فجرّها نهاد المشنوق وراحت الردود تتوالى من كل حدب وصوب، لم يحدث في تاريخ العلاقة بين السعودية والحريرية السياسية أن يخرج سفيرٌ ليرد على كلام بهذا المستوى، فهذه العلاقة تتخطاه بأشواط، بل وإن السفير عينه قد يتوسط سعد الحريري لتحقيق رغبة ما في الرياض، الأمر بالغ التعقيد وشديد الحساسية، فالعلاقة تمر بمنعطف خطير، وصمت الحريري يضعنا جميعًا أمام خلاصة واحدة: ما قاله المشنوق صحيح، لقد لامس السيل الزبى.
دفع سعد الحريري من رصيده السياسي والشعبي والشخصي لقاء ربط النزاعات وتدوير الزوايا وإخراج البلد من عنق الزجاجة، كبح جماح قومه وسار بهم نحو خطاب هادئ ومنفتح، استجاب غير مرة لرغبة سعودية تبيّن لاحقًا أنها لم تبن على أسس صلبة، ذهب إلى دمشق بعد ضغط مباشر من الملك عبد الله، ضمن مغامرة سياسية تهدف لفتح صفحة جديدة رغم جرحه العميق، راح يتماشى مع الواقعية السياسية ومع الهواجس المختلفة انطلاقًا من رغبته الحقيقية بإرساء واقع جديد.
فهمت السعودية متأخرة أن بشار ليس حافظ الأسد، وأن نظامه تحوّل إلى دمية تُحركها إيران. كانت تظن بإمكانية عقد صفقة ناجزة تُخرج لبنان من الكباش الإقليمي المتعاظم، لتعود وتدرك بأن الورقة اللبنانية باتت في يد طهران، وأن الأسد لا يعدو كونه مفاوضًا حذقًا ورشيقًا يتقن لعبة الكسب وفنون المرواغة والصفع.
سدد سعد الحريري الفاتورة السياسية منفردًا، وحمل على كتفيه الفشل السعودي في إدارة المرحلة وفي تقديم التنازلات المتتالية، والتي لامست حدود الضغط المباشر للتخلي عن المحكمة الدولية، كان يدرك بأن ارثه السياسي ورصيده الشعبي يستطيع أن يستوعب هذا الإنهيار الهائل، وأن دوره الوطني يُحتم عليه اتخاذ بعض الخيارات المؤلمة.
ذهب إلى منفاه الطوعي بعد متحرك وصفه بالاغتيال السياسي، ثم عاد وفي جعبته مبادرة دولية ساهمت السعودية في نسج كل خيوطها، حط في بيروت وبدأ حراكًا هائلًا لتسويق سليمان فرنجية وتأمين نصاب انتخابه. الصفعة الأولى أتت من الرياض، وذلك عبر رسالة من خارج أي سياق مفهوم، حيث عمدت إلى اتخاذ اجراءات غير مسبوقة تجاه لبنان ومؤسساته الأمنية والعسكرية.
توازيًا، يعاني الحريري من أزمة مالية خانقة، مؤسساته تعمل باللحم الحي، والسعودية تريد أن تواجه المد الايراني بمنظومة سياسية وإعلامية تلفظ أنفاسها الأخيرة، لم يكن مفهومًا هذا الاجحاف، رحنا جميعًا نختلق العذر تلو الآخر، قلنا الأولوية لكبح إيران، لسوريا وإسقاط الأسد، ثم لمصر ولاحقًا اليمن وباب المندب، وبين مرحلة وأخرى نستحضر الانخفاض التاريخي لأسعار الخام، ولتأثيره المباشر على التمويل والسيولة، كنا نختلق الأعذار الموضعية لمشكلة سياسية باتت شديدة الوضوح: هناك في الرياض من لا يريد سعد الحريري.
فوز أشرف ريفي في طرابلس ليس حدثًا عابرًا في مضامين السياسة الداخلية والاقليمية، وخروجه من الحكومة وتمرده على سعد الحريري ليس تصرفًا يقوده شخصٌ بمفرده، هناك من دفع وساعد وخطط ونفذ، هناك أن أطل برأسه في لحظة ضعف الحريري ليرد له الصاع، مستندًا إلى رفضه الانسياق خلف رغبة المملكة برفع حدة التوتر مع حزب الله على خلفية خطابه المتشنج تجاه المتحرك اليمني. الأمر لم يعد سرًا، ولذلك تكلّم المشنوق، ومن خلفه، حتمًا، سعد الحريري.
يبدو سعد الحريري أمام خيارات ضيقة ومحدودة، ويبدو أن القرار بتحجيمه قد أتُخذ، كلام المشنوق شديد الأهمية ووافر الرسائل، ورد السفير السعودي أكد الفجوة وعمّقها، فيما تجاوزت المشكلة القدرة على التطويق، وبات لزامًا علينا أن نردد: لقد فعلها محمد بن نايف وكسر الحريري في بيت أبيه.
قاسم يوسف - 4 حزيران 2016
إرسال تعليق