لا يستطيع الرئيس ميشال عون أن يعيد الرئاسة إلى ما كانت عليه حين قرّر الوصول إليها في العام 1988. فالصلاحيات التي أخذها «إتفاق الطائف» تصعب استعادتها. لكنّ كثيرين يعتقدون أن رئيس الجمهورية ما زال يتمتع بصلاحيات مهمة، وأنه يستطيع القيام بالكثير... شرط أن يمارسها فعلاً.
في الخطاب السياسي الذي اعتمده عون قبل وصوله إلى الحكم، كان يرى أنّ رئاسة الجمهورية تلاشت بعد «الطائف» لأنها عانت ضعفاً مزدوجاً: ضعف الصلاحيات الدستورية وضعف الرئيس نفسه. فإذا تمّ تصحيحهما معاً عادت الرئاسة إلى سابق قوتها وأكثر. وأما إذا تعذّرت استعادة الصلاحيات، فإنّ قوة الرئيس قادرة على تعويض الكثير.
المثير هو أنّ موقف عون، الآتي إلى تنفيذ «إتفاق الطائف» من موقع المقاتل ضده لسنوات طويلة، يتقاطع مع النواب الذين شاركوا قبل ربع قرن في صُنع هذا الإتفاق، ومنهم حقوقيون بارزون.
فهؤلاء لطالما دافعوا عمّا فعلوه في «الطائف» بالقول: «إنّ مقدار ما أُخِذ من رئاسة الجمهورية لا يؤدّي إلى تعطيلها. ويمكن رئيس الجمهورية أن يبقى قوياً على رغم ما تعرَّضت له صلاحياته من إضعاف».
ويستشهد هؤلاء على موقفهم قائلين: «إنّ الطائف الذي صنعناه مرغمين وتحت وابل النار لم يقتل الرئاسة، بل إنّ ما قتلها هو اغتيال الرئيس رينيه معوّض وانتصار المنطق الفوقي وحرف «الطائف» الأساسي عن مساره باعتماد «طائفٍ» آخر مزوَّر».
ويضيفون: «إنّ ما يمكن أن يفعله الرئيس عون هو إنهاء المنطق الفوقي واستعادة ذلك «الطائف» الذي لم تتحقق له الفرصة لكي ينفَّذ. وعندئذٍ، سيظهر ما فعله «الطائف» بالرئاسة فعلاً، وسيكتشف الجميع- للتاريخ- أنّ «نواب الطائف» لم يرتكبوا الخطيئة العظمى وطنياً».
بالنسبة إلى نواب الطائف، إنّ ما أجبرهم على القبول بهذا الحدّ من التنازلات هو الإنهزام العسكري - السياسي الذي كانت أسبابه معروفة. وقد رحل من هؤلاء النواب كثيرون من دون أن تُتاح لهم محاكمة عادلة، لأنّ زمن ما بعد «الطائف» استخدم هؤلاء النواب كحجارة شطرنج انقضت مفاعيلها.
طبعاً، هذا المنطق يتبنّى منطلقات يناقضها عون. ولكن، على مسافة 27 عاماً من الطائف، الجميع يريد الخروج من التاريخ والوصول إلى حلول عملية للحاضر والمستقبل. لذلك، يلتقي المتناقضان عند النقطة الآتية:
ما هو في التاريخ متروك للتاريخ. والآن، تعالوا جميعاً لنتدارك الأسوأ، إذا لم يكن ممكناً الحصول على الأفضل، أي إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، خصوصاً أنّ هذا المنطق لطالما تبنّاه أيضاً خصوم عون المسيحيون، حلفاؤه الجدد، أي «القوات اللبنانية».
إذاً، وفي الدرجة الأولى، كيف لعون الرئيس الذي فرض نفسه بـ»قوة الأمر الواقع» الجديد، أن يعوِّض ما خسره موقع الرئاسة بـ»قوة الأمر الواقع» التي فرضت نفسها خلال «الطائف» وربع قرن بعده؟
ويعوِّل حقوقيون على شخصية الرئيس. فهو «بأدائه وطريقة إدارته لمجلس الوزراء وانتظام الحياة السياسية يستطيع أن يتخطى بعض العوائق التي نعتقد أنها نقص في الصلاحيات».
وينطلق حقوقيون آخرون، ومنهم الدكتور بول مرقص، من قاعدة مهمّة في استخدام الصلاحيات هي الآتية: «كلّ ما لا يمنع النص الدستوري ممارستَه من صلاحيات يكون مسموحاً به، وتالياً يمكن اعتماده لتوسيع الصلاحيات إلى الحدّ الأقصى، من دون الخروج عليها».
وأهمية هذه الفلسفة الحقوقية لتوسيع الصلاحيات تكمن في أنها لا تستلزم الدخول في عناء التعديل الدستوري، وتالياً لا تحتاج إلى انتظار الظروف المناسبة لإنضاج التعديلات الدستورية، مع ما تحتاج إليه من تحضير على المستوى السياسي.
وفي إمكان عون أن يعتمد هذه الفلسفة الهادفة إلى توسيع الصلاحيات تحقيقاً للعناوين التي طرحها في خطاب القسَم، وللتعهدات التي لطالما أطلقها باستعادة قوة الرئاسة، بما يخدم الدور الطبيعي لرئاسة الجمهورية وطنياً.
وهناك أمثلة عدة يوردها بعض المعنيين في هذا المجال، ومنها:
1 - يولي الدستور رئيس الجمهورية موقع المدافع عن الدستور والأمة اللبنانية. والقسَم الذي يؤدّيه في هذا المجال لا يؤدّيه أحد سواه. وهذا يعني أنّ الائتمان على الدستور هو أساساً خصوصية لرئيس الجمهورية. وانطلاقاً من هذه الخصوصية يستطيع الرئيس أن يمارس قوة معنوية لمواجهة أيّ تعطيل للدستور.
ومن ذلك مثلاً، إعطاء مهلة «معقولة» لتأليف الحكومة. فإذا استمرت المراوحة، يتوجّه إلى رئيس الحكومة بطلب يحضّه فيه على التأليف وعرضِ التشكيلة الوزارية على المجلس النيابي لنيل ثقته، لئلّا تستمرّ البلاد مشلولة بحكومةٍ لتصريف الأعمال.
2 - في الممارسة أيضاً، لا يتخلّى رئيس الجمهورية عن موقعٍ وازنٍ له في مجلس الوزراء، وعن تسمية وزراء له من فئات أخرى، على غرار ما يفعل رئيسا المجلس والحكومة بتسميتهما وزراء مسيحيين.
3 - يتيح الدستور أن يترأس رئيس الجمهورية جلسات مجلس الوزراء، من دون ضوابط. ويعني ذلك أنّ رئيس الجمهورية قادر على ممارسة هذه الصلاحية في استمرار، فيترأس الجلسات لإقرار كلّ القرارات ذات الشأن. وإذا ارتأى أنّ القرارات المتبقة للدرس لم تعد تحتاج إلى حضوره، وأن لا حاجة ضرورية لبقائه في الجلسة، يمكنه الإنسحاب منها.
4 - في الدستور، رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة. وتحت هذا العنوان، هو يمكن أن يساهم في صون الدور الرائد للمؤسسة العسكرية على مختلف المستويات.
5 - في ربع قرن مضى، جرى التعاطي في عدد من الوزارات والمؤسسات والمصالح والأجهزة بنحو غير متوازن مع المسيحيين بسبب غياب المرجعية القوية في السلطة لهؤلاء، في مقابل مرجعيات قوية في السلطة للشيعة والسنّة والدروز.
ومن شأن وجود رئيس قوي للجمهورية، يمتلك قوة شخصية وتمثيلية، أن يعيد التوازن تدريجاً إلى الأمكنة التي اعتراها الخلل، فيتوقف نهج إزاحة الموظّفين المسيحيين، لأن «لا ظهر لهم» يحميهم.
طبعاً، هذه نقاط أولية. وهناك أخرى كثيرة تظهر تدريجاً ويمكن تكريس الممارسة الجديدة فيها. ولا يصعب على عون اكتشافها، خصوصاً إذا كان يستند إلى إدراك عميق للممارسة والدستور، نتيجة للقراءة الدقيقة لا للارتجال.
ويُضاف إلى ذلك ما أعلنه عون مباشرة في خطاب القسَم بعد انتخابه، أي التزام «الطائف» كاملاً وفي شكل غير استنسابي. ومن ذلك اليوم التمسك الكامل بواحدة من أبرز الصلاحيات الباقية لرئيس الجمهورية - بالنص- بعد الطائف، أي التوقيع على مراسيم تأليف الحكومة.
فهذه الصلاحية أساسية لبناء السلطة بكاملها، لأنها تعطي الرئيس فرصة لاختيار حكومة يرضى عنها وتمنحه الفرصة لوضع الفيتو على أيّ حكومة يرفضها.
ولا تتكرّر للرئيس فرصة أخرى في مناسبات أخرى. فإذا أضاعها ووافق على حكومة «على مضض»، سيكتشف لاحقاً كم كان كبيراً الخطأ الذي ارتكبه بقبول ولادة الحكومة التي لا تناسبه، تحت ضغط الوقت أو أيّ ظروف أخرى.
فالحكومة سيكون لها دور أساسي في استيلاد قانون جديد للانتخابات النيابية. وهذا القانون هو الذي سيتحكّم بولادة السلطة التشريعية التي تأتي بالحكومات اللاحقة وتقرّ كلّ القوانين، وهي التي عنها تنبثق كلّ السلطات.
اليوم، يبدو عون أمام هذه التحديات جميعاً، ولا سيما منها تحدّي ولادة الحكومة المتوازنة وطنياً والقادرة على ممارسة السلطة بنحو سليم... مع التزام المهلة المعقولة للتأليف. فالحكومة العتيدة حجرٌ أساس في إثبات قدرات العهد الجديد، وهي ركيزة للانطلاق إلى فلسفة التوسّع بالصلاحيات.
فهل سيتمكّن عون من تحقيق هدفٍ يراهن عليه كثيرون وسيتصدّى له كثيرون؟
طوني عيسى - "الجمهورية" - 28 تشرين الثاني 2016
إرسال تعليق