0
هناك، على مقربة من القصر الجمهوري، عند تلة تشرف مباشرة على مقر وزارة الدفاع، يقبع منزل الرئيس ميشال سليمان، ثالث قائد للجيش اللبناني ينجح في الوصول إلى أعلى منصب مدني، بعد فؤاد شهاب وإميل لحود.
صباح السبت الماضي، في طقس غامض وملتبس بين زمن ربيعي وعاصفة شتائية، استضاف الرئيس سليمان عدداً من الصحافيين في ذاك الصالون الواسع المؤثث بأسلوب عصري، متقشف. قهوة وماء وتواطؤ على ترك صاحب البيت أن يبدأ وحده بالكلام على سجيته، كما التواطؤ أن لا ندوّن أو نسجل هذه الدردشة العفوية. والمناسبة واضحة: الصدمة التي أحدثتها رسالة الرؤساء الخمسة إلى القمة العربية الأخيرة.
بدا الرئيس سليمان معتداً بنفسه، وعلى شيء من بهجة "الإنجاز"، بالغ النشاط وطليق الصوت وكثير الود مع ضيوفه. يبدو وكأن جرعة ثقة إضافية نالها بعد التداول الإعلامي والسياسي لمقاصد تلك الرسالة، والحركة المباغتة التي قام بها الرؤساء الخمسة: هو وأمين الجميل وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام.
خلف كنبة الرئيس، تبرز مجلدات بأجزاء عدة تحمل عنوان "شارل ديغول" تحتل واجهة المكتبة، لكن أيضاً يبرز ذاك الكتاب الصغير "لبنان اليوم" لميشال شيحا. على الأرجح، وباستثناء إميل لحود، كل قائد جيش لبناني لديه نزعة ديغولية. أيضاً، وبالإستثناء ذاته، كل رئيس جمهورية على الأغلب قرأ بتأثر ميشال شيحا.
وإذا كانت الشيحاوية ثقافة ملازمة لمعظم السياسيين المسيحيين، رغم الخيانات الكثيرة والانحطاط الذي أصاب تلك الثقافة، إلا أن الديغولية دونها وشروط التاريخ، وهي ممكنة فقط بحدود إخلاص العسكري في "حماية الديموقراطية".
على هذا المنوال، استشهد الرئيس سليمان مرتين بعبارات لميشال شيحا، عدا عن ترصيع كل فكرة يقولها بكلمتي "الدستور" و"الميثاق". ومن ناحية ثانية، من دون الإشارة إلى ديغول، كان يذكرنا بمواقفه وسيرته العسكرية والرئاسية المتسامية فوق النزاعات الأهلية وانقسامات النخب السياسية، تاركاً لنا أن ننتبه إلى أنه هو الذي جاء في أيار 2008 كـ"منقذ" وكرئيس "توافقي"، في لحظة احتمال سقوط لبنان في حرب أهلية جديدة.
بعدما قام حاملاً الصينية الممتلئة بالـ"بيتي فور" يضيفنا واحداً واحداً، جلس ليشرح دوافع تلك الرسالة. ما يمكن فهمه وتخمينه أن خطاب لبنان الرسمي مكبّل باشتراطات داخلية ثقيلة الوطء وحسابات إقليمية شديدة التعقيد وتوازنات محلية بالغة الحساسية. إذاً، هو خطاب عمومي وخجول وشبه مكتوم. وعليه، فمبادرة الرؤساء الخمسة هي "تذكير" وحسب بما نسميه نحن اللبنانيين "الثوابت"، من غير استفزاز. وهي "موجهة إلى" وليست "موجهة ضد". بالتالي، ما لا يستطيع قوله لبنان الرسمي، ينطق به "مسؤولون" باتوا اليوم أحراراً من قيود مناصبهم الرسمية. وبمعنى آخر، أتت الرسالة كما لو أنها دعم خفي لرئيس الجمهورية المحاصر بـ"تفاهماته" ولرئيس الحكومة المطوّق بالشركاء– الخصوم.
الفحوى الأساسية المتأتية من تجارب أولئك الرؤساء، تعبّر من غير لبس عن مأزق وجودي يمنع "قطار" لبنان من "الانطلاق إلى الأمام": السلاح غير الشرعي. هو مشكلة الاقتصاد وضآلة الاستثمارات، الأمن، الحدود، الحريات السياسية، خوف الطوائف المستحكم، ضعف الدولة، استقلالية القضاء، الفصل بين السلطات، الفساد والمحسوبية... إلخ.
الرئيس سليمان، وبحذر بالغ كان يريد من ضيوفه أن يرصد مزاج الرأي العام تجاه تلك الرسالة، ربما من أجل التشجع على مبادرات شبيهة أخرى، ربما لقناعته أن الحياة السياسية اللبنانية مصابة بانعدام الحركة، طالما أن حركتي 8 و14 آذار تلاشتا تماماً. ومع فشل الحراك المدني في بلورة معارضة سياسية، ثمة خطر "استنقاع" يتيح للطبقة الحاكمة اليوم أن تذهب بعيداً في تكريس نفسها، مع مزيد من الارتكابات الدستورية والتحريفات التي تهدد مبدأ الديموقراطية والنظام البرلماني. كان هذا تعبير الصحافيين الحاضرين على الأقل.
يوحي الرئيس سليمان أن لديه ما يقوله في سجال قانون الانتخاب: النسبية بما يضمن مبدأ "تداول السلطة"، مقروناً بمجلس شيوخ للطوائف، والشروع باللامركزية الإدارية، وبإحياء المجلس الاقتصادي الاجتماعي. لكن، ردد أكثر من مرة فكرة ميشال شيحا عن عقلية أهل الحكم ونياتهم، أي أن كل ذلك مشروط ومقرون بما ليس متوفراً حتى الآن: رجال حكم بأخلاق سامية.

يوسف بزي - المدن 3 نيسان 2017

إرسال تعليق

 
Top