عادت سلسلة الرتب والرواتب لتلتف مجددا حول عنق الدولة وتشد الخناق عليه، بعدما دنت لحظة الحقيقة وحان أوان «تسييل» الوعود التي كان يجري ترحيلها، على مدى سنوات، من حكومة الى أخرى.
وفيما لا تزال الحكومة تتأرجح بين الاحتمالات، وتفتش عن «تعويذة» ضرائبية لتغطية النفقات المتزايدة... جددت «هيئة التنسيق النقابية» حيويتها المطلبية واستعادت «لياقتها البدنية» في الشارع، حيث نفذت قطاعاتها امس اضرابا عاما، الى جانب اعتصام حاشد في ساحة رياض الصلح، للمطالبة بحسم ملف «السلسلة»، تزامنا مع انعقاد جلسة لمجلس الوزراء في السراي، على بُعد مئات الامتار من مكان الاعتصام، خُصصت لاستكمال دراسة الموازنة وكيفية التخفيف من الخلل في توازنها.
ولعل أغرب ما في هذا المشهد، ان السلطة «تتهيب» الكلفة المترتبة على «السلسلة» التي بالكاد تلبي الحد الادنى من حقوق المعلمين والاساتذة والموظفين والعسكريين، في حين ان ما يتسرب يمينا وشمالا بفعل مزاريب الهدر والفساد يكفي وحده لانصاف كل هؤلاء، مع «حبة مسك»...
والمفارقة الاخرى، ان هناك من يحاول ان يدفع نحو تحميل الطبقة الفقيرة جزءا من اعباء «السلسلة»، عبر خيارات ضرائبية معينة، وكأنه يراد وضع الكادحين في مواجهة أنفسهم، فيؤخذ من بعضهم ليعطى البعـض الآخـر، على طريقة لحس المبرد!
اما الضرائب التي تشمل ميسوري الحال والقطاعين المصرفي والعقاري، فتواجه معارضة شديدة من الهيئات الاقتصادية التي ترفض المساس بفائض ارباحها ومكتسباتها، منبهة الى تداعيات اقرار السلسلة على الاقتصاد الوطني، في ما يشبه «الحرب النفسية»!
وقد زار وفد من «الهيئات» الرئيس سعد الحريري في «تحرك وقائي»، يهدف الى الضغط على الحكومة وبالتالي تحقيق نوع من «توازن الردع» مع «هيئة التنسيق» التي كانت ترفع الصوت في الشارع، محذرة من انها ستلجأ الى المزيد من التصعيد إذا لم يتم التجاوب مع مطلبها، في تلويح بالاعلان عن الاضراب المفتوح في المدارس الرسمية والخاصة وتعطيل العام الدراسي.
وإذا كان وضع قانون جديد للانتخاب يشكل أولوية سياسية للعهد الجديد برئاسة العماد ميشال عون، فان البت بـ«السلسلة» يُفترض ان يشكل ايضا اولوية اجتماعية لا تقل أهمية والحاحا، كونها تتصل بحقوق قرابة 200 الف عامل في اسلاك الدولة، يشكلون نبضها الحي وعمقها الحيوي.
ان الحد الادنى من العدالة الاجتماعية بات ممرا الزاميا لحماية الاستقرار الداخلي الذي لا يحيا بالامن وحده. ولذا، فان المسالة لا تتعلق فقط بحسبة مالية او دفترية، وانما هي تتصل بشبكة الامان التي يجب نسج خيوطها بدقة وعناية.
وبينما تابع مجلس الوزراء امس، برئاسة الرئيس سعد الحريري، البحث في ابواب الموازنة، أبلغ مصدر وزاري «الديار» ان تقدما سُجل خلال الجلسة، لافتا الانتباه الى ان البحث كان معمقا.
ويوضح المصدر ان الاتجاه هو نحو ان تؤخذ كلفة «السلسلة» بعين الاعتبار في الموازنة وان تُخصص لها خانة معينة في الاحتياطي، بحيث يصبح بالامكان المباشرة في صرف المبلغ الذي تكون الحكومة قد رصدته، فور اقرار «السلسلة» في الهيئة العامة لمجلس النواب المعني هو تحديدا بالبت فيها، لا الحكومة.
ويشير المصدر الى انه لا بد من فرض ضرائب جديدة لتغطية جزء من العجز المالي، مشددا على ان هناك شبه توافق وزاري حول ضرورة تحييد الطبقتين الفقيرة والمتوسطة عن الزيادات المتوقعة، حتى لا تصبح الحكومة في موضع من يعطي السلسلة في يد ويأخذ في اليد الاخرى.
ويؤكد المصدر ان ضرائب ستفرض على القطاع المصرفي الذي يجب ان يشارك في تحمل اعباء الوضع الاقتصادي الصعب، لافتا الانتباه الى ان هذا القطاع يحقق سنويا ارباحا تتراوح بين ثلاثة واربعة مليارات دولار، وبالتالي لا بأس إذا تنازل عن القليل من ارباحه الهائلة.
تحذير السنيورة
وقال رئيس كتلة المستقبل النيابية فؤاد السنيورة لـ«الديار» ان سلسلة الرتب والرواتب يجب البت بها، لكن بعيدا من الشعبوية والمزايدات التي تتسم بها مواقف البعض.
ويعتبر ان ما نراه اليوم من تخبط هو نتاج تراث من اللامسؤولية في التعامل مع ملفات حساسة، وقد سبق لي ان حذرت من الوصول الى واقع صعب ما لم ندقق جيدا في ما نفعله، وها هي الفواتير بدأت تستحق علينا تباعا، الواحدة تلو الآخرى.
ويضيف: المسألة لا تتعلق فقط ب 1200 مليار ليرة هي كلفة تمويل «السلسلة»، بل ان التحدي يكمن في ان هذا المبلغ سيضاف الى عجز متراكم بقيمة 7500 مليار ليرة تقريبا، وبهذا المعنى، فان اقرار «السلسلة» من غير تحصينها، سيكون بمثابة مغامرة غير محسوبة...
ويتابع محاولا تقريب الصورة: إذا كان هناك رياضي في رفع الاثقال يستطيع ان يرفع 100 كيلو على سبيل المثال، فهو سيعجز، في حال اضيف الى هذا الوزن غرام واحد.. هكذا هي قصتنا مع الموازنة والسلسلة.
وينبه الرئيس السنيورة الى ان السفينة تغرق شيئا فشيئا نتيجة الاعباء المالية غير المدروسة، بينما نحن نتخبط على متنها في خلافات عبثية، مشددا على ان الامور لا تعالج بهذه الطريقة الاعتباطية.
ويعتبر السينورة ان اقرار «السلسلة» وما يترتب عليه من زيادات ضرائبية، يجب ان يترافق مع تطبيق اصلاحات ضرورية، في اطار سلة واحدة، قائلا: لقد حان الأوان للعودة الى احترام الدستور، وهذا يعني ان نعيد الاعتبار الى الكفاءة والنزاهة والانتاجية وسلامة العملية المالية والانتظام النقدي، وبالتالي التوقف عن حشو الدولة بما لا يلزم، وارهاقها بأعباء عبثية.
ويشدد السنيورة على أهمية الدفع نحو نمو الاقتصاد وتنشيطه واتخاذ الاجراءات الاصلاحية الملحة في الادارة وجسم الدولة المترهل، بغية سد الثقوب التي تتسرب منها المياه الى السفينة، مهددة باغراقها.
ويلفت الانتباه الى ان المعالجات المجتزأة لم تعد تنفع، ولا بد من ان تأتي الضرائب المقترحة في سياق مقاربة اصلاحية تحقق النمو والطمأنينة للمستقبل، ملاحظا ان بعض من يُنظّر بالاصلاح وينبه الى مخاطر عجز الخزينة وتفاقم الدين العام، هو ذاته لا يلبث ان يطالب بأمور من شأنها ان تزيد الضغط على الخزينة العامة.
خوري مرتاح
أما وزير الاقتصاد رائد خوري، فأبلغ «الديار» ان جو النقاش في جلسة مجلس الوزراء امس كان ايجابيا، وقد شعرت بان الجليد كُسر خلالها، آملا في التوصل الى حسم ملف الموازنة والسلسلة قريبا، وربما نكون بحاجة الى جلستين او ثلاث بعد، حتى ننجز المهمة.
ويلفت خوري الانتباه الى ان مشروع السلسلة كان قد دُرس في مجلس النواب ووصل الى الهيئة العامة مع ضرائبه واصلاحاته، والاتجاه هو نحو لحظ كلفة «السلسلة» في احتياطي الموازنة، ثم تُناقش في الهيئة العامة تمهيدا لاقرارها.
ويوضح ان الضرائب المقترحة ستُدرس تباعا خلال ما تبقى من جلسات وزارية لمناقشة الموازنة، ونحن كتيار وطني حر سنتصدى لاي زيادات على المواطنين.
عماد مرمل - "الديار" - 23 شباط 2017
إرسال تعليق