ماذا لو خسر الجنرال ميشال عون موقعة قيادة الجيش ومعركة رئاسة الجمهورية؟ ماذا يبقى له بعد ذلك؟
تكثر الإجابات. ليست المرة الأولى التي يخسر فيها الجنرال معاركه. خسائره السابقة كثيرة وجسيمة ومؤلمة. دفع ثمنها غالياً. لم يسبق أن كانت حصة أحد، كحصته من النبذ والنفي.
الرجل هو هكذا، إذا دخل معركة لا ينسحب منها. يخوضها إلى النهاية. «يفضل الخسارة على الخيانة»، لأن الانسحاب من المعركة، في عرفه، ولدى من عرفه، هو نصف خيانة.
في تفسير هذه الإجابة، أن الجنرال لا يشبه الآخرين. تدوير الزوايا اختصاص يتقنه أقرانه في سدة الزعامات (بعض أتباعه ليسوا على نهجه). وهو، في هذا المسار، لا يصل إلى هدفه، ولكنه يعوِّل على صوته ونبرته وحسمه الكلامي. يربح معركة الصوت المرتفع، فيتكاثر حوله المؤيدون، ولا ينفضون عنه يأساً منه. خطابه يطرب جماعته ولا يضطرب خصومه منه.
يرى الجنرال لبنان بطريقة مختلفة. يريده دولة، يريده قوياً، يريده نظيفاً، يريده على ما جاء في الكتب الغربية... ولكن لبنان ليس كما يعتقده الجنرال، فهو صاحب تجربة فذة في إقصاء مفهوم الدولة، وصاحب نهج قديم في تخطي الدستور والتخلي عن القوانين والتنازل عن المبادئ وتطليق القيم. وهو، في التجربة، لا يشبه «كتابه» (دستوره).
والجنرال، لا يصدِّق الواقع. يقتنع بما يعتقده صواباً، ويرى أن ما يصلح للآخرين، دولة ديموقراطية، يصح على لبنان. يريد ذلك، والطريق إلى الدولة مقفل، ولا وجود لأدوات وقوى لإنجاز «مشروع الدولة» المزمن. حاول آباء الاستقلال تأسيس الدولة، بما توفر فيهم من «إرثٍ فرنسي»، فأنشأوا «مزرعة». كتبوا دستوراً تقدمت عليه الميثاقية، حتى بلغت حد تعطيل الآلية الدستورية، كما جاء في صيغة الطائف، حيث «لا سلطة تعلو سلطة العيش المشترك»، وفق «قاعدة المحاصصة الذهبية».
وتأكيداً لهذه الثنائية، عمل المنظرون للكيان والنظام، على ابتداع صيغة «الديموقراطية التوافقية» بطريقة تلفيقية، فاستبعدت الحقوق في المساواة والمواطنة والعدالة. أي استبعد كل ما هو في المبدأ، من أساسات الدولة الحديثة، وتقدمت عليه «عقيدة المحاصصة»، لتصبح أساساً للدولة والنظام و «الانتظام العام»... وكان من نتائج ذلك التطبيق، النموذج الراهن من الخراب العام والفراغ المستدام.
تصطدم مبدئية الجنرال، ذات النبرة الحادة، وذات التوجه الصارم لبناء الدولة، بمنطق المحاصصة السائد. والمحاصصة تبرر للجنرال أن يقول: «مثلكم مثلنا». لكم سلطات ومواقع تخصكم ولنا سلطات لا نتنازل عنها. الميثاقية أولاً، ثم يأتي تطبيق الدستور. نتفق على الرئيس، ثم نذهب إلى المجلس لإلباس الاتفاق ثوبه الدستوري المناسب.
في تبرير الجنرال لمعركته في قيادة الجيش وفي رئاسة الجمهورية، أن هذين المنصبين هما من حصة الموارنة، ويحق له وحده، كونه الأكثر تمثيلاً في الساحة المسيحية، ولو بأصوات غير مارونية وغير مسيحية نقية، ومطعمة بأصوات قوة حليفه، أن يسمّي من يراه مؤهلاً لقيادة الجيش، وأن يلزم الآخرين بانتخابه رئيساً. وهو بذلك يوازي بين «حقه» واستئثاره به، وبين حقوق السنة والشيعة واستئثار الأكثر تمثيلاً فيهما، برئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب...
يتمتع منطق الجنرال بالحجة الطائفية ولا يتنازل عنها. العدالة عنده، في التعادل. غير أن قاعدة الجنرال يشوبها بعض النقص. فهو الأكثر تمثيلاً، ولكنه ليس الممثل الأوحد، كما هي الحال عند السنّة وعند توأمي الزعامة الشيعية. عدد من النواب المسيحيين، موزع بين «مستقلين» و «قوات» و «كتائب» و «سنة» و «شيعة» و «دروز». هو الممثل الأقوى لكنه ليس الممثل الأوحد. ومن هنا كانت الثغرة، أو «الدفرسوار» الطائفي. حيث يحق لهؤلاء المنتشرين بين الطوائف أن يكونوا مرشحي «التوافق» المزعوم.
معركة الجنرال تبدو صعبة. التوافق ممتنع، لذلك، لجأ إلى تعطيل الانتخابات متخطياً بذلك الدستور، الذي يقر الجنرال «بقداسته» ويعلي من شأنه، كغيره من السياسيين، الذين ينشدون المدائح للدستور، ويرتكبون في ظل «الميثاقية» ما يندى له الجبين.
لو كان الجنرال هو الممثل الأقوى والوحيد لطائفته، لكان لا مفر للآخرين من انتخابه. ستسقط حججهم دفعة واحدة، فهم يعرفون الرجل. إنه صعب جداً. طريقته لا تحتملها القوى التي رأت في «الترويكا» نموذجاً للمشاركة. فما للجنرال هو للجنرال، ولا يحق لأحد أن يمسه. وإلا، «عليّ وعلى أعدائي».
ماذا لو خسر الجنرال المعركتين؟
ليست المرة الأولى. من قبل، خسر معركة «الإصلاح والتغيير». اشترك بحكومات ما بعد «الدوحة»، ولم نرَ بصيص كهرباء، ولا عرفنا الطريق إلى استخراج النفط، ولا أدركنا إصلاحاً. الكتابة عن «الإبراء المستحيل» غير كافية. حبر على ورق. التشهير بالسرقات غير مفيد. كلام في الهواء. التعبير بالديون والاستدانة ارتكاب مشترك. «القانون الأرثوذكسي» لا حياة فيه... والسلسلة لا تنتهي.
ماذا يتبقى للجنرال؟ هل يستعيد «أمجاد» «الشعب العظيم» في بعبدا؟ هل يعطي إجازة مديدة للحكومة، آخر معاقل الدستور اللبناني على قيد الحياة؟ هل يقفل الطريق أمام الجميع، فيتحوّل لبنان إلى دولة فاشلة؟ هل يعن على باله، أن ينخرط بـ «الواقعية اللبنانية» التي تجترح الحلول الرثة، بدل الإصرار على كل شيء أو لا شيء، فلا يبقى في البلد شيء؟
ليس أمام الجنرال ميدان معركة، الميدان خارج لبنان. الرحم اللبناني لا ينجب رؤساء جمهورية. هو عاقر من زمان بسبب زناه الطائفي. وليس أمامه سوى أن يؤلف «جمهورية» مع وليد جنبلاط، غير المقتنع بالجنرال، وسعد الحريري الذي يعد ولا يعود، ونبيه بري الذي لا يطمئن إلى مواقفه، و «الحكيم» الذي تحوّل في بيان النيات، من العدو اللدود إلى الخصم الودود. وحده «حزب الله» معه، برصيد غير كاف أبداً.
ماذا بعد؟
ما زال عند الجنرال عدد قليل من الطلقات. فلننتظر!
تكثر الإجابات. ليست المرة الأولى التي يخسر فيها الجنرال معاركه. خسائره السابقة كثيرة وجسيمة ومؤلمة. دفع ثمنها غالياً. لم يسبق أن كانت حصة أحد، كحصته من النبذ والنفي.
الرجل هو هكذا، إذا دخل معركة لا ينسحب منها. يخوضها إلى النهاية. «يفضل الخسارة على الخيانة»، لأن الانسحاب من المعركة، في عرفه، ولدى من عرفه، هو نصف خيانة.
في تفسير هذه الإجابة، أن الجنرال لا يشبه الآخرين. تدوير الزوايا اختصاص يتقنه أقرانه في سدة الزعامات (بعض أتباعه ليسوا على نهجه). وهو، في هذا المسار، لا يصل إلى هدفه، ولكنه يعوِّل على صوته ونبرته وحسمه الكلامي. يربح معركة الصوت المرتفع، فيتكاثر حوله المؤيدون، ولا ينفضون عنه يأساً منه. خطابه يطرب جماعته ولا يضطرب خصومه منه.
يرى الجنرال لبنان بطريقة مختلفة. يريده دولة، يريده قوياً، يريده نظيفاً، يريده على ما جاء في الكتب الغربية... ولكن لبنان ليس كما يعتقده الجنرال، فهو صاحب تجربة فذة في إقصاء مفهوم الدولة، وصاحب نهج قديم في تخطي الدستور والتخلي عن القوانين والتنازل عن المبادئ وتطليق القيم. وهو، في التجربة، لا يشبه «كتابه» (دستوره).
والجنرال، لا يصدِّق الواقع. يقتنع بما يعتقده صواباً، ويرى أن ما يصلح للآخرين، دولة ديموقراطية، يصح على لبنان. يريد ذلك، والطريق إلى الدولة مقفل، ولا وجود لأدوات وقوى لإنجاز «مشروع الدولة» المزمن. حاول آباء الاستقلال تأسيس الدولة، بما توفر فيهم من «إرثٍ فرنسي»، فأنشأوا «مزرعة». كتبوا دستوراً تقدمت عليه الميثاقية، حتى بلغت حد تعطيل الآلية الدستورية، كما جاء في صيغة الطائف، حيث «لا سلطة تعلو سلطة العيش المشترك»، وفق «قاعدة المحاصصة الذهبية».
وتأكيداً لهذه الثنائية، عمل المنظرون للكيان والنظام، على ابتداع صيغة «الديموقراطية التوافقية» بطريقة تلفيقية، فاستبعدت الحقوق في المساواة والمواطنة والعدالة. أي استبعد كل ما هو في المبدأ، من أساسات الدولة الحديثة، وتقدمت عليه «عقيدة المحاصصة»، لتصبح أساساً للدولة والنظام و «الانتظام العام»... وكان من نتائج ذلك التطبيق، النموذج الراهن من الخراب العام والفراغ المستدام.
تصطدم مبدئية الجنرال، ذات النبرة الحادة، وذات التوجه الصارم لبناء الدولة، بمنطق المحاصصة السائد. والمحاصصة تبرر للجنرال أن يقول: «مثلكم مثلنا». لكم سلطات ومواقع تخصكم ولنا سلطات لا نتنازل عنها. الميثاقية أولاً، ثم يأتي تطبيق الدستور. نتفق على الرئيس، ثم نذهب إلى المجلس لإلباس الاتفاق ثوبه الدستوري المناسب.
في تبرير الجنرال لمعركته في قيادة الجيش وفي رئاسة الجمهورية، أن هذين المنصبين هما من حصة الموارنة، ويحق له وحده، كونه الأكثر تمثيلاً في الساحة المسيحية، ولو بأصوات غير مارونية وغير مسيحية نقية، ومطعمة بأصوات قوة حليفه، أن يسمّي من يراه مؤهلاً لقيادة الجيش، وأن يلزم الآخرين بانتخابه رئيساً. وهو بذلك يوازي بين «حقه» واستئثاره به، وبين حقوق السنة والشيعة واستئثار الأكثر تمثيلاً فيهما، برئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب...
يتمتع منطق الجنرال بالحجة الطائفية ولا يتنازل عنها. العدالة عنده، في التعادل. غير أن قاعدة الجنرال يشوبها بعض النقص. فهو الأكثر تمثيلاً، ولكنه ليس الممثل الأوحد، كما هي الحال عند السنّة وعند توأمي الزعامة الشيعية. عدد من النواب المسيحيين، موزع بين «مستقلين» و «قوات» و «كتائب» و «سنة» و «شيعة» و «دروز». هو الممثل الأقوى لكنه ليس الممثل الأوحد. ومن هنا كانت الثغرة، أو «الدفرسوار» الطائفي. حيث يحق لهؤلاء المنتشرين بين الطوائف أن يكونوا مرشحي «التوافق» المزعوم.
معركة الجنرال تبدو صعبة. التوافق ممتنع، لذلك، لجأ إلى تعطيل الانتخابات متخطياً بذلك الدستور، الذي يقر الجنرال «بقداسته» ويعلي من شأنه، كغيره من السياسيين، الذين ينشدون المدائح للدستور، ويرتكبون في ظل «الميثاقية» ما يندى له الجبين.
لو كان الجنرال هو الممثل الأقوى والوحيد لطائفته، لكان لا مفر للآخرين من انتخابه. ستسقط حججهم دفعة واحدة، فهم يعرفون الرجل. إنه صعب جداً. طريقته لا تحتملها القوى التي رأت في «الترويكا» نموذجاً للمشاركة. فما للجنرال هو للجنرال، ولا يحق لأحد أن يمسه. وإلا، «عليّ وعلى أعدائي».
ماذا لو خسر الجنرال المعركتين؟
ليست المرة الأولى. من قبل، خسر معركة «الإصلاح والتغيير». اشترك بحكومات ما بعد «الدوحة»، ولم نرَ بصيص كهرباء، ولا عرفنا الطريق إلى استخراج النفط، ولا أدركنا إصلاحاً. الكتابة عن «الإبراء المستحيل» غير كافية. حبر على ورق. التشهير بالسرقات غير مفيد. كلام في الهواء. التعبير بالديون والاستدانة ارتكاب مشترك. «القانون الأرثوذكسي» لا حياة فيه... والسلسلة لا تنتهي.
ماذا يتبقى للجنرال؟ هل يستعيد «أمجاد» «الشعب العظيم» في بعبدا؟ هل يعطي إجازة مديدة للحكومة، آخر معاقل الدستور اللبناني على قيد الحياة؟ هل يقفل الطريق أمام الجميع، فيتحوّل لبنان إلى دولة فاشلة؟ هل يعن على باله، أن ينخرط بـ «الواقعية اللبنانية» التي تجترح الحلول الرثة، بدل الإصرار على كل شيء أو لا شيء، فلا يبقى في البلد شيء؟
ليس أمام الجنرال ميدان معركة، الميدان خارج لبنان. الرحم اللبناني لا ينجب رؤساء جمهورية. هو عاقر من زمان بسبب زناه الطائفي. وليس أمامه سوى أن يؤلف «جمهورية» مع وليد جنبلاط، غير المقتنع بالجنرال، وسعد الحريري الذي يعد ولا يعود، ونبيه بري الذي لا يطمئن إلى مواقفه، و «الحكيم» الذي تحوّل في بيان النيات، من العدو اللدود إلى الخصم الودود. وحده «حزب الله» معه، برصيد غير كاف أبداً.
ماذا بعد؟
ما زال عند الجنرال عدد قليل من الطلقات. فلننتظر!
نصري الصايغ - "السفير" - 4\6\2015
إرسال تعليق