0
إزدانت العاصمة بحلّة رمضان، وحطّ الفانوس بأنواره المشِعّة رحالَه في محيط جامع محمد الأمين في ساحة الشهداء، فيما ساحة رياض الصلح بدت وكأنّ صيامها سيطول، فالعيد بعيد عنها، ولا موعد قريباً للأهالي مع الإفطار. «العسكريين المخطوفين، ألله العليم بعودِتن»... صرخة موجِعة للأمّهات، وكأنهنّ قطَعن وعداً على أنفسهنّ: «لن نفطر إلّا بعد أن نُكحّلَ عيوننا بطيف أبنائنا».
تنهمك والدة الجندي المحرّر سليمان الديراني في إعداد ما لذَّ وطابَ للإفطار، وتكاد تعجز عن مغادرة المطبخ، وهي تُتمتم على عدد الثواني: «ليش أنا صدّقت إنّو إبني بيرجع؟». تتزاحم الصوَر في مخيّلتها بين شهر رمضان العام المنصرم وهذا العام، بعدما ذاقت الأمرّين في غيابه، فحتى نقطة المياه عجزَت عن بلعِها، وكانت بدموعها تُرطّب شفتيها وتبلّ ريقَها.
حالُها كحال ابنتها ليالي التي تُعرب لـ«الجمهورية» عن فرحتها: «كلّ دقيقة تمرّ بوجود أخي، لها طعم مغاير، نَشعر وكأنّنا مباركون، رمضان الماضي حُرمنا فرحة العيد».

وتقول: «أذكر تماماً كيف كان يأتي موعد الإفطار ونحن في رياض الصلح، ومن شدّة الغضب نعجز عن ابتلاع اللقمة وفي بالنا ألف سؤال من دون جواب، أين الشباب؟ هل هم أحياء؟ هل يفطرون؟». وتضيف: «كادت أمّي تخسر نصفَ عمرها بعدما تدهورَت صحّتها».

ماذا عن هذه السَنة؟ تجيب بعد تنهيدة طويلة، وعيناها الخضراوان تلمعان فرحاً: «آه، نحن في عالم آخر، فِعلاً عودة أخي ضخَّت في عروقنا الأملَ والسعادة، وتدريجاً استعادت أمّي نشاطها، وعدنا نلتقي إلى المائدة مكتملين».

فرحة عائلة مشَيك لا تقلّ عن سعادة آل الديراني، فتتحدّث فاطمة شقيقة الجندي المحرّر عباس عن التبدّل الكبير الذي غَمر منزلهم، قائلةً: «أشعر وكأنّنا لم نكن أحياء، إنّما على هامش الحياة، ولا سيّما أنّ وضعَ أخي الصحّي دقيق، والكلّ يخاف عليه»، فلم يكن من السهل استيعابُ غيابه الطويل عنّا».

وتتابع بلهفة: «أكثرُ ما ضاعفَ التحدّيات في فترة اختطافه رمضان المنصرم، أنّ زوجتَه زهراء كانت حاملاً، ووضعَت مولودتهما في غيابه، فلم يكن من السهل التغلّب على مرارة الانتظار وتسليم القضية لربّ العالمين. لذا رمضان هذه السَنة فِعلاً كريم، مع عودة أخي وقدومِ ابنته، فزاد عددُنا على الإفطار».


الصورة «ناقصة»
على رغم عودة أبنائهم، تُجمِع عائلات العسكريين المحرّرين، على أنّ الفرحة «ناقصة»، وفي القلب «غصّة»، تضامُناً مع عائلات العسكريين المخطوفين لدى «داعش» والذين تقاسَموا لفترة طويلة العذاب، الخيبة، وجعَ الانتظار، لسعة الفراق... لذا يدعون لهم «انشالله رمضان بكون كريم على أبنائكم والجميع».

يتأمّل حسين يوسف، والد الجندي المخطوف محمد، حفيدَه حسين الذي أطفَأ شمعة عامِه الثاني وحيداً من دون سَند أبويّ يمسِك يدَه أو يحمله على ذراعه وهو يطفئ شمعاتِ قالب الحلوى.

يدرك تماماً هذا الجدّ «إنّو ما حدا بعبّي غياب حدا»، لو مهما قدَّم لحفيده، فحنان الأب لا يعطيه إلّا الأب نفسُه. لذا يتألم في قرارة نفسِه محاولاً التماسكَ أمام أفراد عائلته، ويَروي لـ«الجمهورية»: «لو اجتمعتُ بكلّ البشرية، لا أحد يمكن أن يملأ الفراغ الذي سبّبه غياب إبني، فهو سَندي وظهري، واختطافُه «قصفَ عمرَنا»...».

ثمّ يصمت دقائق ويتابع: «تتكرّر مأساة العام الماضي، ويعزّ علينا استمرار الوضع على حاله من دون أيّ معلومة أو تسجيل أو صورة تُطَمئننا عن الشباب من اللحظة الأولى لاختطافهم، ما مِن كلمة تصفُ الحالَ التي نعيشها».

ويلفت: «أكثرَ من مرّةٍ كدتُ أنهار، ولكنْ أشكر الله على منحِنا حسين، فهو قوّتي، حفيدي صورة عن والده، حركاته تذكّرني بابني، وهو مصدر قوّتِنا، لا سيما في هذا الشهر المبارك الذي فيه تجتمع العائلة وتبقى الصورة مبتورة، ناقصة، من دون محمد، فأيّ إفطار يمكن أن أشعرَ به، وقلبي «منشّف»!».

هل مِن تطمينات أو مساعٍ جديدة؟ يُجيب: «المؤسف حتى الآن ما مِن معلومة تؤكّد أو تنفي مصيرَ أبنائنا، والاتكال يبقى على الله والدولة».

من جهته يعجز نظام مغيط، شقيق الجندي المخطوف ابراهيم، عن وصف مرارة الإفطار، قائلاً: «إنّه العام الثاني على التوالي، نجلس فيه إلى المائدة وأخي غائب، يمتاز هذا الشهر بالتفاف العائلة، لكنّنا ما عدنا نشعر بشيء سوى الألم».

ويضيف بحرقةِ قلب: «كلّ لقمةٍ بغَصّة ودمعة، للمرّة الأولى نشكر الله على أنّه أخذ والدتي قبل أن تختبرَ ما نعيشه من فراقٍ وخوفٍ على أخي، فلو كانت موجودةً، وإبراهيمُ في حال الأسرِ هذه، ما كانت للتحمّلَ ما نُقاسيه».

ماذا عن حالِ عائلته؟ يجيب نظام: «لا تجفّ الدمعة على وجنة زوجته ريم، وكلمة بابا لا تفارق عمر (6 سنوات)، أمّا حمزة (5 سنوات) فيجلس إلى الطاولة من دون أن يأكل، وماريا من الأساس ولِدت في غيابه ولم يتسنَّ لها بعدُ التعرّف إلى والدها».


في انتظار معجزة
أكثر ما يحزّ في نفس نظام «أن يكون غياب العسكريين أزَلياً، ولا سيّما أنّ الأمل ضعيف جداً بالدولة، والاتّكال الأكبر على ربّ العالمين، لذا نأمل أن تحصل معجزة ويعود الشباب».

ويضيف: «كلّ المشاعر الموجعة التي اختبَرناها طوال خطفِهم، تُراودنا في شهر رمضان، فتتداخل المشاعر، إلى حد أنّنا نجلس إلى الطاولة من دون أن نقوى على النظر في عيون بعضنا، لكي لا نرى الدمعة».


ويتابع محاولاً التغلّبَ على غصّة تخنق صوته:
«شخصياً صرتُ أقتربُ من المائدة بعد نصف ساعة من موعد الإفطار، إذ يَحزّ في نفسي رؤية الوجوه مجتمعةً وعيون أخي غائبة»، مشدّداً على أنّ «الوجع الأكبر أنّنا لا نعرف شيئاً عن العسكريين، ربّما لو نعرف مصيرَهم أقلّه نرتاح نفسياً»، مشيراً إلى «أنّنا فكّرنا بتحرّك، ولكن خلال تواصُلِنا مع المسؤولين، أحدُهم وعَدنا خيراً، ونزولاً عند رغبته نتريّث».

يُثني الأهالي على الجهود التي تبذلها الدولة، ولو أنّهم يَحلمون في قرارة أنفسِهم بمساعٍ أكبر وأسرع، كذلك يستبشرون خيراً من عملية ضبطِ المؤسسة العسكرية لعنصرَين ينتميان إلى تنظيم داعش. يبقى الرهان على أن يكون للعنصرين الموقوفين حيثية أو «تِقلٌ»، ما يمكن الاستعانة به لخلقِ ثغرةٍ في هذا الملف، ويكون موعد عودة العسكريين قد لاح، وموعد إفطار الأهالي حان قبل أن يشارف اختطافهم على دخول عامه الثالث في مطلع آب المقبل.


ناتالي اقليموس - "الجمهورية" - 9 حزيران 2016

إرسال تعليق

 
Top