0
كتب طوني بوملهب، مستشار الوزير بيار الجميّل سابقاً، عشية الذكرى العاشرة لاستشهاد الجميّل، الآتي: 

"حملت هموم الوطن ورحلت"

اخي الحبيب بيار.

تمر الأيام والسنين وكأن الزمن لحظة عابرة في دورة الحياة.

عشرة سنين على إستشهادك وكأنني بك تقول أنك ما زلت بيننا تعيش بكل من أحبك وآمن بمسيرتك.

افتقدك عند بزوغ شمس كل نهار فتزيد ذكراك من حبي لك ويزداد حلمي بايام المجد والعنفوان التي عشناها معك.

في الفكر والضمير انت. في وعد الاطفال وحلم الشباب انت. في حكمة الشيوخ وامل الاوطان انت..

ابتدأت شخصاً واصبحت تاريخاً. اجتمعت فيك كل اوصاف الابطال، وعلى مثالك حلم لبنان برجال يكملون رسالتك.

رافقتك على مدى 15 عشرة سنة ، ورأيت بك الوطن الذي لا يموت والشعب الذي لا يعرف اليأس والإنكسار.

قدرتك اللامحدودة على البذل والعطاء رسخت فيي شعور الانتصار على المستحيل. وكيف لا ؟ الم تثبت ذلك بكل مراحل حياتك السياسية وخاصة باسترجاع الكتائب اللبنانية الى حضن الوطن؟ فاذا كان الرئيس المؤسس الشيخ بيار الجميل هو من اعطى للكتائب حياتها، افلم تكن انت من اقمتها من موتها ؟ وكأن قدر الكتائب ان لا تخلق ولا تعيش ولا تستمر الا بهاتين الصخرتين.

قيل فيك الكثير وقيل عنك الاكثر، ولكن الكلمات مهما سمت وبلغت تبقى مقصرة عن اداء حقك، وتبقى عاجزة امام عظمة ما حققته في عمرك القصير الذي كرسته من اجل لبنان والكتائب.

اردت لبنان اكبر من التيارات والاعاصير، اكبر من المؤامرات والمداخلات الاجنبية، اكبر من الحساسيات والصراعات الطائفية، اردته وطن يكون لكل اللبنانيين فيكبر بهم.

آمنت بلبنان وقضيته واعطيته عمرك كله لتدخل تاريخ هذا الوطن من باب الاستشهاد قائداً ولا اعظم.

عرفت كيف تحب الكتائب وبذلت الغالي والرخيص لكي تستعيدها لخدمة لبنان واعدت اليها كرامتها والبستها ثوب المجد.

لقد كنت بحق رجل المواقف الجريئة والشجاعة. كسرت الحواجز وقربت المسافات وازلت حائط الخوف لدى بعض السياسيين اللبنانيين ممن خاصموك في السابق لتمد لهم يد الانفتاح، فتتخطى الطوائف والاحزاب وتضع حجر الاساس في ركن المصالحة اللبنانية واضعاً نصب عيناك شعار لبنان فوق الجميع.

لقد كنت بحق رجل المواقف الجريئة والشجاعة.

لو اردت ان اسرد اعمالك ايها الحبيب لأحتجت الى صفحات وصفحات من اجل إلقاء الضوء على الجزء القليل الذي تيسر لي مرافقتك به في حياتك السياسية. لكنني أراني مضطراً الى الإضاءة على بعض جوانب هذه الأعمال والمحطات التي شرفتني بمنحي ثقتك لمشاركتك بها والتي جعلتني اتعرف عليك اكثر. اتعرف بها على بيار الانسان والقائد الملهم، على بيار العطاء والفداء حتى الشهادة، وجعلتني اؤمن بك قائدأ مميزأ، فكنت بحضرة انسان استثنائي كان قادراً على انقاذ وطنه وحزبه.

استدعيتني يوماً لتقول لي انك ستقوم بزيارة الرئيس رفيق الحريري لتقديم واجب العزاء. تملكتني الدهشة، لكنك استدركت قائلاً لي انه حان الوقت لكي يلتقي اللبنانيون مع بعضهم البعض، ويصارح بعضهم البعض، ، خاصة وإنك ترى في اعماق الرئيس الحريري شخصية وطنية تريد إستقلال وسيادة لبنان، وعلينا نحن كمسيحيين ان نمد يدنا اليه لعلنا نبدأ سوية بمسيرة استرجاع كرامتنا الوطنية وإخراج الجيش السوري من لبنان.

توجهنا الى قصر قريطم ولم نكن ندري كيف ستفسر زيارتنا هذه وكيف سيتم إستقبالنا، لم ندري إن كنا سنتعرض الى تعليقات قاسية عند دخولنا، وإن كان الرئيس الحريري سيقبل بمد يد المصافحة، وكيف سيكون تأثير هذه المبادرة على قوى الامر الواقع يومذاك. لكنك اصريت على اتمامها ودخلت مرفوع الجبين بين الجموع المعزية التي ارتفعت على سماءهم دهشة عارمة غير مصدقين رؤيتك في هذا المكان بالذات.

كنت تشق طريقك بينهم، وما هي الا لحظة حتى رأينا الرئيس الحريري يقوم عن كرسيه متوجهاً بسرعة نحوك، ماداً يديه ليصافحك بحرارة ويأخذ بنا جانباً فيعرب لك عن سعادته لرؤيتك والتعرف اليك، مقدراً المبادرة التي صدرت منك لتعزيته، ولن انسى كيف انهى حديثه معك قائلاً انه يأمل ان يستمر الاتصال والتواصل فيما بينكم لانه حان الوقت لبناء وطن يجتمع فيه المسيحي والمسلم على قاعدة الوطنية، بعيداً عن كل وجود غريب على ارضه، وانه يرى فيك مستقبلاً رجل دولة قادرعلى إستعادة الدور السياسي لمسيحيي لبنان.

خرجنا من هذا اللقاء وشعور الإنتصار يغمر بنا. لقد بدأت اليوم مسيرة تحرير لبنان واسترجاع الكتائب اللبنانية وعودة الرئيس امين الجميل الى ربوع الوطن.

لم تكتفي بذلك، بل قمنا بزيارة مناطق لبنانية كانت بالنسبة لنا في ما مضى اماكن لم نكن لنتخيل اننا سنزورها في يوم من الايام، لكي تلتقي سراً بفاعليات سياسية لبنانية كانت تتلمس طريقاً لبدء حوار استرجاع السيادة والإستقلال. و في كل زيارة ارافقك بها كان تعلقي يزداد بشخصيتك وشجاعتك. وكم كنت اخاف عليك عندما كنا نمضي سوية الى امكنة لم يجرؤ الاخرون على زيارتها، فتجتمع بمن اردت الإجتماع بهم وتناقشهم بهموم الوطن والسياسة، فأرى بك قائداً شاباً يتحلى بحكمة الشيوخ.

لقد استمريت ايها الحبيب بعملك الوطني من دون خوف او تعب او ملل الى ان كان قرارك الكبير، قرار ترشحك على النيابة. وتعود بي الذاكره الى ذلك اليوم حيث اجتمعنا في باريس بحضور رفيق الدرب نازاريت مقصوديان. وكعادتك بمشاركة المقربين منك بأفكارك وأحلامك، طرحت فكرة ترشحك للنيابة وامضينا ساعات طويلة نتناقش في هذا المضوع وحيثياته، واحسسنا حينها برهبة القرار، ورهبة إطلاع الرئيس امين الجميل بهذا الامر واقناعه بصوابيته.

توافقنا على اللقاء في اليوم التالي لمناقشة الموضوع مع الرئيس، والتقيناه وجلسنا بحضرته كتلامذة في اصعب امتحان، وموضوعه كيف نقنع رئيس جمهورية سابق، صاحب خبرة طويلة في النيابة، وسياسي فوق العادة، بصوابية هذا الأمر. وكما توقعنا فان الامر لم يكن سهلاً، حتى ان صوته ارتفع بوجهنا مرات عدة لثنيك عن الفكرة، وهو امر كنا نتوقع حدوثه. فبالنتيجة حنان الاب وخوفه عليك كان الدافع الأكبر في معارضته. لكن حجتك ايها الحبيب كانت اكبر من اي ممانعة.

وكان انتصارك الكبير الذي فاجأ الكثيرين وبنسبة اصوات عالية. فدخلت الى المجلس النيابي واثبت حضورك، وكنت الصوت المدوي الذي اعاد الثقة الى الحضور المسيحي النيابي بمستقبل افضل وبوطن حر ومستقل.

أصبحت معادلة صعبة في الحياة السياسية اللبنانية، واصبح اسمك من المسلمات الاساسية في تشكيل اي حكومة.

عرضت عليك وزارة الصناعة وكنا يومها، ايلي معلوف وكلود ابو رحال وانا مجتمعين بك في منزلك حين وصلك خبر تشكيل الحكومة، فنظرت إلينا قائلاً مهما كان نوع وطبيعة الوزارة المعروضة فسأجعلها من اهم الوزارات التي ستكون بخدمة اللبنانيين والتي ستساهم في ارساء فكر ونهج جديد في العمل الحكومي.

ربحت التحدي فكان شعارك " بتحب لبنان حب صناعتو" وأصبحت وزارتك كخلية نحل في عمل متواصل مع فريق عمل من المستشارين، وكان لي شرف العمل معك من خلال هذا الفريق. فألتف حولك الصناعيين في لبنان بعدما نجحت في إيصال كلمتهم وحاجاتهم الى مركز القرار لتطوير صناعاتهم وتسويقها محلياً وعالمياً. اما وجودك داخل الحكومة فقد اعطاها زخماً نوعياً وروحاً شابة تركت أثارها العميقة على جميع الوزراء المشاركين، حلفاء كانوا ام أخصام.

هذا على الصعيد الوطني، اما على الصعيد الحزبي فأحتار من اين ابدأ وماذا يمكنني ان اكتب، لأنني ومهما حاولت التعبير فسأبقى مقصراً في ايجازي لما قمت به من اجل الكتائب اللبنانية.

وتعود بي الذاكرة الى اول مؤتمر إغترابي للهيئة الاغترابية الكتائبية، التي اسسناها سنة 1991 لكي نبدأ من خلالها مسيرة انقاذ الكتائب اللبنانية.

اجتمعنا رفاق من جميع اقطار العالم وكنت انت ايها الحبيب واحداً منهم. ومنذ اللحظة الاولى جلست تنصت لكل مناقشاتنا وتدون ملاحظاتك من دون ان تعبرعن رأيك ولو بكلمة واحدة. نظرت اليك وسألتك عن السبب، فأجبتني ان وجودك معنا اليوم هو لزيادة خبرتك في العمل الحزبي، وان طبيعة كونك نجل الرئيس امين الجميل لا يؤثر في موضوع احترامك للتراتبية الحزبية ولخبرات المجتمعين. عندها احسست كم كنت عظيمأ بتواضعك وفي سعيك الى المعرفة والاستفادة من خبرة الاقدم منك حزبياً. فكانت الخلوة الاولى التي جمعتنا سوية والتي اسست الى سنين طويلة من الصداقة المتينة والوفاء المتبادل، استمرت حتى يوم استشهادك الجسدي، وما زالت مستمرة روحياً حتى لحظة كتابة هذه الكلمات.

وهنا بدأ مشوار الالف ميل، فبدأنا اللقاءات والاجتماعات مع رفاقنا الكتائبيين اينما وجدوا رغم الظروف القاسية والصعبة التي كانت سائدة انذاك وتضييق الاجهزة الامنية على تحركاتنا. كل هذا لم يمنعك من زيارة البيوت والمناطق لتعيد الامل في قيامة الكتائب.

كانت اعدادنا تزداد يوماً بعد يوم وكانت البداية في نشوء القاعدة الكتائبية. كم كانت هذه الأوقات حلوة رغم صعوبتها وكم من المرات كنت ارى على وجهك امارات السعادة عندما كنت تنجح في اقناع الكتائبيين في العودة الى العمل.

لا اخفيك ايها الحبيب انه وبالرغم من تعلقي بالكتائب اللبنانية وبتاريخها ونضالها فإنني وقبل اللقاء بك كنت قد بدأت افقد الامل بأي نتيجة في إسترجاعها الى حضن الوطن. لقد حولت الامل في نفسي الى يقين حقيقي وجعلتني أؤمن بصوابية عملك.

لم نهدأ ولم نستكن، اتصالاتنا شملت جميع الكتائبيين لحثهم على بدء العمل في سبيل التغيير، الى حين جاء اليوم الذي اخذت فيه قرارك في التحول من اللقاءات السرية الى اللقاءات العلنية، واعلنت معركة استرجاع القرار الكتائبي، فكان المؤتمر الاول للمعارضة الكتائبية الذي عقد في مدرسة الحكمة في الجديدة رغم تهديدات الاجهزة الامنية بحق المشاركيين، ودخولهم وبوقاحة الى صالة الاجتماع لمراقبة ما يجري.

كنت انظر اليك خلال هذا الاجتماع وبفخر كبير. شاب في مقتبل عمره يخطب بحكمة وشجاعة وبقوة الحجة في كادرات كتائبية عريقة بعملها الحزبي. اصبحت الرئيس والقائد الغير معلن، وتملكت من قلوب الجميع، وكنت المرشد لكل خطوة قمنا بها، وفتحت الطريق امام عودة الرئيس الجميل الى لبنان وانقذت حزب الكتائب اللبنانية، وعلى يدك تمت المصالحة الغعلية، واعدت فتح الاقسام الكتائبية المغلقة، ولم تترك قرية او مدينة الا وزرتها حتى اصبحت نقطة الحدث في قيامة الكتائب من موتها.

واخيراً يا صديقي الحبيب ماذا يمكنني ان اقول عنك وعن صفاتك الإنسانية. لا ابالغ ان قلت انك مثال الشرف والصدق والوفاء والمحبة والعطاء.

عائلتك الكتائبية الكبيرة الأحب اليك كانت تكبر بك. كنت قريباً منهم قربك لنفسك. عشت تطلعاتهم وامآلهم والآمهم. فكنت بالنسبة لكل واحد منهم الاخ والصديق.

مملكتك كانت في بيتك، تشتاق للرجوع اليها كل مساء لترتاح من عناء النهار ولتغمرك سعادة ابدية لا ترقى اليها اية سعادة اخرى. وكم كان يحلو لك ان تلتقي بشلة قليلة من اصدقائك المقربين كلما سنحت لك الفرصة بذلك، لنجلس ايلي وكلود وجورج وانا معك ونعيش سوية مع احلامك وتطلعاتك.

لقد كانت من اجمل ايام حياتنا التي اضفيت فيها علينا سعادة كبرى في كل مرة كنا نتطلع فيها الى وجهك الذي لم تغب عنه البسمة في اي يوم من الأيام.

ما يحز في نفسي ويؤلمني هو قساوة القدر الذي منعني من رؤيتك قبل استشهادك. لا ارى تفسيراً لما حصل سوى انك قد كشفت هذا القدر قبل حصوله.

كنا على موعد ان نلتقي في لندن يوم الجمعة في 17 تشرين الثاني لكي نقضي سوية عطلة نهاية الاسبوع. وفجأة تتصل بي يوم الثلثاء في 14 تشرين الثاني وتقول لي بأن لديك احساس انه وبحال غادرت لبنان في هذا الوقت فإن شيئأ ما سيحصل، ولن يمكنك الرجوع اليه ثانية.

اضطربت ولم اجرؤ على سؤالك عن سبب هذا الإحساس وكل ما استطعت قوله لك هو رجائي بأن تنتبه على نفسك، متواعدين على ان نلتقي في مناسبة اخرى وبأسرع وقت.

وما هي الا ايام قليلة حتى حلت الكارثة بلبنان وبعائلتك الكتائبية وامتزجت دمائك بتراب الوطن المعزب.

ما عساني ان اقول لك اليوم ايها الحبيب. تخونني الكلمات فلا اجدها. لكنني ساخاطب روحك في علياءها..

اشتقنالك واشتاقت اليك الكتائب اللبنانية وإشتاق اليك لبنان..

كم أن الكتائب اللبنانية ولبنان بحاجة اليك اليوم.

فالحزب يعيش فراغأ قاتلأ لم يستطع أحد أن يملأه. كما يعيش إرباكأ في حضوره السياسي وإكمال بنيان المؤسسة التي استشهدت من أجل بناءها.

اما الوطن، فيعيش ظلمة سياسية قاتمة، ليس من كوة نور في المستقبل القريب تضيء طريقه.

لن اقول لك الوداع يا صديقي الأعز. لأنني في اتصال روحي دائم معك. لكنني اقول لك الى اللقاء ايها الحبيب، فسنجتمع حتمأ في يوم من الايام في عرش الخالق...

طوني بوملهب - 21 تشرين الثاني 2016

إرسال تعليق

 
Top