0
بانقضاء اكثر من عشرة اشهر على شغور رئاسة الجمهورية، و21 موعدا لاجتماع مجلس النواب تعذر معها انتخاب الرئيس، بات الاستحقاق الرئاسي اقل من صفحة عابرة في اليوميات بعدما اعتادت آلة الحكم على العمل من دونه.
لم يعد الفراغ في منصب الرئيس مصدر قلاقل ذات شأن في مجلس الوزراء وخارجه، مع انتظام اعمال السلطة الاجرائية وثبات الحوار السنّي ــــ الشيعي وتهافت التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية على التحدث معاً. تكاد تكون آلة الحكم التي يفترض بالرئيس ان يديرها شبه منتظمة في غيابه. لا يفرط بعض الائتلاف الحكومي في زعله تارة، وفي حرده طوراً. لا خلاف منهِكاً على الصلاحيات، والجميع يعود الى مجلس الوزراء في نهاية المطاف. لعل ابرز مظهر الانتظام الجلسة الاخيرة لحكومة الرئيس تمام سلام. خرجت بتأكيد ثقتها برئيسها وطيّ كل ما قيل فيه في القمة العربية في شرم الشيخ في ضوء الكلمة التي القاها باسم لبنان، والتسليم بصوابها.
وخلافاً لمرات سابقة كان التذرع فيها بتجاوز الدستور والصلاحيات، لم يتعدَّ ما قيل عن كلمة سلام في شرم الشيخ تسجيل الموقف فحسب. عندما سئل رئيس مجلس النواب نبيه بري الثلثاء، عشية جلسة مجلس الوزراء، هل يتوقع انفجاره في ضوء النبرة العالية لحزب الله احتجاجاً على تأييد رئيس الحكومة الحملة العسكرية بقيادة السعودية على الحوثيين في اليمن، ومن ثم تأييده انشاء قوة عربية مشتركة، اكتفى بالقول ان رد فعل الحزب يشي بالرغبة في مناقشة هذا الموقف لا تعريض الحكومة واستقرارها لهزة جديدة. طمأن بري مجدداً الى متانة الائتلاف، ولاحظ ان ما رغب الحزب في قوله هو ان موقف سلام لم يناقش في مجلس الوزراء فحسب.
لم تناقش ايضاً في مجلس الوزراء كلمة وزير الخارجية جبران باسيل في اجتماع وزراء الخارجية العرب، وبدت في بعض اتجاهاتها مناقضة لما اعلنه رئيس الحكومة هناك. هذه المرة لم يقل الفريق المتحفظ ان ثمة اخلالاً في تطبيق الدستور وتجاوز الصلاحيات والمؤسسات. لم يسأل احد ايضاً: مَن يصنع السياسة الخارجية للبنان، واين؟
منذ اتفاق الدوحة عام 2008 اثارت الديبلوماسية اللبنانية اسباباً دائمة للخلاف، كان من السهولة بمكان استيعاب بعض الفروق فيها بتفاهم مسبق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزير المختص. تقلّب على الحقيبة مذ ذاك اربعة وزراء جميعهم من قوى 8 آذار. وما خلا باسيل، كان الثلاثة الباقون من نصيب حركة امل (فوزي صلوخ وعلي الشامي وعدنان منصور). على مرّ السنوات الست من الولاية المنقضية، كان ثمة متسع كاف لتفاهم الرئيس ميشال سليمان مع الرؤساء المتعاقبين للحكومة فؤاد السنيورة وسعد الحريري ونجيب ميقاتي وتمام سلام والوزراء المختصين على مقومات السياسة الخارجية بما لا يتسبب في مزيد من الشرخ بين قوى 8 و14 آذار، ونقل تداعياته الى الداخل. كمنت دوافع الخلاف في المثلث الاكثر تأثيرا في السياسة الداخلية وتوازن القوى، ومن ثم الموقف اللبناني الرسمي من النزاعات الاقليمية: سوريا، ايران، السعودية.
اولى بذور التباين المربك عام 2011 مع اندلاع الحرب السورية، وتمايز موقف وزير الخارجية في بعض الجوانب عن موقفي رئيسي الجمهورية والحكومة من جراء انتماء الوزير الى الفريق السياسي الذي يدعم نظام الرئيس بشار الاسد، ناهيك بالاسلوب المتباين في مقاربة سياسة النأي بالنفس التي اتبعتها مذ ذاك حكومتا ميقاتي وسلام في الملف السوري حصرا. لم تكن سياسة النأي بالنفس كذلك الا على الورق، والى طاولة مجلس الوزراء فحسب، فيما الشارعان السنّي والشيعي منقسمان على خيار الموقف مما يجري في سوريا: احدهما مع، والآخر ضد.
في المواقف المتشددة الاخيرة من قمة شرم الشيخ، على انها صدى لاحداث اليمن والنزاع السعودي ــــ الايراني على النفوذ في ذلك البلد والمنطقة، قالت الخارجية اللبنانية باستمرار مفاعيل سياسة النأي بالنفس وتجاوز نطاقها الحرب السورية لتعميمها على النزاعات الاقليمية بما فيها تلك التي انخرط العرب فيها وانقسموا عليها. في المقابل قال رئيس الحكومة ان لبنان لا يسعه سوى التضامن مع العرب عندما يجمعون على ارادة واحدة فيكون عندئذ في صلبها، وجزءا لا يتجزأ من اجماعهم. ذلك ما عناه تأييده الحملة العسكرية وانشاء القوة العربية المشتركة اللتين حاذرهما باسيل.
بذلك عادت المشكلة الى مسقط سياسة النأي بالنفس، ولم تكن بالتأكيد مصوّبة منذ المرة الاولى الى الحرب السورية عام 2011. بل قبل ذلك بسنة، عام 2010، الى ايران بالذات. الى طاولة مجلس الامن وهو في صدد فرض عقوبات على الجمهورية الاسلامية بسبب تشبثها بتطوير برنامجها النووي.
كان لبنان يشغل مقعداً غير دائم في مجلس الامن، وبدا امام احد اربعة خيارات في التصويت لا يسعه الاخذ بأي منها حرصا على تماسكه الداخلي: مع، ضد، امتناع، عدم حضور. باستثناء الخيار الرابع، لكل من تلك مغزى ينطوي على موقف سياسي صريح او ضمني بالتأييد او الرفض او التحفظ. على ان حكومة الحريري ارتأت الاسترشاد بسابقة الصين في ستينات القرن الفائت، قضت بحالة غير مألوفة لم يسبق استخدامها، وتحمل في طياتها الشيء ونقيضه، فاذا هي خيار خامس: حضر مندوب لبنان السفير نواف سلام ونأى بنفسه عن التصويت من دون ان يُحسب غائبا. نجمت عن هذا الموقف، في الداخل والخارج، تفسيرات شتى في الدلالة التي توخاها لبنان لتجنيب وضعه المحلي مزيداً من الانقسامات بين فريق يوالي ايران وآخر يناوئه ــــ وكلاهما في حكومة وحدة وطنية ــــ على صورة ما يجري في اليمن اليوم، الواقع بين فكي الاشتباك السعودي ــــ الايراني.
وقتذاك نظر الى سياسة النأي بالنفس، انسجاما مع الدور القانوني المنوط بمجلس الامن كأعلى سلطة دولية تتخذ قرارات الحروب وفرض السلم العالمي والعقوبات، على انها تهرّب من المسؤولية.

نقولا ناصيف - الاخبار 4\4\2015

إرسال تعليق

 
Top