تغطية نفقاتها.

الإنضباط المالي للدولة، أو ما يُعرف بالسيّطرة على خدمة الدين العام، يتمّ من خلال الحفاظ على فائض أوّلي أعلى من قيمة خدمة الدين العام. وبالتالي وفي حال إستحالة هذا الأمر يتمّ خفض الإنفاق إلى درجة توازن المُعادلة السابقة تحت طائلة إرتفاع الدين العام.

بمعنى أخر، إن سياسة الإنفاق المُفرط (كما هي الحال في لبنان) تبقى المسؤول الأول عن إرتفاع الدين العام خصوصًا إذا ما كان النمو الإقتصادي عاجزا عن تأمين مداخيل ضريبية كافية.

وبتعابير إقتصادية، تزيد قيمة الدين العام إما لأن الدولة تُسَجِّلُ ضعفًا أوعجزاً في الميزان الأوّلي أو لأن الفجوة بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدل النمو يزيد.

واقع أليم

الدين العام اللبناني إرتفع بشكل جنوني منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان من 3.39 مليار دولار أميركي في العام 1993 إلى 76.84 مليار دولار أميركي في نهاية تمّوز العام 2017 مع مُعدّل وسطي يبلغ 3.1 مليار دولار أميركي سنويًا.

وبالنظر إلى أسباب تراكم هذا الكمّ من الدين العام، نرى أن عجز الموازنة – أي بمعنى أخر الإنفاق العام – يُشكّل الأساس من هذا الدين العام. وتُشير الأرقام أن العجز منذ أخر موازنة في العام 2004 وحتى نهاية العام 2016 بلغ 40.7 مليار دولار أميركي تراكميًا.

وبالتالي فإن الدين العام الذي نتج خلال العقدين الأخيرين ناتج بكل وضوح عن الإنفاق غير العقلاني الذي إتبعته الحكومات المُتتالية. هذا الإمعان في الإستدانة لتغطية العجز في الموازنة (والناتج عن الإنفاق غير العقلاني) يدلّ على مدى قصر النظر في تقييم تداعيات الحجم الهائل للدين العام.

ومع تراجع المالية العامة ومعها قدرة الدولة على الإستثمار في الماكينة الإقتصادية لتحفيز النمو الإقتصادي بحسب ما تنص عليه نظرية كينيز، أصبحت الدوّلة اللبنانية مُلزمة بالإستدانة لتغطية إنفاقها الذي لا ينفك يزيد يومًا بعد يوم خصوصًا مع سياسة التوظيف العشوائية في القطاع العام والهدر غير المقبول في مؤسسة كهرباء لبنان.

على هذا الصعيد تُشير أرقام وزارة المال إلى أن مجموع تحويلات وزارة المال إلى مؤسسة كهرباء لبنان منذ العام 2008 وحتى اليوم بلغت 16 مليار دولار أميركي في حين أن خدمة الكهرباء التي تؤمّنها مؤسسة كهرباء لبنان للمواطن لا تعكس حجم التحويلات.

ضرورة الإصلاحات

من هذا المُنطلق نرى أن هناك ضرورة لوقف تزايد العجز في الموازنة الذي بلغ نهاية 2016 خمسة مليارات دولار أميركي. وهذا الأمر لا يُمكن القيام به إلا من خلال لجم الإنفاق غير العقلاني المُتبع.

ولجم الإنفاق يفرض إصلاحات جذرية غير موجودة في مشروع موازنة العام 2017، كتحرير قطاع الكهرباء، وقطاع الإتصالات، وسياسة ضريبية تحفيزية، والشراكة بين القطاع العام والخاص، وتقييم موظفي القطاع العام وغيرها من الإصلاحات الأساسية.

ولا يُمكن نسيان قانون محاربة الفساد الذي، وفي ظل الأرقام التقديرية التي قمنا بها، يُكلّف الإقتصاد اللبناني 10 مليارات دولار أميركي سنويًا منها 5 مليارات خسائر مباشرة على خزينة الدولة (تهرّب ضريبي، هدر، فساد...) و5 مليارات خسائر غير مباشرة من خلال غياب الفرص الإقتصادية.

يبقى السؤال عن نيّة وقدرة السلطة السياسية على القيام بهذه الإصلاحات في ظل إنقسام سياسي عامودي وأفقي يجعل من كل ملفّ على طاولة مجلس الوزراء ملفا خلافيا، وفي ظل إقتراب الإنتخابات النيابية التي يعتبرها السياسيون أجمع مفصلية في تاريخ الأحزاب اللبنانية.

الضرائب آتية لا محالة

كما سبق الذكر أعلاه، نرى أن الوسيلتين الوحيدتين أمام السلطة لتغطية النفقات هي عبر الإستدانة أو عبر الضرائب. وبما أن الإستدانة بلغت مستويات تاريخية مع 77 مليار دولار أميركي وبالتالي، سيكون هناك قيود وكلفة أكبر على الإستدانة، نرى أن السلطة ستتوجّه أكثر فأكثر في الأعوام القادمة نحو فرض الضرائب لتغطية نفقاتها وهذا ما سيُدخلها في حلقة مُفرغة تؤدّي إلى إضطرابات إجتماعية في ظل غياب النمو الإقتصادي.

في الختام، لا يسعنا القول إلا أن المَثَلْ اللبناني الشهير «ما حدا بيتّعلم إلا من كيسو» ينطبق على السلطة السياسية التي لم تتعلّم دروسا من الأزمة اليونانية وما يُعانيه الشعب اليوناني، بل تُمعن في إيصال المالية العامّة إلى هوّة لن تكون العودة منها سالمة. 

بروفسور جاسم عجاقة - "الجمهورية" - 12 آب 2017

إرسال تعليق

 
Top