بقدر ما يُهمُّ العهدُ تأليفَ حكومةٍ جديدة، يُهِمّه إرساءَ حكمٍ جديد أيضاً. هذا عهدٌ يَطمَح أن يكونَ الأولَ بنوعيَّتِه لا الثالثَ عشرَ بترتيبِه الزمني. وبالتالي، لا يَضيرُه التأني بتشكيلِ الحكومة ريثما يتأكدُ من الأسسِ الدستوريةِ والأعرافِ الميثاقيةِ التي سيرتكز عليها ومن القواعدِ التي ستُدير العلاقاتِ بين الرئاسةِ والمؤسساتِ الدستورية الأخرى والطبقة السياسية (سيروا في النور ما دام لكم النور ــ من إنجيل يوحنا).
عَلاوةً عن الأسبابِ المعلَنة (الحصصُ والحقائب والأسماء وقانون الانتخاب وموعد الانتخابات)، ما يؤخّر التأليفَ أساساً هو الخلافُ على مفهومِِ "الطائف" ومصيرِه بين المعنيّين بعملية التأليف.
ومن خلالِ الصراع على "الطائف" يسعى كل مكوّنٍ طائفي، بل حضاري، لتحديدِ مساحتِه في الدولة اللبنانية في زمن تقريرِ مصيرِ الأكثريات والأقليات في الشرق الأوسط. ويترافق ذلك مع شعورِ كلِّ مكوّنات لبنان بالقلقِ على المصير بغضّ النظرِ عن القوّة السياسية أو العسكرية لكل مكوّن.
قبلَ "إعلان النيات" بين حزب "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر" كانت نسبةُ القلقِ المسيحي كبيرة، وقبلَ انضمامِ تيار "المستقبل" إلى هذا الثنائي كانت نسبةُ الانزعاج السنّي مرتفعة. أما اليوم فبرز توجّسٌ لدى الشيعة من الالتفافِ عليهم بغية الحدِّ من دورهم المتنامي، فتصلّبوا واعتقلوا الحكومةَ رهنَ التحقُّـق من النيات.
لذا، تسعى الأطرافُ السياسية من خلال عمليةِ تأليفِ الحكومة إلى تفكيكِ عددِ من التحالفات الأساسية القائمة: فحزبُ الله يريد أن يزعزعَ اتفاقَ "إعلان النيات" بين حزب "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر".
و"القواتُ اللبنانية" تترافعُ لإخلاءِ سبيلِ "التيار الوطني الحر" من "تفاهم مار مخايل" مع حزب الله. والمكوّن الشيعي يقيم حواجزَ للحدِّ من التقارب المنتعش بين المكونين المسيحي والسني بعدما أيّد تيارُ "المستقبل" الجنرال عون.
وفي نفس السياق، تُرغِّب المملكةُ العربية السعودية الرئيسَ اللبناني بهجرِ المحورِ السوري ــ الإيراني، وتَدعمُها دولُ الخليج وأميركا وفرنسا. أما سوريا، متجاهلةً تغيّراتِ الزمن، فتَلتمس أن يُجدّد الرئيسان عون والحريري الاعترافَ بشرعيةِ نظامها وباستمرارِ تأثيرها في لبنان (وقَلِّعْ يا جنرال). كل ذلك يعني أن اتفاقَ الطائف لم يَضع حداً لهواجس اللبنانيين وأنه كان مُجردَ تسويةٍ مرحلية تحتاج إلى تعديل.
منذ ولادتِه سنة 1989، عرَف اتفاقُ الطائف هوياتٍ مختلفةً وتطبيقاتٍ اعتباطية. هويّتُه الأولى طغى اللونُ السعودي ــ الأميركي عليها فانتُخب الرئيسُ الشهيد رينه معوض. والثانيةُ طغى اللونُ السوري عليها فاختير الرئيسان الياس الهراوي وإميل لحود ومُدِّدَ لهما.
والثالثةُ استعادت اللونَ السعودي ــ الأميركي نحو سنتين مع ثورة الأرز و14 آذار 2005 وانتخاب الرئيس ميشال سليمان لاحقاً. والرابعة زها اللونُ الإيراني فيها من خلال حزب الله بعد حرب 2006. وفي كل مراحل تداولِ الألوان ظلّت مختلفُ الهويّات حاضرةً وإنْ تنحّت لبعضها البعض بغـصّاتٍ متفاوتةٍ.
طَوال تلك الحقبات كان دورُ رئيس الجمهورية في تأليف الحكومات مِنَّةً من الوصي السوري أو "إكرامية" سياسيةً (تسوية الدوحة) منفصلةً عما يُفترض أن يعطيَه إياه نصُّ دستورِ الطائف وروحُه. حان الوقتُ لأن يكونَ رئيسُ الجمهورية، رمزُ البلادِ ووحدتِها، هو ناظمُ الحياةِ الدستورية ومرجِعيّتُها بَعدَ السوريّ وليس هذا الفريقُ السياسيّ أو ذاك المكوّنُ الطائفي.
ما يحاول أن يقومَ به الرئيس عون اليوم هو تخطي هذه الهويّات الخارجية المناقضةِ للولاء الوطني ولبننةُ الطائف وإرجاعُ الحق السليب إلى رئاسة الجمهورية وإعادةُ دور المسيحيين إلى المعادلة. ويفترض أن تَحظى خطوةُ الرئيس عون بتأييد كل المسلمين شيعةً وسُنَّةً انسجاماً مع تصاريحهم المُسرِفة عن الميثاقيةِ والشراكة والمناصفة.
إن اللبنانيين، ولاسيما المسلمين منهم، الذين ردّدوا طَوالَ سبعٍ وعشرين سنةً أن الطائفَ جيدٌّ لكن تطبيقَه سيءٌّ، مدعوون اليوم أن يؤكدوا نظريتهم ويدعموا رئيسَ الجمهورية العماد ميشال عون في حسن تطبيقه. إذ لا يستطيع هؤلاء أن يرفضوا تعديلَ نصِّ اتفاق الطائف بحُجّة أنه جيد، وأن يرفضوا بالمقابل تصحيحَ تطبيقه ليصبحَ بالفعل جيداً وميثاقياً ومتوازناً.
إذا استمر هذا الموقف، لا الطائفُ سيبقى ولا الحكومةُ ستؤلَّف. سيتحوّل رئيسُ الجمهورية مُشرفاً على مؤتمرٍ حواري لإعادة تكوين النظام اللبناني على أسسٍ جديدة من وحْي التناقضات التي برزت في التعددية اللبنانية وفي مجتمعاتِ دولِ المحيط عوضَ التركيز على تأليفِ الحكومة
ووضعِ قانونٍ انتخابي جديد.
أي أن العهدَ سيكون أمامَ السلّةِ التي تجنّبها قبل الانتخابات الرئاسية. ولا يخفى بأن دستورَ الطائف أدّى، من خلال طائفيته المذهبية، خلافاً للميثاق الوطني، إلى انتشار حالةٍ فدرالية لبنانية تبحث عن شرعيةٍ دستورية فلا تبقى أمراً واقعاً. كلنا نُندّد بالفدرالية إعلامياً وكلنا نطبّقها واقعياً. وأكثرُ من يُطبقها هم أولئك الذين يَرفضونها.
من هنا أعجبُ من الذين يأخذون على رئيس البلاد إشرافَه المباشَر على عملية تأليف الحكومة. فهل صارت ممارسةُ رئيسِ الجمهورية دورَه وصلاحياتِه عرقلةً لتأليف الحكومة؟ يجب أن نَعرفَ ونعترف أن الأمورَ ستختلف مع ميشال عون وإلا ما كان هناك داع لانتخابِ رجلٍ بشخصيتِه وقوته وميثاقيته لرئاسة الجمهورية.
لقد انتخبوا رئيساً قوياً ويتعاملون معه كأنه رئيسٌ ضعيف، وانتخبوا رئيساً ميثاقياً ويتصرفون تجاهَه بأسلوبٍ غير ميثاقي، وانتخبوا رئيساً حليفاً ويتصرفون معه وكأنه خَصمٌ. لن يحيا لبنان طويلاً إذا استمر قرارُه الوطني خارجَ حدودِه ومرجِعيّتُه خارجَ قصر الرئاسة.
سجعان القزي - "الجمهورية" - 28 تشرين الثاني 2016
عَلاوةً عن الأسبابِ المعلَنة (الحصصُ والحقائب والأسماء وقانون الانتخاب وموعد الانتخابات)، ما يؤخّر التأليفَ أساساً هو الخلافُ على مفهومِِ "الطائف" ومصيرِه بين المعنيّين بعملية التأليف.
ومن خلالِ الصراع على "الطائف" يسعى كل مكوّنٍ طائفي، بل حضاري، لتحديدِ مساحتِه في الدولة اللبنانية في زمن تقريرِ مصيرِ الأكثريات والأقليات في الشرق الأوسط. ويترافق ذلك مع شعورِ كلِّ مكوّنات لبنان بالقلقِ على المصير بغضّ النظرِ عن القوّة السياسية أو العسكرية لكل مكوّن.
قبلَ "إعلان النيات" بين حزب "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر" كانت نسبةُ القلقِ المسيحي كبيرة، وقبلَ انضمامِ تيار "المستقبل" إلى هذا الثنائي كانت نسبةُ الانزعاج السنّي مرتفعة. أما اليوم فبرز توجّسٌ لدى الشيعة من الالتفافِ عليهم بغية الحدِّ من دورهم المتنامي، فتصلّبوا واعتقلوا الحكومةَ رهنَ التحقُّـق من النيات.
لذا، تسعى الأطرافُ السياسية من خلال عمليةِ تأليفِ الحكومة إلى تفكيكِ عددِ من التحالفات الأساسية القائمة: فحزبُ الله يريد أن يزعزعَ اتفاقَ "إعلان النيات" بين حزب "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر".
و"القواتُ اللبنانية" تترافعُ لإخلاءِ سبيلِ "التيار الوطني الحر" من "تفاهم مار مخايل" مع حزب الله. والمكوّن الشيعي يقيم حواجزَ للحدِّ من التقارب المنتعش بين المكونين المسيحي والسني بعدما أيّد تيارُ "المستقبل" الجنرال عون.
وفي نفس السياق، تُرغِّب المملكةُ العربية السعودية الرئيسَ اللبناني بهجرِ المحورِ السوري ــ الإيراني، وتَدعمُها دولُ الخليج وأميركا وفرنسا. أما سوريا، متجاهلةً تغيّراتِ الزمن، فتَلتمس أن يُجدّد الرئيسان عون والحريري الاعترافَ بشرعيةِ نظامها وباستمرارِ تأثيرها في لبنان (وقَلِّعْ يا جنرال). كل ذلك يعني أن اتفاقَ الطائف لم يَضع حداً لهواجس اللبنانيين وأنه كان مُجردَ تسويةٍ مرحلية تحتاج إلى تعديل.
منذ ولادتِه سنة 1989، عرَف اتفاقُ الطائف هوياتٍ مختلفةً وتطبيقاتٍ اعتباطية. هويّتُه الأولى طغى اللونُ السعودي ــ الأميركي عليها فانتُخب الرئيسُ الشهيد رينه معوض. والثانيةُ طغى اللونُ السوري عليها فاختير الرئيسان الياس الهراوي وإميل لحود ومُدِّدَ لهما.
والثالثةُ استعادت اللونَ السعودي ــ الأميركي نحو سنتين مع ثورة الأرز و14 آذار 2005 وانتخاب الرئيس ميشال سليمان لاحقاً. والرابعة زها اللونُ الإيراني فيها من خلال حزب الله بعد حرب 2006. وفي كل مراحل تداولِ الألوان ظلّت مختلفُ الهويّات حاضرةً وإنْ تنحّت لبعضها البعض بغـصّاتٍ متفاوتةٍ.
طَوال تلك الحقبات كان دورُ رئيس الجمهورية في تأليف الحكومات مِنَّةً من الوصي السوري أو "إكرامية" سياسيةً (تسوية الدوحة) منفصلةً عما يُفترض أن يعطيَه إياه نصُّ دستورِ الطائف وروحُه. حان الوقتُ لأن يكونَ رئيسُ الجمهورية، رمزُ البلادِ ووحدتِها، هو ناظمُ الحياةِ الدستورية ومرجِعيّتُها بَعدَ السوريّ وليس هذا الفريقُ السياسيّ أو ذاك المكوّنُ الطائفي.
ما يحاول أن يقومَ به الرئيس عون اليوم هو تخطي هذه الهويّات الخارجية المناقضةِ للولاء الوطني ولبننةُ الطائف وإرجاعُ الحق السليب إلى رئاسة الجمهورية وإعادةُ دور المسيحيين إلى المعادلة. ويفترض أن تَحظى خطوةُ الرئيس عون بتأييد كل المسلمين شيعةً وسُنَّةً انسجاماً مع تصاريحهم المُسرِفة عن الميثاقيةِ والشراكة والمناصفة.
إن اللبنانيين، ولاسيما المسلمين منهم، الذين ردّدوا طَوالَ سبعٍ وعشرين سنةً أن الطائفَ جيدٌّ لكن تطبيقَه سيءٌّ، مدعوون اليوم أن يؤكدوا نظريتهم ويدعموا رئيسَ الجمهورية العماد ميشال عون في حسن تطبيقه. إذ لا يستطيع هؤلاء أن يرفضوا تعديلَ نصِّ اتفاق الطائف بحُجّة أنه جيد، وأن يرفضوا بالمقابل تصحيحَ تطبيقه ليصبحَ بالفعل جيداً وميثاقياً ومتوازناً.
إذا استمر هذا الموقف، لا الطائفُ سيبقى ولا الحكومةُ ستؤلَّف. سيتحوّل رئيسُ الجمهورية مُشرفاً على مؤتمرٍ حواري لإعادة تكوين النظام اللبناني على أسسٍ جديدة من وحْي التناقضات التي برزت في التعددية اللبنانية وفي مجتمعاتِ دولِ المحيط عوضَ التركيز على تأليفِ الحكومة
ووضعِ قانونٍ انتخابي جديد.
أي أن العهدَ سيكون أمامَ السلّةِ التي تجنّبها قبل الانتخابات الرئاسية. ولا يخفى بأن دستورَ الطائف أدّى، من خلال طائفيته المذهبية، خلافاً للميثاق الوطني، إلى انتشار حالةٍ فدرالية لبنانية تبحث عن شرعيةٍ دستورية فلا تبقى أمراً واقعاً. كلنا نُندّد بالفدرالية إعلامياً وكلنا نطبّقها واقعياً. وأكثرُ من يُطبقها هم أولئك الذين يَرفضونها.
من هنا أعجبُ من الذين يأخذون على رئيس البلاد إشرافَه المباشَر على عملية تأليف الحكومة. فهل صارت ممارسةُ رئيسِ الجمهورية دورَه وصلاحياتِه عرقلةً لتأليف الحكومة؟ يجب أن نَعرفَ ونعترف أن الأمورَ ستختلف مع ميشال عون وإلا ما كان هناك داع لانتخابِ رجلٍ بشخصيتِه وقوته وميثاقيته لرئاسة الجمهورية.
لقد انتخبوا رئيساً قوياً ويتعاملون معه كأنه رئيسٌ ضعيف، وانتخبوا رئيساً ميثاقياً ويتصرفون تجاهَه بأسلوبٍ غير ميثاقي، وانتخبوا رئيساً حليفاً ويتصرفون معه وكأنه خَصمٌ. لن يحيا لبنان طويلاً إذا استمر قرارُه الوطني خارجَ حدودِه ومرجِعيّتُه خارجَ قصر الرئاسة.
سجعان القزي - "الجمهورية" - 28 تشرين الثاني 2016
إرسال تعليق