"نريد قانوناً، نريد قانوناً أكثر تمثيلاً"! فرغم الصعوبات وكثرة المصالح، هناك دون أدنى شك الكثير من سوء الفهم!
هذه الصرخة من القلب التي يطلقها الكثير من اللبنانيين، تعبّر عن نفسها، ليس فقط كحاجة ديموقراطية عميقة، ولكن أيضاً بسبب انعدام الثقة في بعض السياسيين الذين منحوا لانفسهم وفي ما بينهم الحق في اتخاذ القرار بشأن القانون الانتخابي الجديد. دائماً إنطلاقاً من منطق النادي المُغلق.
عادة، يجب أن يكون اختيار قانون انتخابي جديد مصحوبا بوصفٍ للأهداف المرجوة. ومن المؤكد أن القانون الانتخابي لا يمكن أن يحل جميع مشاكلنا، ولكن ستكون له عواقب دائمة على المشهد السياسي اللبناني، والحوكمة في البلاد، والعلاقة بين المواطنين والمؤسسات.
وبالتالي، لا بد من طرح الأسئلة المناسبة ومحاولة الإجابة عنها عبر مشروع قانون يخدم الأهداف التي تخدم المصلحة العامة. هذا هو النهج الذي يجب اعتماده أيضا في ممارسة البرلمانيين والوزراء واجباتهم. ومن أجل اختيار القانون الأنسب، ينبغي على مَن يقترح مشاريع القوانين أن يشرح للمواطنين ما هو الهدف المنشود ولماذا هذا المشروع المُقترح.
حتى يومنا هذا، ان الهدف الوحيد المُعلن وبكل حماسة من قِبَل واضعي القوانين، هو ضمان مصالحهم الخاصة. والحقيقة أننا وصلنا اليوم الى حدّ لم يعد أحد يكترث بإخفاء الإساءة التي يقترفها.
وإذا كنا نبحث عن قانون مناسب، علينا تحديد أي نوع من البرلمان، وأي نوع من التنظيم السياسي نريده لوطننا؟
هل نحن نسعى الى برلمان يمثل المناطق الجغرافية، أم ممثلاً للتيارات الفكرية أم الطوائف أم الأحزاب السياسية؟
هل نريد نواباً لا وجود سياسيا لهم إلا من خلال عضويتهم في الأحزاب السياسية، أم نوّاباً منتخَبين خاضعين لـ"زعيم" محلي، أم نواباً بالتأكيد ملتزمين سياسياً ويحظون بتمثيل شعبي فعّال؟
هل نريد إعطاء كل مواطن وسيلة فعالة للمشاركة في اختيار نوابه، وفي وقت لاحق محاسبتهم؟
هل نريد الحفاظ على التنوع في وطننا أو إدامة توازن القوى، أم الحفاظ على التوتر بين الطوائف؟
هل نحن على استعداد لاعطاء لاعبين جدد وسائل المشاركة في الحياة السياسية، أم أننا نريد الحفاظ على النادي المغلق الذي يولّد نفسَه بنفسه؟
المواطنون اللبنانيون ليسوا أغبياء. ما نراه الآن هو ان الدوافع الحقيقية لأولئك الذين يدّعون لأنفسهم حق سلطة اتخاذ القرار بشأن قانون الانتخابات المُزمَع وضعه، هي توزيع المقاعد في المجلس المقبل في ما بينهم قدر الإمكان. انها حتماً ليست النتيجة الفُضلى للبلاد.
وبالتالي نسأل: من هي الجهة المنوط بها الحفاظ على سيادة لبنان؟ أهي الطوائف أم الأحزاب السياسية أم الشعب؟
أ - مشروع القانون المعروف باسم "القانون الأرثوذكسي" يسعى إلى إعطاء البرلمان التمثيل الطائفي. سيتحوّل المجلس عندها الى مجلس طوائفي، وسيتم توزيع الناخبين وفقا لهذا المعيار وحده، وسيُنظَّم النقاش السياسي عندها داخل كل طائفة، وستصبح بالتالي الأحزاب الدينية وحدها في الندوة النيابية، كما سيصبح الإقتراع اقتراعا طائفيا.
ب - أما مشاريع القوانين المبنية على أساس "النسبية"، فهي تميل من حيث المبدأ الى إعطاء التمثيل الطابع الحزبي. في الواقع، سيفرض القانون النسبي على الناخبين الاختيار بين قوائم محدّدة سلفاً من قِبَل الأحزاب أو التيارات السياسية، بمعزل عن اختيار المرشحين وكفاءاتهم الشخصية، سيصبح الإقتراع عندها حزبياً. إذذاك سينصبّ اهتمام المرشحين فقط على الإنضمام الى إحدى اللوائح، ولن يكونوا مُجْبَرين على الاستجابة الى تطلعات ناخبيهم، بل تلبية مطالب "صنّاع القوائم".
فالقانون النسبي سيولّد المزيد من عدم الاستقرار الحكومي الدائم، أكثر مما نعرفه اليوم في لبنان. والبلدان التي اعتمدت هذا النظام مثل إيطاليا واليونان هي أفضل دليل. في الواقع، القانون النسبي سيسمح للعديد من الأحزاب بدخول البرلمان، ولكن التحالفات في ما بينها هي الوحيدة التي تمكنها من الحكم.
ج - إن طرح لبنان دائرة انتخابية واحدة على أساس النسبية، أي انتخاب جميع أعضاء المجلس من ضمن لوائح مقفلة من 128 مرشحاً، هو مشروع يهدف في الواقع، إلى منح الطوائف الأكثر عدداً السيطرة رقميا وعددياً، وتالياً سيكون لها تأثير أكبر بكثير من الطوائف الأخرى، مع العيوب التي سبق وصفها.
د - إن مشاريع القوانين المختلطة سِمَتها الأولى هي ضمان بقاء، على الأقل، جزء من القانون الحالي الذي ينتقده الجميع. والإبقاء على القانون الحالي لا يمكن تفسيره إلا إرضاءً للمصالح الحزبية لواضعي القانون.
كذلك، فإن القانون المختلط يسمح بضمّ مساوئ كل من النظامين، وعدا تعقيداته، فإنه يمنع الناخبين من فهم كيف سيتم تعداد أصواتهم.
لن يكون الهمّ الأساسي لواضعي مشاريع القوانين المختلطة، وضع أفضل القوانين التمثيلية واعتمادها، ولكن وبكل بساطة ودون خجل، يهدفون الى تقاسم أصوات الناخبين الذين يعتبرونهم أسرى الزبائنية.
فبعد مشروع "الدوحة"، أعلن واضعو "قانون الدوحة" بكل اعتزاز انتصارهم وأنهم تمكنوا من وضع القانون الأفضل، والذي يعتبرونه اليوم ظالماً. ومن الواضح أن المنطق نفسه لا يزال سائداً اليوم.
لذا، لا ينبغي رفض القانون المختلط فحسب، ولكن أيضاً المنطق الذي يسيطر على صياغته، وهو منطق يعود الى عهد قديم، ومن حقنا أن نتجاوزه.
ه- بعد هذا العرض المُسهب، أصبح واضحا أن القانون الانتخابي الأنسب للمجتمع اللبناني، والذي يعطي الأرجحية لتمثيل يتفق مع الوضع الاجتماعي والسياسي في البلاد، هو مشروع "الدائرة الفردية"، أي أن ينتخب كل ناخب مرشحاً واحداً ضمن دائرته الإنتخابية، أي في 112 دائرة انتخابية (مع الاحتفاظ بالتمايز للمدن الثلاث الكبيرة كبيروت وطرابلس وصيدا). وسيصبح الانتخاب عندها "الإقتراع الأقرب".
عندما درسنا في حزب الكتائب مشروع قانون "الدائرة الفردية" من عضو واحد والتصويت الأكثري، كان علينا أولا تعيين بعض الأهداف:
1. التمثيل العادل واحترام المجتمع الطائفي والتنوّع الجغرافي.
2. الحفاظ على ترتيب منطقي للتمثيل، يلبي الحاجات والخصائص الجغرافية والمناطقية وخصائص التنوع الطائفي والسياسي الوطني.
3. إختيار مرشحين يتمتّعون بصدقية حقيقية تجاه ناخبيهم.
4. أن يكون للمقترعين تأثير حقيقي على اختيار البرلمانيين وبالتالي على محاسبتهم.
5. أن يضم البرلمان تيّارات سياسية كبرى قادرة على فرز غالبية ومعارضة تمثل جميع تيارات المجتمع وطوائفه.
6. فرصة جدّية للاعبين الجدد للمشاركة في الحياة السياسية.
7. وضع نظام يولّد حوكمة أفضل للبلاد.
مما لا شك فيه أن الدوائر الصغيرة بطبيعتها توفر التمثيل الجغرافي الحقيقي وتمنع الإحباط الطائفي، خصوصاً انه في عدد من الدوائر سوف يكون هناك ناخبٌ من مذهبٍ راجح. فيحافظ هذا النظام على التنوّع في التصويت الطائفي في عدد كبير من الدوائر الانتخابية.
واضافة إلى ذلك، يجب على المرشحين الذين يترشحون في دائرة صغيرة، أن تكون لديهم صدقية، ويكونوا معروفين من الناخبين، ويمثلون لهم مشروعية ما. إذ لا يمكن أن يتم انتخاب مرشح مغمور أو غريب عن الدائرة ، كما هي الحال في الوقت الراهن، بسبب ارتباطه الأعمى بتنظيم أو حزب أم "زعيم". وبالتالي على المرشح أن يقوم بعمل ميداني في دائرته الانتخابية.
في المقابل، سيصبح الناخبون بشكل فردي أكثر أهمية في نظر المرشحين كما هي الحال في الدوائر الانتخابية ذات الحجم الصغير، إذ إن كل صوت سيُحتسب، و بالتالي سيتمكن هؤلاء الناخبون من معاقبة أو محاسبة ممثليهم المنتخبين.
زد على ذلك، بامكان الدوائر الصغيرة أن تولّد تيارات رئيسية على المدى الطويل. هذا ما لاحظناه في معظم البلدان التي تبنت نظام الدائرة الفردية، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وكندا. وبالتالي، يؤدّي ذلك الى بروز غالبية برلمانية ومعارضة فعالة.
كذلك، وعلى عكس مشاريع القوانين الأخرى، يمكن مرشحين جددا المشاركة في الانتخابات عن طريق اختيار دوائر صغيرة، من دون أن تكون لديهم الموارد المالية الهائلة التي تتطلبها الحملة الانتخابية في الدوائر الكبرى.
وأخيرا، فإن الأحزاب السياسية ستكون مضطرة لاحترام مطالب الرأي العام، إذ إنه في الواقع، وإثر الانتخاب، سيرفع المرشحون المنتَخبون آراء المواطنين بصورة طبيعية إلى قيادات الأحزاب السياسية.
لن أكشف سراً، لقد احتفظت الديموقراطيات الكبيرة بالدوائر الصغيرة. وعادة ما تكون لهذه الدول أفضل أنظمة الحكم، والتي تتمتّع بالاستقرار على المستوى التنفيذي وتؤمّن تداول السلطة بشكل طبيعي.
عدا ذلك، ينبغي أن يلحظ القانون الانتخابي ما يحدّ من المال الانتخابي، كما تمثيل المرأة وجميع متطلبات الشفافية للعملية الانتخابية.
علينا التوقّف عن الكذب على اللبنانيين. نحن بحاجة الى قانون انتخابي جيّد، وهذا ضروري. ومع ذلك، فإن القانون العتيد أياً يكن، لن يسمح لوحده بوضع كل شيء ضمن إطار النظام، حتى لو كان هذا القانون سيساعد.
في الواقع، من أجل معالجة الفساد المستشري والمحسوبية والتغيب عن العمل في الإدارات، والمركزية المدمرة، والتوترات الطائفية وبطبيعة الحال السلاح خارج القوى المسلحة الشرعية، من المُفترض وضع قوانين مناسبة تعالج كل مُعضلة على حدة.
لذا، يجب أن يبدأ كل شيء بتغيير في الذهنية والعقلية. فعلى ممثلي الشعب والحكومات أن يتعلّموا كيفية العمل للأهداف التي تلبي المصلحة الوطنية، وعلى المواطنين والرأي العام أن يعتادوا المحاسبة والمعاقبة.
هذا هو سبب دعمي وتأييدي لقانون من 112 دائرة انتخابية، ولنتوقف عن خلق قضايا زائفة لتُقدَّم لنا علاجات زائفة.
النائب نديم الجميّل - "النهار" - 27 شباط 2017
إرسال تعليق