ذات يوم، ذهب «الدكتور داهش» إلى حلّاق الشعر في بيروت. وجد زحمة زبائن. لم ينتظر دوره، فإذا به يَفصل رأسه عن جسده... بنفسه، ثمّ يُعطى الحلّاق الرأس، قائلاً له: سأعود لاحقاً بعدما تكون حلقت لي. هذه واحدة مِن «الخوارق» الكثيرة لسليم موسى العشي، التي تناقلتها ألسن، في لبنان، منتصف القرن الماضي.
إنّها حكاية شعبيّة تُحكى. سليم العشي، أو «داهش» كما عرفه الناس، كان أكثر من مجرّد صاحب «خزعبلات». كان كثيراً مِن الأشياء، فإلى جانب «شخصيّاته العُلويّة الستّة» كما قال وقالوا، كان خبيراً في القوانين الانتخابيّة! بلغ شأناً رفيعاً، في هذه الصنعة، أين مِنه عبدو سعد وكمال فغالي وأقرانهم.
كان «داهش» يُحدّد، فضلاً عن الرابح والخاسر، عدد الأصوات التي سينالها المُرشّح! مِن سخرية الأقدار أنّ مواهبه، في هذا المجال، تألقت في زمن «قانون الستّين» (الأوّل). جاءه آنذاك، إلى منزله، المرّشح للانتخابات النيابيّة عن منطقة عكّار، بشير العثمان، طالباً مِنه «المساعدة الروحيّة». كان عثمان برفقة زوجته، التي بادرت إلى فتح موضوع الانتخابات مع «داهش» لاستطلاع رأيه، أو «رؤيته» بمعنى أصح، وشكواها أن التحضير للاستحقاق يأخذ وقت العائلة كلّه. يسأل «المعلّم» زائره المُرشح: «أنت كيف شايف؟». يُجيب: «لا بدّ مِن التحسّب للمفاجآت». تعلّق الزوجة (عواطف) قائلة: «المال هو السلاح الذي يُخيفنا في المعركة». يَردّ عليها صاحب الدار: «اطمنئي يا سيّدتي». مسك بيد الزوج، طالباً مِنه التنفّس بهدوء... وتبدأ «الجلسة الروحيّة». أخيراً، يَكتب «داهش» شيئاً على ورقة صفراء، ثمّ يطويها، ليعطيها للمُرشّح طالباً مِنه ألا يفتحها وأن يحتفظ بها في محفظته. غادر الضيفان. لم يحصل أن تواصلا بعد ذلك مع «داهش» إلى أن انتهت الانتخابات. فاز بشير العثمان. أصبح نائباً. يُخبر «داهش» أحدهم أنّه سيزور النائب العثمان، قريباً، برفقة شخص اسمه فريد أبو سليمان، وأنّ هذا الأخير سيطلب مِن النائب فتح تلك الورقة ليقرأ ما فيها. يَحصل هذا فعلاً. ذهبا إلى منزل النائب، ونقلا له تهاني «الدكتور» بفوزه، ثم قالا له إنّهما يُريدان تذكيره بأمر الورقة التي في محفظته. يتذكّر مباشرة. طلب مِن أحدهم أن يُحضر له المحفظة. أخرج النائب تلك الورقة، فتحها، فقال بصوت عالٍ: «إن الأمر لا يُصدّق، يا الله، الفوز أمر معقول أمّا أن يُحدّد (الدكتور داهش) عدد الأصوات التي نلتها، قبل أن تحصل الانتخابات بأكثر مِن شهر»! لم يكن ما كتبه «داهش» على الورقة سوى الرقم 11856. بهذا العدد مِن الأصوات دخل العثمان المجلس النيابي.
هذه الرواية نشرتها «اللواء» قبل 53 عاماً (عدد 12 حزيران 1964). زوجة العثمان أكدّتها، في رسالة لاحقة، مع بعض الإيضاحات. ليس العثمان وحده، مِن السياسيين، الذين كانت تجمعهم علاقة خاصة مع «صاحب الكرامة» (كما كان يقول الفنان الراحل أحمد زكي في فيلمه البيضة والحجر). ذات مرّة، عندما تعرّض «داهش» لمضايقات مِن رئيس الجمهوريّة بشارة الخوري، لأسباب عائليّة وخاصة، قصده رئيس مجلس النواب صبري حماده للتثبّت مِن أمر «الخوارق». هذه الزيارة ينقل تفاصيلها غازي براكس، قبل 43 عاماً، في كتابه «معجزات داهش ووحدة الأديان». بالفعل، نجح «داهش» في إدهاش حماده ومَن حضر معه مِن نواب، مثل أديب فرزلي ووديع شقير ومحمد بك العبود. لقد قرأ عن الذهب الذي كان في خاطر حماده، فطلب مِنه أن يغلق كفّه ثم يفتحها، فإذا بالذهب في كفّه.
ليس البحث الآن عن حقيقة «الدكتور داهش». حركات «الباراسايكولوجي» (لِمن يراها كذلك) هذه أصبحت مِن الماضي علميّاً. أجهزة الاستخبارات ومختلف أنواع «حركات القرعة» قد أثقلت العالم، قديماً وحديثاً، وجعلته يتثاءب مِن المَلل. ليس المقام الآن للحكم على «الداهشيّة» وأتباعها، إنّما للإشارة، وبكلّ ما تحتمل الفكرة مِن سخرية، إلى قوانين انتخابيّة سخيفة يطرحها القوم اليوم، مِن هنا وهناك، تكاد تجعل البعض يعرف عدد الأصوات التي سينالها كلّ مرشح قبل الانتخابات. «داهش» كان يُمخرق، ولكنه هو «داهش» في النهاية، مقبولة مِنه، لكن أن «يُدهشنا» السياسيّون (الطبيعيّون يعني) كلّ يوم بقانون «داهشي» جديد! مَن يُتابع «بازار» القوانين المطروحة، التي نقرأ عنها في الآونة الأخيرة، يَعرف مستوى الهزل. مسلمون ينتخبون مسلمين، ومسيحيون ينتخبون مسيحيين، وتفاصيل أكثر «كماخة» داخل التفاصيل، وهكذا... طيّب «فضّوها سيرة» ولتكن فدراليّة واضحة صريحة لا قناع فيها. مِمَّ الخجل؟ بعد كلّ هذا هل ثمّة ما لا يزال يُخجِل؟
ربّما لم ينجح أحد في معرفة حقيقة «داهش» أكثر مِن المؤرّخ والكاتب الألمعي هشام شرابي. التقاه في سبعينيات القرن الماضي، في منطقة الروشة، والحرب الأهليّة كانت قد اندلعت. كتب ذلك في سيرته الخاصة. فَهِم «داهش» أنّ شرابي فَهِمه، فقال له: «أنا لم أكذب على أحد. الناس تُريد الهرب. إلى الماضي. إلى المستقبل. إلى العالم الآخر. الناس تُريد الاتصال بالأرواح للخروج مِن كابوس الحياة. الصوت الذي يسمعونه مِن عالم الموتى هو صوتهم». ليت شرابي يعود إلى الحياة، ويأتي بجليسه «داهش» معه، ليفضحا، بالأسماء والأرقام، وجوه «الداهشيّة السياسيّة» في بلادنا.
إنّها حكاية شعبيّة تُحكى. سليم العشي، أو «داهش» كما عرفه الناس، كان أكثر من مجرّد صاحب «خزعبلات». كان كثيراً مِن الأشياء، فإلى جانب «شخصيّاته العُلويّة الستّة» كما قال وقالوا، كان خبيراً في القوانين الانتخابيّة! بلغ شأناً رفيعاً، في هذه الصنعة، أين مِنه عبدو سعد وكمال فغالي وأقرانهم.
كان «داهش» يُحدّد، فضلاً عن الرابح والخاسر، عدد الأصوات التي سينالها المُرشّح! مِن سخرية الأقدار أنّ مواهبه، في هذا المجال، تألقت في زمن «قانون الستّين» (الأوّل). جاءه آنذاك، إلى منزله، المرّشح للانتخابات النيابيّة عن منطقة عكّار، بشير العثمان، طالباً مِنه «المساعدة الروحيّة». كان عثمان برفقة زوجته، التي بادرت إلى فتح موضوع الانتخابات مع «داهش» لاستطلاع رأيه، أو «رؤيته» بمعنى أصح، وشكواها أن التحضير للاستحقاق يأخذ وقت العائلة كلّه. يسأل «المعلّم» زائره المُرشح: «أنت كيف شايف؟». يُجيب: «لا بدّ مِن التحسّب للمفاجآت». تعلّق الزوجة (عواطف) قائلة: «المال هو السلاح الذي يُخيفنا في المعركة». يَردّ عليها صاحب الدار: «اطمنئي يا سيّدتي». مسك بيد الزوج، طالباً مِنه التنفّس بهدوء... وتبدأ «الجلسة الروحيّة». أخيراً، يَكتب «داهش» شيئاً على ورقة صفراء، ثمّ يطويها، ليعطيها للمُرشّح طالباً مِنه ألا يفتحها وأن يحتفظ بها في محفظته. غادر الضيفان. لم يحصل أن تواصلا بعد ذلك مع «داهش» إلى أن انتهت الانتخابات. فاز بشير العثمان. أصبح نائباً. يُخبر «داهش» أحدهم أنّه سيزور النائب العثمان، قريباً، برفقة شخص اسمه فريد أبو سليمان، وأنّ هذا الأخير سيطلب مِن النائب فتح تلك الورقة ليقرأ ما فيها. يَحصل هذا فعلاً. ذهبا إلى منزل النائب، ونقلا له تهاني «الدكتور» بفوزه، ثم قالا له إنّهما يُريدان تذكيره بأمر الورقة التي في محفظته. يتذكّر مباشرة. طلب مِن أحدهم أن يُحضر له المحفظة. أخرج النائب تلك الورقة، فتحها، فقال بصوت عالٍ: «إن الأمر لا يُصدّق، يا الله، الفوز أمر معقول أمّا أن يُحدّد (الدكتور داهش) عدد الأصوات التي نلتها، قبل أن تحصل الانتخابات بأكثر مِن شهر»! لم يكن ما كتبه «داهش» على الورقة سوى الرقم 11856. بهذا العدد مِن الأصوات دخل العثمان المجلس النيابي.
هذه الرواية نشرتها «اللواء» قبل 53 عاماً (عدد 12 حزيران 1964). زوجة العثمان أكدّتها، في رسالة لاحقة، مع بعض الإيضاحات. ليس العثمان وحده، مِن السياسيين، الذين كانت تجمعهم علاقة خاصة مع «صاحب الكرامة» (كما كان يقول الفنان الراحل أحمد زكي في فيلمه البيضة والحجر). ذات مرّة، عندما تعرّض «داهش» لمضايقات مِن رئيس الجمهوريّة بشارة الخوري، لأسباب عائليّة وخاصة، قصده رئيس مجلس النواب صبري حماده للتثبّت مِن أمر «الخوارق». هذه الزيارة ينقل تفاصيلها غازي براكس، قبل 43 عاماً، في كتابه «معجزات داهش ووحدة الأديان». بالفعل، نجح «داهش» في إدهاش حماده ومَن حضر معه مِن نواب، مثل أديب فرزلي ووديع شقير ومحمد بك العبود. لقد قرأ عن الذهب الذي كان في خاطر حماده، فطلب مِنه أن يغلق كفّه ثم يفتحها، فإذا بالذهب في كفّه.
ليس البحث الآن عن حقيقة «الدكتور داهش». حركات «الباراسايكولوجي» (لِمن يراها كذلك) هذه أصبحت مِن الماضي علميّاً. أجهزة الاستخبارات ومختلف أنواع «حركات القرعة» قد أثقلت العالم، قديماً وحديثاً، وجعلته يتثاءب مِن المَلل. ليس المقام الآن للحكم على «الداهشيّة» وأتباعها، إنّما للإشارة، وبكلّ ما تحتمل الفكرة مِن سخرية، إلى قوانين انتخابيّة سخيفة يطرحها القوم اليوم، مِن هنا وهناك، تكاد تجعل البعض يعرف عدد الأصوات التي سينالها كلّ مرشح قبل الانتخابات. «داهش» كان يُمخرق، ولكنه هو «داهش» في النهاية، مقبولة مِنه، لكن أن «يُدهشنا» السياسيّون (الطبيعيّون يعني) كلّ يوم بقانون «داهشي» جديد! مَن يُتابع «بازار» القوانين المطروحة، التي نقرأ عنها في الآونة الأخيرة، يَعرف مستوى الهزل. مسلمون ينتخبون مسلمين، ومسيحيون ينتخبون مسيحيين، وتفاصيل أكثر «كماخة» داخل التفاصيل، وهكذا... طيّب «فضّوها سيرة» ولتكن فدراليّة واضحة صريحة لا قناع فيها. مِمَّ الخجل؟ بعد كلّ هذا هل ثمّة ما لا يزال يُخجِل؟
ربّما لم ينجح أحد في معرفة حقيقة «داهش» أكثر مِن المؤرّخ والكاتب الألمعي هشام شرابي. التقاه في سبعينيات القرن الماضي، في منطقة الروشة، والحرب الأهليّة كانت قد اندلعت. كتب ذلك في سيرته الخاصة. فَهِم «داهش» أنّ شرابي فَهِمه، فقال له: «أنا لم أكذب على أحد. الناس تُريد الهرب. إلى الماضي. إلى المستقبل. إلى العالم الآخر. الناس تُريد الاتصال بالأرواح للخروج مِن كابوس الحياة. الصوت الذي يسمعونه مِن عالم الموتى هو صوتهم». ليت شرابي يعود إلى الحياة، ويأتي بجليسه «داهش» معه، ليفضحا، بالأسماء والأرقام، وجوه «الداهشيّة السياسيّة» في بلادنا.
محمد نزال - الاخبار 16 اذار 2017
إرسال تعليق