0
من دارته في الرابية التي لا يقصدها إلّا نادراً، إذ إنّه يفضّل قضاءَ غالبية أوقاته في الشمال، وتحديداً في بلدته أنفة، الأحبّ الى قلبه، يُقرّ نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري بأنّه سيعتكف العمل السياسي، والأمر لم يعد خافياً، حسب تعبيره، فيُعيد إجهارَه عبر «الجمهورية». أمّا سبب اعتكافه، فليس وفق ما يُشاع، والشائعات كثيرة، ومنها أنّه تعبَ من دفعِ المستحقّات المالية الكثيرة... وغيرها. فيما يكشف مكاري لـ»الجمهورية» عمّن فخّخ الجلسة الشهيرة. 
يلتقط مكاري سيجارَه الذي لا يفارقه، ويضحك مطوّلاً قبل أن يستقيم في جلسته وينفي ما يُروّج، معلناً أنّ السبب الرئيس لاستقالته من السياسة (وليس من خدمة الناس) أنّه اكتشفَ أن منذ 25 عاماً وحتى اليوم لم يستطع التغيير في المنظومة اللبنانية، ولم تكن لديه القدرة على فِعل أيّ شيء في هذا السياق.

أمّا خدمة الناس فيمكن إنجازها «إن كنتُ نائباً في البرلمان أم لم أكن»، مضيفاً: «أصبحتُ أشعر أنّي شاهد زور لقرارات تؤخَذ خارج مجلس النواب وليس داخله».

وهذا أحد الاسباب وفق تعبير مكاري، لكنّ السبب الأساسي فيَشرحه بجرأة قائلاً: «قبل العام 2005، كانت حياتي السياسية مبنيّة على الطموح، فمارستُها من دون أن يكون لديّ قضية ومن باب خدمة الناس، والوجاهة مِثل غالبية السياسيين، لكن بعد الـ2005 وتحديداً بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونشوء «14 آذار» أصبحتُ أعتبر أنّ لدي قضية.

أمّا اليوم وبعد 10 سنوات اكتشفتُ أنني من قلّة لا تزال تصدّق أنّ هناك قضية. إذ تبيّن لي أنّ قضايا الناس هي بالنسبة إلى فئة كبيرة من السياسيين، مصالح انتخابية يتقاذفونها ويلعبون بها كما لو أنها مصالح مادية. أمّا من جهتي فلا مصالح مادية لديّ ولا مصالح انتخابية أو سياسية، لذلك اكتشفتُ أنه عليّ التغريد خارج السرب، واكتشفت أنّني في المكان الخطأ، وهذا هو السبب الرئيسي، وليس كما يقال أيضاً إنني اكتفيتُ بعدما وصلت إلى أعلى مركز أرثوذكسي.

ويضيف: «لستُ من بيت سياسي، وهواياتي ليست احتكار المهنة والزعامة مدى حياتي لتوريثها، فهذا ليس من طبعي، وأحبّ فتحَ المجالات امام الآخرين من جيل الشباب».

الضرائب

عن إضافة الضرائب على المواطنين، يؤكّد مكاري أنه ضدّها، وهناك قسم كبير من اللبنانيين العاملين في القطاع العام رواتبُهم قليلة، ولهم كلّ الحق بزيادتها، لكنّني أعلم أيضاً خطورةَ الوضع المالي للدولة، وإذا أرادت الدفعَ عليها تأمين الإيرادات في المقابل، وإلّا فستتأثر مالية الدولة ويَكبر العجز ونصبح في مرحلة دقيقة قد تؤدي الى سقوط الليرة اللبنانية التي ستكون ضريبتها على المواطنين أكبر بكثير من الضريبة المقترحة». ويلفت مكاري إلى أنّ «المواطن مجبَر على دفعِ الضرائب في حال أقِرّت السلسلة، أمّا إذا لم تقرّ، فهذا لا يعني أنّ وضعَنا الاقتصادي جيّد».

ماذا عن الجلسة الشهيرة؟

يجيب مكاري: «بصراحة أقول إنني يوماً بعد يوم أكتشف أنّ الإجماع الذي كان قائماً قبل الجلسة غير صحيح، وبعد التفكير في المجريات يزداد اقتناعي بالأمر»، متذكّراً الأجواء خلال اجتماعات اللجان المشتركة التي ترأسَها والتي كانت مغايرة للأجواء السائدة اليوم.

«الكتائب»

وعن اتّهامه حزبَ الكتائب وحده بتطيير الجلسة، يشدّد مكاري على أنّ «حزب الكتائب حافَظ على موقفه في اجتماعات اللجان المشتركة وكان رافضاً للضرائب، إنّما كان يريد السلسلة من خلال معالجة الفساد، وليس هو فقط من يريد ذلك. وهذا الموقف ممتاز لكنّه غير قابل للتطبيق فوراً، فلا يمكن إقرار السلسلة اليوم والقول أريد تغطيتَها من محاربة الفساد، لأنّ المسألة تحتاج وقتاً، ومحاربة الفساد لا يمكن تطبيقها عملياً في يوم واحد لكي تغطي السلسلة».

ويشدّد مكاري على حقّ حزب الكتائب في الاعتراض: «في الجلسة العامة ثبتوا على موقفهم لكنّهم أعادوا تكرار الكلام نفسه في كلّ سطر، وكلّما طلب أحد النواب الكلام قابلوه بالتعليق نفسه مع أن موقفهم كان أصبح مفهوماً وواضحاً ولم يكن من داعٍ لتردادِه في كلّ محطة، وبالتالي يساهم في تطيير الجلسة، إذا كانت هناك نوايا لتطييرها كما ألمحوا هم وغيرهم. أضِف إلى ذلك أنّ ما كان يقال في الداخل كان يقال في الخارج، وتتمّ تعبئة النواب قبل دخولهم مجدداً إلى القاعة.

البيان جاهز!

لا ينكِر مكاري أنه حضَّر بيانه أثناء استراحة الغداء وطلبَ من مستشاره تحضيرَه بعدما هدَّد بعد الجلسة الصباحية بأنه سيسمّي المعطّلين بالأسماء، إلّا أنه لم يحضّره قبل ذلك.

ويكشف أنّ ما استفزّه أيضاً إلى جانب طريقة تصرف حزب الكتائب، كانت المواقف داخل الجلسة لبعض نوّاب «حزب الله» وحركة «أمل»، الأمر الذي زاد من استيائه، ورغم ديبلوماسيته المعروفة وصداقاته المتعدّدة مع مختلف الاطراف، أغضبه ما حصل، وقال: «اعتقدت يوم الجلسة أنّهم فعلاً سائرون قدماً في الإقرار، فتبيَّن لي لاحقاً أنّه كان لديهم هُم أيضا مشروع آخر، ويوماً بعد يوم وبنتيجة مراجعة الأحداث والتدقيق فيها أزداد قناعةً بذلك».

ويؤكّد مكاري لـ«الجمهورية» أنه لم يشعر قبلاً بأنّ الجلسة كانت مدبَّرة لتَطير، لكنّه اليوم يشعر بأنّها قد تكون كذلك لأنّ الجميع يُغيّرون مواقفَهم، بلا استثناء.

نعم اتّصلتُ بالرئيس برّي

ولدى سؤالنا عمّا إذا استعان بالرئيس نبيه بري يوم الجلسة، لم يُنكر مكاري الأمر قائلاً إنه استعان بحكمة الرئيس برّي بعدما اتّصَل به مرّتين، فأجابه أنه في حال لم تستطع إكمالَ الجلسة إرفَعها الى الاربعاء المقبل، فقلتُ له لا يمكن رفعُها الى الاربعاء لأنّ الرئيس سعد الحريري يغادر إلى مصر في زيارة رسمية في هذا اليوم.

لافتاً إلى أنه نقل الى بري الأجواء الملبّدة السائدة وشعورَه بأنه لن يستطيع إكمال إقرارِ البنود الضريبية، لكنّه أوضح في المقابل أنه يمكننا عقدُ الجلسة بغياب رئيس الحكومة، إذ يكفي حضور أيّ وزير لتسير، لكنّ الرئيس بري قال لي كلّا، لن تعقد جلسة في غياب رئيس الحكومة. ويكشف مكاري أيضاً أنه اتصل قبلاً بالرئيس بري وقال له إنّ الأجواء ليست مريحة وإنّ تغيير المواقف هو السائد ومن الجميع.

وفي السياق، يلاحظ مكاري أنّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع قال للذين لا يريدون إقرار السلسلة بالشكل المطروح أن يعرضوا اقتراحاتهم للبديل. لكنّ شعاره وفي مؤتمره الصحافي أمس انتقلَ الى محاربة الفساد فقط، علماً أنّ موقفه لم يكن مماثلاً في السابق.

تماماً كما النائب وليد جنبلاط عندما «توتر» فقال لا يمكن إقرار السلسلة من دون مداخيل، أمّا اليوم فهو يدعو لمكافحة الفساد، هذه مواقف يحبها الناس ولكنها قد لا تكون واقعية لأن مكافحة الفساد مسألة تحتاج الى وقت.

وعن مخصّصات النواب، يتمنّى مكاري من الجميع العودة إلى ادراج مجلس النواب، كاشفاً أنه الوحيد مع النائب عباس هاشم الذي قدّم عام 2000 اقتراح قانون بعدم دفعِ تعويضات للنواب، وإيقافها، ولا سيّما بعد إنهاء خدمتهم، فقام جميع النواب عليه. فيما أبدى مكاري حقيقة استيائه من استمرار حصول النواب على مستحقّات مالية مدى العمر، إضافةً إلى تعويضهم.

وعندما أشرنا إليه أنّ محاربة الفساد تبدأ بقرار جريء بإيقاف هذا البند وأنّ هذا القرار لا يلزمه وقت، كما أشار سابقاً، بل إرادة وطنية صادقة، يشدّد مكاري على أنه فعلَ ما استطاع فِعله، وهو الوحيد الذي قدّم مشروعاً لإلغائه وقامت القيامة وربّما هو اليوم يختار التغريد خارج السرب لأنه فعلاً لم يستطع التغيير.

«الدخان... إنتو ما بدكن نِحنا بدنا»

ويكشف مكاري أنّ الضريبة الموضوعة على الدخان، وهو الاقتراح الذي وضَعه النائب عاطف مجدلاني، فتمّ التصويت عليه من باب «النكاية أو التعليم» على طرفٍ معروف... على نغمة «إنتو بدكن نِحنا ما بدنا».

اليوم يَختصر مكاري مشهد الجلسة بالقول: «تبيَّن أخيراً تبدُّل الأفضليات عند القوى السياسية، ولا سيّما بعد عودة قانون الانتخاب إلى البروز بعد التلويح والتهديد بضيقِ الوقت والخوف من الفراغ».

ويبدو أنّ رئيس الجمهورية اتّخَذ قرارَه بعدم التمديد وعدم العودة إلى قانون الستين، ما يوصل إلى انتفاء وجود مجلس النواب، وفي الأمر مشكلة. فالأقلّ خطورةً هو إنجاز قانون والتمديد، أم التمديد بلا قانون، وإذا لم يتّفقوا على قانون سيلجَؤون إلى التمديد الحتمي برأيي، والجميع يعلم أنّ لبنان بلد العجائب وكلّ شيء ممكن».

ويؤكّد مكاري: «لستُ نادماً على ترَؤسي الجلسة الشهيرة، ولا أعتبر نفسي استُدرجتُ، بل اكتشفتُ أنّ المواقف تبدّلت من دون علمي، وهذا كلّ ما في الأمر». إذا كنّا قادرين على إصلاح الفساد وبعدها أقرّينا السلسلة نكون خَدمنا لبنان، أمّا أن يكون إقرار السلسلة بالاتكال على أنّني سأصلِح الفساد يوماً! فأنا لا أصوّت عليها. «مِتل يلّي عم يِسكر على جلد الدب».

الحريري مختلف والشارع مزايدة انتخابية

وعن علاقته بالرئيس سعد الحريري، يصفه مكاري بأنه الرَجل الطيّب والشجاع، ويعتبر أنّ نزلتَه إلى الشارع فيها تضحية. ويشدّد على أنّ سعد الحريري صفاتُه فريدة، وضحّى بالكثير من حياته السياسية، معلناً أنه شخصياً لم يُحمّسه مرةً واحدة على المبادرات التي أطلقها في كلّ الاتجاهات وكلّ الزيارات التي قام بها قديماً أو أخيراً، «لأنّني متعصّب لأفكار «14 آذار»، أمّا الحريري فمختلف».

قانون الانتخاب

يوضح مكاري أنّه ليس ضدّ النسبية في المبدأ «إنّما في لبنان وبسبب كثرة الطوائف وفي غياب الأحزاب العابرة للطوائف، فهو يرى استحالةً في تطبيقها، أمّا الصوت التفضيلي فمِن الصعب تطبيقه، خصوصاً في غياب المكنَنة، إذ من دونها ومع الصوت التفضيلي سيتمّ تزوير نتائج الانتخابات بكاملها حتماً.

كما أنّ مكاري ليس مقتنعاً بكلّ القوانين المطروحة، إلّا أنه يؤمِن بحقّ المسيحيين أن يتمثّلوا بنوابهم، لكنّه لا يستطيع أن يكون مع القانون الأرثوذكسي، لأنّ طبيعته غير طائفية، وهو ميّال إلى الدائرة الصغرى.

أمّا بالنسبة إلى العلاقة مع رئيس الجمهورية، فيشدّد مكاري على أنه «لا يمكن الحكم من الآن على عهد عون، رغم أنني لم أنتخبه، لكن من الواضح أنّ نواياه صادقة، لكن هل هو قادر على إرساء تفاهمات على مشروع الإصلاح والتغيير، ليس سهلاً أن يسبح عكس الموج».

وبكلّ لباقة وتواضُع رافقَنا مكاري إلى الباب لوداعِنا، فسألناه إذا كان متخوّفاً من ثورة، فأجاب مطمئناً وضاحكاً: «ما يوحِّد الشارع اليوم هو فقط موضوع الانتخابات، والجميع يفتعل مبارزات انتخابية لا أكثر ولا أقلّ، والثورة لن تقوم، ولبنان ليس بلد ثورات، إذ وجبَ على اللبنانيين أن يثوروا منذ زمن على الوضع لو استطاعوا»، مضيفاً: «إذا تأملتِ مشهد المختارة، تفهمين». 

ناتالي اقليموس - "الجمهورية" - 22 آذار 2017

إرسال تعليق

 
Top