0
وحده الأرجنتيني ابن المهاجرين، يُغرد خارج السرب، ويصطحب معه سوريين تقطعت بهم السبل في اليونان، من دون التفات إلى ديانتهم أو أي تفصيل آخر. لم ير فرنسيس فيهم إلا الإنسانية المُهانة، فاحتضنهم ليرفع الذل عنهم. لكن العالم لا يعامل اللاجئين أو المهاجرين، سمهم ما شئت، بالرأفة التي دعا إليها البابا. إنهم بيادق تُقايض مع تركيا وأرقام تُناقش في معادلات جافة بعدما ضاق صدر أوروبا و"ماما ميركل" بهم.

الخميس الماضي توافقت مكونات الحكومة الائتلافية الألمانية على ما وصفه نائب المستشارة سيغمار غابريال بأنه "خطوة تاريخية". ذلك أنه للمرة الأولى في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يصير هناك قانون وطني للاندماج.

صحيح أنه موجه بالدرجة الأولى إلى "القادمين الجدد"، على ما قالت المستشارة أنغيلا ميركل، في إشارة إلى اللاجئين، ومعظمهم سوريون، لكنه انعكاس لعدم فاعلية كل السياسات السابقة في التعامل مع "العمال الزوار" الذين طلبتهم البلاد لصنع معجزتها الاقتصادية قبل عقود، فَسَد المهاجرون المهرة ثغر دورة العمل، خصوصاً ما يأنفُ عنه أبناء البلد. وعلى مدى سنوات اشتكى سياسيون ألمان من عدم اندماج أفراد الجالية التركية، وإن لمع بينها لاعب كرة قدم من هنا ووجوه فنية من هناك.

الآن وَجَدَ الألمان أنفسهم أمام مشكلة جديدة. 476 ألف "غريب" سجلوا أنفسهم عام 2015 كطالبي لجوء من أصل مليون شخص قدموا إلى البلاد. وبموجب قانون الاندماج يستطيع هؤلاء دخول سوق العمل حيث تعهدت الحكومة استحداث مئة ألف فرصة جديدة، معظمها هزيل الراتب أو ما يعرف بـ"وظيفة الأورو الواحد"، وهو مخصص لمن يُصنفون محدودي المهارات والكفاية، في إشارة إلى المهاجرين. وسيكون بوسع هؤلاء الحصول على تلك الأعمال من دون أن تكون على حساب تقديمات اللجوء. وفي المقابل، قد يواجهون خسارة المساعدات إذا امتنعوا عن الالتزام بمسارات إلزامية للاندماج مثل دروس اللغة ودورات عن القيم الألمانية ومبادئ المجتمع.

وفي المقابل، يواصل حزب "البديل من أجل ألمانيا" اللعب على وتر التخويف من الغريب المجهول بتصريحات من قبيل أن الإسلام لا يتوافق مع المبادئ الأساسية للبلاد، وأنه "جسم غريب" عن نسيجها ولا يمت إلى الديموقراطية، مع العلم أن الدستور الألماني يضمن حرية المعتقد.

وحذر المجلس المركزي للمسلمين في البلاد من أنه "للمرة الأولى منذ النازية وعهد أدولف هتلر، يكون هناك حزب يسيء إلى مجموعة دينية بأكلمها ويهدد وجودها". ذلك أن الحزب لم يقصد الوافدين الجدد فحسب بل بدت مواقفه موجهة إلى المسلمين ككل، وبينهم من وُلدوا في ألمانيا ولا يعرفون لهم وطناً سواها، فتركيا أرض بعيدة للإجازات، فيها جدٌ أو جدة لا أكثر.
في نظر "البديل من أجل ألمانيا"، صار في البلاد خمسة ملايين مسلم على الأقل، هم المواطنون الأتراك، إلى مليون مسلم جديد، وكلهم قنابل موقوتة ومشاريع مُخربين، وربما كانوا إرهابيين.

يسهلُ على المسؤولين الألمان والأوروبيون القول إن تلك الآراء لا تمثل موقف برلين الرسمي، فالحزب الذي حقق نجاحات كبيرة في الانتخابات الإقليمية الأخيرة، ليس شريكاً في الائتلاف الحكومي ولا عريقاً في العمل السياسي مثل الجبهة الوطنية في فرنسا على سبيل المثال. أضف أن طروحاته لا تقتصر على المهاجرين، فهو يرفض الأورو منذ تأسيسه عام 2013، وينادي بعودة العملات الوطنية وتقليص العمل الأوروبي المشترك إلى حده الأدنى، مع العلم أن ألمانيا تبدو حالياً حامية القارة وقائدتها أكثر من أي وقت مضى.

كما أنه ليس غريباً أن تطفو بين الفينة والأخرى أحزاب متشددة مماثلة، يمينية أو فوضوية ونازية جديدة، من دون أن تؤثر في بوصلة إدارة البلاد، وإن تكن دليلاً على عصبية متطرفة لا يمكن إنكارها. لكن المشكلة أن تصدر مواقف إقصائية في قلب المعسكر الحاكم، لا بل من عقر دار حزب ميركل، الاتحاد الديموقراطي المسيحي. مواقف تدعو إلى تصنيف البشر وقولبتهم بينما تضع الحكومة قانوناً وطنياً للاندماج وتعتبره إنجازاً تاريخياً.

كلاوس بويون هو وزير داخلية مقاطعة سارلاند بجنوب غرب البلاد، وقد أعلن قبل يومين، أنه سيباشر مشروعاً نموذجياً لـ"اختبار ذكاء المهاجرين لاكتشاف قدراتهم وتقرير ماذا سنفعل بهم وماذا نعلمهم وأي أعمال نستخدمهم فيها". وتابع أن الاتحاد الديموقراطي المسيحي يُخطط للأمر مع وكالة التوظيف الفيديرالية ومستشارين في سوق العمل. وحين سئل من سيشارك في المشروع، توقع تطوع 600 إلى 700 مهاجر في المرحلة الأولى.

وفي بعض آرائه لم يبد بويون بعيداً من طروحات "البديل من أجل ألمانيا"، إذ قال :"علينا الإقرار بأننا نجهل حقاً عدد المتشددين ومثيري المتاعب في البلاد. من يدري كم إرهابي دخل مع اللاجئين وتسلل بينهم. نحن في وضع مُشتعل". وناشد المسلمين التعاون مع السلطات لتسليم المشتبه فيهم في أوساطهم.

ورفض مدافعون عن حقوق الإنسان ما اعتبروه "فكرة تفتقد إلى الذكاء" في إلزام اللاجئين باختبارات ذكاء موضوعة في الغرب وقد لا تكون دقيقة، وهي في كل الأحوال غير عادلة لأنها أداة تصنيفية إقصائية. أضف أن الأفغان والصومالييين والسوريين والسودانيين فروا من الفقر والحرب والاغتصاب والاستبداد والجهل، ومن المرجح أن يرسبوا في اختبارات مُعلبة لا تقيم وزناً لحاجز اللغة وتتجاهل الرهبة والخوف ولا تقيس المشاعر والمواهب المقموعة والطاقات الإنسانية. الإنسانية، كم فقدت تلك الكلمة معناها في عالم يلتهم البحر فيه أُسراً يدفعها اليأس إلى المجهول بينما يُأسرُ الناجون خلف الأقفاص والقضبان والقيود!


سوسن بوظهر - "النهار" - 19 نيسان 2016

إرسال تعليق

 
Top