0
لم يكن يُدرك علي ان تعاطيه حبوب الكابتاغون سوف يوصله الى حالة من قلة الثقة وعدم حب الاختلاط بالناس وغيرها من الامور التي لا يحتملها عقل بشري. كان يتملكه شعور بتدهور صحته وتراوده فكرة الانتحار بإستمرار ويقول: كنت اسمع اصوات اقاربي واصحابي المتوفين، واليوم بعد اقلاعي عن التعاطي اشعر وكأنني اعشق الانزواء وهو ما فسره لي بعض الاطباء بأنه نوع من الرهاب الاجتماعي (الخوف من الناس) لكنهم اخبروني ان هذه الاعراض سوف تزول نهائياً بعد فترة».

بعدما كانت خفّت نسبة الاتجار بها بشكل ملحوظ عادت موجة المخدرات لتسرح وتمرح مجددا على مساحة واسعة من الضاحية الجنوبية ولتسيطر على حياة مجموعة من الشبان، في حين كان هناك اعتقاد قد ساد انه تم التخلص من هذه الآفة ولو بالحد الادنى، مما يؤشر الى وجود خطة واضحة هدفها تدمير هذه البيئة وادخالها في نفق مجهول، وخصوصا أن الموجة هذه المرة تستهدف اعماراً محددة من الشباب ترواح بين السادسة عشرة والعشرين عاما، ما حدا الأهالي على رفع الصوت والسؤال عن دولة غير متواجدة سوى عند بعض الحواجز.

في الضاحية تضيع الحقيقة او «لحظة الجد»، كما يقول الاهالي لدى سؤالهم عن الجهة المسؤولة عن انتشار المخدرات مجددا في مناطقهم. بعضهم يحمّلها للدولة التي لم ترفع سيف القانون بعد في عمق المنطقة. لكن البعض الآخر يضعها ضمن خانة الامن المتفلّت وما ينتج عنه من ارتكابات وتجاوز للحدود العامة ثم يُضاف اليها غياب فرص العمل للشباب مما يجعلهم فريسة سهلة الوقوع في شباك تجّار ممنوع «صرفهم» من «خدمة قتل البشر» أو التصرّف معهم وفق القانون رغم دعوات قادة الاحزاب مرارا وتكرارا الدولة للضرب بيد من حديد منعا للإتجار بحياة البشر.

تتنكر الجهات الحزبية المسؤولة في الضاحية الجنوبية لظاهرة انتشار المخدرات المتزايدة والمتعددة وفي طليعتها حبوب الكابتاغون وعدد من الادوية الموجودة في الصيدليات، ويقول بعض المسؤولين ايضا انهم اول من دعوا الدولة للدخول الى المنطقة وتطهيرها من هذه الآفة، وانهم في تعاون مستمر معها للقضاء عليها نهائيا كونها اقتربت في بعض جوانبها من عناصر تابعة لهم. هذا الكلام، او حجة الدفاع عن النفس، لا تلقى ترحيبا لدى عدد من الاهالي الذين يعانون مع ابنائهم ظاهرة المخدرات وهم يلقون اللوم بالدرجة الاولى على الجهة الحزبية التي تغضّ الطرف عن كبار المروّجين لأسباب عشائرية او ذات قربة تماما كما حصل مع شقيق احد النوّاب في ما بات يُعرف بقضية الكابتاغون»، بحسب تعبيرهم.

ومن جملة ما يروي اهالي الضاحية، وتحديدا في برج البراجنة، اسماء لتجار يسرحون ويمرحون في المنطقة من دون حسيب او رقيب وبسلاحهم الفردي، وعن مجموعات من الشبان الذين ينتشرون نهارا وليلا عند زوايا الطرق داخل الاحياء السكنية، ويؤكدون أن الاتجار يغدو أكثر سهولة بسبب وجود منبع المخدرات في «حي الجورة» حيث يستطيع أي شخص أن يتوجه إلى هناك ويشتري ما يريد من المخدرات، ومن المعروف ان الحي المذكور شهد منذ فترة غير بعيدة تبادلاً لإطلاق النار بين دورية من مكتب مكافحة المخدرات ومطلوبين خطيرين اصيب على اثرها أحد كبار المطلوبين بـ 123 مذكرة توقيف، ومنذ ذلك الحين لم يلحظ الاهالي اي عملية دهم لأوكار المخدرات.

تفلّت لم تعهده الضاحية من قبل حتى في ذروة الحروب، فقد اصبحت المخدرات فيها ظاهرة علنيّة لدى معظم الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 16 و40 عاماً وهو عدد كبير بالنسبة إلى منطقة يقطنها نحو مليون نسمة معظمهم من جيل الشباب واكثرهم عاطلون من العمل، والسؤال البارز يتمحور حول كيفية تدبير هؤلاء امورهم المالية لشراء احتياجاتهم من المخدرات. يقول احد مخاتير الضاحية الذي كان ابنه قد وقع ضحية تعاطي المخدرات: ليس من الصعب على اي شاب هنا الحصول على ما يُريده من مواد مخدرة بدءاً من الكوكايين مرورا بالحشيشة والكابتاغون وصولا الى بعض الادوية التي تُباع في الصيدليات، والمدمن الذي يسكن الى جانب مخيم مثل برج البراجنة يُعدّ «وكراً للمخدرات» لن يعصى عليه الحصول على جرعته».

أمّا بالنسبة الى المال فإذا لم يكن متوافراً وهذا أمر حاصل على الدوام مع معظم الشبان، فهناك أنواع أخرى من المخدّرات يلجؤون اليها وهي موجودة في جميع الصيدليات ويمكن لأي شخص شراؤها مثل حبوب «ريفوتريل» المعروفة لديهم بـ «ريفو»، وهي حبّة تعطي دفعاً من القوّة والشجاعة عند اللزوم، بالإضافة الى أدوية «السعلة» وحقنة «ترامال» المتوافرتين بكثرة، وهذان النوعان يُستعملان للتهدئة من سرعة الانفعال والغضب، لكن يبقى «السيمو» و«البينزيكسول» الأكثر شيوعاً بين المدمنين بحيث يراوح سعر العلبة الواحدة بين خمسة أو عشرة دولارات وفي الحد الأقصى عشرين دولاراً.

بعض الاهالي يخشون الفضيحة ولذلك يعمدون الى اخفاء حالات ابنائهم وابقائها طي الكتمان، لكنهم في الوقت عينه يُبدون عتبهم على من يُفترض انهم مؤتمنون على حياة الناس في مناطقهم، لا بل يحملونهم المسؤولية وبعضهم يضع اللوم ايضا على الدولة «التي تغض الطرف عن الجرم الذي يحصل وعلى اصحاب الصيدليات الذين يصرفون الدواء من دون وصفة طبية مما يُسهل في عملية الادمان وسط الشبان ويُشجعهم في المضي بتعاطي المخدرات طالما ان هناك من يوفرها لهم وبشكل قانوني». لكن السؤال الابرز الذي يطرحه معظم اصحاب الصيدليات «ما الذي يستطيع فعله الصيدلي وتحديدا ضمن المناطق التي تفتقر الى وجود الدولة بشكل فعلي أمام ثلاثة او اربعة شبّان دخلوا الصيدلية ليبتاعوا دواء مخدراً».

نقيب الصيادلة في لبنان ربيع حسّونة يرى ان «مشكلة بيع العقاقير التي يوجد فيها مادة مخدرة هي مشكلة عامة ولا تخص فئة معيّنة من الناس، اذ ان الجميع وبالتعاون مع المجتمع المدني ككل مكلّف محاربتها، وبالتالي لن نتمكن من التغلب على هذه الآفة ما لم تقم الدولة بواجباتها في هذا المجال بدءاً من ملاحقة التجار الذين يبيعون أدويتهم في السوق السوداء من دون أدنى احساس بالمسؤولية أو بتأنيب الضمير امام جيل مهدد بمعظمه من ظاهرة المخدرات».

ويُشير الى ان هناك قانوناً مختصاً ببيع الدواء يجب ان يُطبق على مساحة الوطن وليس ضمن مناطق محددة، فالدواء يجب ألا يُباع إلا من خلال وصفة طبية عليها امضاء الطبيب المختص لأنه في عُرفنا نقول ان الصيدلي هو رجل الأمن الصحي».

ويأسف حسونة» لأن هناك ادوية تتضمن مواد مخدرة طبية مثل «الترامال» وما شابه بين ايدي التجار يبيعونها في السوق السوداء ولتجار المخدرات واحياناً كثيرة يحصلون عليها إما من المستوصفات عبر وصفات طبية مزورة او من تحت الطاولة وإمّا من داخل مخيمات النازحين في لبنان او خارجه. أما ما يُشاع عن مسؤولية الصيدلي فهذا الامر غير واقعي ولا اساس له من الصحة خصوصا وأننا في كل يوم نسمع فيه عن اعتداء على الصيدليات عن طريق السطو المسلح واحيانا تصل الى حد القتل، ولذلك ندعو وزارة الداخلية الى تأمين الحماية للصيدليات كما هو الحال مع المصارف لأنها مسؤولة عن حماية مجتمع ومنعه من الانزلاق نحو السُم والخراب او الموت».

ويضع حسوّنة لوماً إضافياً على القيّمين على وزارة التربية، ويوضح: «لدينا في لبنان خمس كليات للصيدلة لكن هناك قراراً من الوزير سمح بأن تصبح احدى عشرة كلية، ما يعني انه بدل ان يكون عندنا اليوم ثلاثة آلاف صيدلية سيصبح العدد في المستقبل عشرة آلاف، فكيف سيسترزق الصيدلي؟ عدا ان هذا الامر سينعكس بالطبع على نوعية الخدمة سواء لجهة مضاربة الاسعار او تسهيل تمرير الدواء من دون وصفة طبية ربما، وبهذا بدل ان نكون في صدد معالجة ظاهرة الادمان على العقاقير التي تُباع في الصيدليات نصبح وكأننا نُسهّلها من دون قصد».

في كل يوم تزداد مطالب الاهالي في الضاحية الجنوبية لجهة دعوة القوى الشرعيّة للعمل بشكل جدي وحازم لإيجاد حلّ لظاهرة المخدرات المتفشية داخل مجتمع كان يوصف بالمحصّن والمنضبط، لكنهم في الوقت عينه يعلمون ان ما يحصل هو نتاج طبيعي داخل منطقة غاب عنها منطق الدولة لعشرات السنين قسراً لمصلحة منطق الدويلة أو الدويلات.

علي الحسيني - المستقبل 15\9\2014

إرسال تعليق

 
Top