0
مد التاريخ وجزره لا مراء فيهما. بالأمس البعيد شهدت إفريقيا يومين أسودين: الأول عندما دخلها الأوروبي الأبيض ليستعمرها ويغيّر نسيجها الإجتماعي، والثاني عندما تركها كالطائر الذي حاول مشية الحجل، ففشل ونسي مشيته!. 
أوروبا دخلت في المخاض نفسه عندما دخلها الأميركي بعد الحربين العالميتين، ولملم جراحها وأخذ بيدها اجتماعياً وأمنياً عبر تكوين الناتو وإغداق المساعدات المتنوعة حيث مكنها خلال مائة سنة من استقرار أكيد وعيش رغيد. 
الرئيس ويلسون تسنم منصب الشرطي الأوروبي للحفاظ على "الإستقرار والعدالة" عندما أعلن "أن العالم لا بد أن يستمتع بالأمان لتزدهر الديمقراطية"، وأرسل قواته ليقضي على الفاشية في إيطاليا وألمانيا ويرسّخ زعامة أميركا شبه المطلقة في الغرب الأوروبي.
هذا "العصر الذهبي" الذي برز سنة1917، بدأ يتلاشى عندما وصل أوباما إلى البيت الأبيض وصمم على استقلالية بلاده عن مشاكل العالم الخارجي. ويبدو أن خليفته ترامب سوف يستمر في سياسة الإنعزال هذه تاركاً أوروبا "تقلع أشواكها بيديها"، وعليه يشعر الأوروبيون ان سنة 2017 ستكون ذكرى الميلاد المئوي "للعصر الأميركي"، ومراسم دفنه في آن. 
إنهم يرون في دونالد ترامب رئيساً لا تهمه قضايا العولمة، فهو حريص على الإهتمامات الأميركية بمعزل عن العالم وبيئته واتفاقاته التجارية، هذا ما بدا في حملته الإنتخابية الجموح التي اتسمت بالحنق والعنصرية والتحريض. وجميعها تُعارض مبدأ الكرامة الإنسانية للثقافة الأوروبية وقضايا حقوق الإنسان التي نشرتها أميركا في العالم.
أوروبا بدأت تعاني هذه العزلة وتبحث عن مخرج لملء "الفراغ الأميركي" بعد أن تراكمت مشاكل اتحادها الأوروبي بفعل خروج بريطانيا والهجمة الإسلامية الشرسة على ثقافتها ومقدساتها. 
الهجمة تتوالى فصولاَ وتُهيب بها لتتفهم استراتيجية ترامب وتبحث عن زعيم أوروبي بعقليته مثل مارين لوبن في فرنسا، بعيداً عن سياسات ميركل الألمانية المتأرجحة. إنها بحاجة إلى ديغول فرنسي أو أديناور ألماني يمسك بيد القارة العجوز ويعيد إليها رونقها للوقوف في وجه أميركا وروسيا. لكنها تعلم أن هذا الضرب من القيادة يبدو بعيد المنال. 
هنا يبرز بوتين "الأوروبي" الذي بدأ التسلل لاحتلال أمجاد الناتو وبخاصة بعد تقربه الأخير من ترامب واستعداده "للتعاون" معه عبر "حوار براغماتي" مؤداه المشاركة في مجريات القارة ناهيك عن أمور الشرق الأوسط نظراً للمجال الجغرافي والمشاريع الإقتصادية القائمة كأنابيب النفط والغاز. لكن الأوروبيين الذين اعتادوا على "الفاست فود" وامتلأت لغتهم بالمفردات الأميركية لا يزالون يعتبرون جبال الأورال أبعد بكثير عن الأطلسي. ومعظمهم ينتظر "معجزة الرجوع لأميركا" حتى بعد تسلّم ترامب، والتي نجح أوباما في "تطييرها" عبر زيارته الأخيرة.

إنتظروا وليد فارس أولاً..
بدأت آمال العرب والعجم تتمحور حول ترامب لكنها تبدو كسراب صحراوي. المحللون السياسيون بين عرب وإسرائيليين يهرولون لتوقعات إيجابية من الرئيس العتيد تبدو كتوقعات ليلى عبد اللطيف، وبعضهم توصّل لإسداء النصائح إليه عن كيفية التعامل مع داعش، أو موقفه من الأسد. لكننا ننصحهم بعدم إطلاق خيولهم والتأكد من منصب وليد فارس، مستشار القوات اللبنانية سابقاً، كمستشار ترامب المقترح لشؤون الشرق الأوسط.
الرئيس السيسي كان أكبر المتحمسين لترامب وأول المهنئين. وبعد محادثتهما الهاتفية ضحك وقال: "أي رجل عظيم هذا.. أخيراَ جاء من لا يزعجنا في مواضيع حقوق الإنسان!" لقد دعاه لزيارة القاهرة دعوة لم تقابل بمثلها. أما الرئيس السوري فاطمأن لانضمام ترامب لبوتين في معالجة الوضع السوري. ثم نتنياهو الذي زار ترامب خلال الحملة متوسماً نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فهو لا يزال في حيّز التمنيات.. "وكل يدّعي وصلاً بليلى/ وليلى لا تقرّ له بذاكا"! لكن وليد فارس سيقلب المعادلات.

د. هادي عيد 17 تشرين الثاني 2016

إرسال تعليق

 
Top