يفترض أن يكون اجتماع جدة يوم الأربعاء الماضي وضع أسس التحالف الإقليمي والدولي للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). في باريس سيكون هناك اجتماع آخر غداً (الإثنين) لاستكمال هذه المهمة. يطرح هذا التحالف الجديد جملة قضايا وأسئلة، تستحق الإضاءة عليها في هذه المرحلة الباكرة من مهمة هذا التحالف. من بين هذه القضايا استبعاد إيران من التحالف. وقد نقلت صحيفة الـ «نيويورك تايمز» أمس (السبت) عن وزير الخارجية الأميركي جون كيري قوله أثناء زيارته تركيا بعد اجتماع جدة، إن «مشاركة إيران في اجتماع لمساعدة العراق ليست مناسبة»، ثم أضاف: «في ظل الظروف الحالية، وفي هذه اللحظة من الزمن، إن مشاركة إيران ليست الخيار الصحيح لأسباب عدة». أحدها وأهمها كما قال إن «إيران متورطة بقواتها وبعمق على الأرض في سورية». والسبب الثاني هو وصف وزير الخارجية إيران بأنها «راعية للإرهاب في أماكن متعددة». هل من علاقة بين هذا التسبيب الرسمي الأميركي، وموافقة السعودية على استضافة مركز لتدريب عناصر معتدلين من المعارضة السورية عسكرياً على أراضيها؟ من ناحية لو أن إيران كانت مشاركة في اجتماع جدة لرفضت هذا المقترح جملة وتفصيلاً، لأن قبولها به سيعني تخليها عن بشار الأسد، أو نظامه، أو كليهما معاً، وبالتالي انقلاباً في دورها الإقليمي. ومن ثم فإن استبعادها كان بسبب التناقض الحاد بين دور إيران في الأزمة وأهدافه، وبين الهدف أو الأهداف التي سيعمل هذا التحالف على تحقيقها.
استبعاد إيران وقبول السعودية باستضافة مركز للتدريب يتسقان مع مسلمة أن هدف التحالف لا يمكن في أي حال أن يتوقف عند القضاء على «داعش». فهذا تطور ستكون له تداعياته. ما هي الخيارات الممكنة أو المرغوبة بعد ذلك؟ سؤال مفتوح بطبيعة الحال. ولطالما تساءل كثيرون عمن سيكون المستفيد من إضعاف تنظيم الدولة الإسلامية، أو إخراجه تماماً من المعادلة العسكرية في العراق وسورية؟ هل سيكون النظام السوري هو المستفيد من ذلك؟ هذا ما كانت تريده إيران عندما أعلنت الأسبوع الماضي استعدادها، على لسان المرشد علي خامنئي، للتنسيق مع الأميركيين في الحرب على «داعش»، ثم جاء الرفض الأميركي لذلك ليقول إن النظام السوري لن يكون المستفيد من هذه الحرب، وهو ما أكده أوباما في خطابه الأخير من أن النظام السوري فقد شرعيته، ولا يمكنه استعادته الآن.
من ناحية أخرى، الأرجح أن موافقة السعودية على استضافة مركز التدريب، وهي سابقة تاريخية لافتة، جاءت نتيجة لصفقة، توافق بموجبها واشنطن على أن تمتد الحرب على «داعش» إلى تغيير المعادلة العسكرية في سورية لمصلحة المعارضة، بهدف إما إرغام النظام على القبول ببيان جنيف الأول، أي مرحلة انتقالية تتولاها حكومة مشتركة بصلاحيات تنفيذية كاملة، أو الذهاب إلى خيار إسقاط النظام. واشترطت واشنطن للقبول بتغيير سياستها على هذا النحو بأن يكون للرياض دور مباشر في ذلك، وألا تكتفي بالتمويل وتوفير الغطاء السياسي، والاعتماد في تحقيق هذا الهدف على الأميركيين. هل هذا ما حصل فعلاً؟ هكذا يبدو. مهما يكن، فإن استبعاد إيران والقبول السعودي باستضافة مركز التدريب يشيران معاً إلى أن حرب التحالف الجديد لن تتوقف عند القضاء على «داعش»، إما كخيار مسبق لهذا التحالف، أو كأمر واقع ستفرضه التطورات على الجميع.
هنا تبرز قضية أخرى. هل أخذ التحالف في اعتباره، خصوصاً أطرافه العربية، العلاقة العضوية بين الخطر العسكري والأمني المباشر لـ «داعش» من ناحية، والخطورة السياسية والفكرية للمنظومة الثقافية والأيديولوجية التي انبثق منها ويمثلها مع غيره من التنظيمات الأخرى؟ تمثل الطائفية أساس هذه المنظومة، وبالتالي أساس الإرهاب، والتنظيمات الإرهابية التي تملأ أفق المنطقة الآن (انظر مقالة الأسبوع الماضي).
إيران هي التي غرست البذرة الأولى لظاهرة هذه التنظيمات، وجعلت منها أداة سياسية وعسكرية لدورها الإقليمي. كان ظهور «داعش» وغيره رد فعل على ذلك، أولاً في إطار الاحتلال الأميركي العراق، ونمو النفوذ الإيراني هناك تحت هذا الاحتلال، ثم في إطار الثورة السورية والدور الإيراني الداعم النظام السوري في قمع هذه الثورة. الآن يبدو أن إيران تدفع ثمن سياستها الإقليمية واستنادها إلى منطق الطائفية، ومبدأ تحالف الأقليات المستمد من هذا المنطق تحديداً. السؤال: هل سيكتفي التحالف الجديد بهزيمة «داعش» عسكرياً، وإبعاد خطره الأمني على الأنظمة السياسية؟ أم أنه سيأخذ الحرب إلى مداها الطبيعي، ويؤسس لهزيمة الطائفية ومنظومتها، وبالتالي حماية المجتمعات وأنظمتها السياسية معاً من هذه الآفة؟
الهدف الثاني هو التحدي الحقيقي للتحالف وللدول المنضوية فيه، والمؤشر الحقيقي على مدى نجاحه من عدمه، وذلك لأن هذا الهدف يتطلب ما هو أكثر من الحشد العسكري، يتطلب التخلي عن مقاومة الدول للإصلاح السياسي والثقافي والدستوري.
لقد ارتكبت هذه الدول، وتحديداً السعودية وإيران، خطأ جسيماً بالسماح للخطاب الديني بأن يكون، أو أن يدعي أنه الأساس الوحيد لشرعيتها، ومن ثم بأن يكون منطق هذا الخطاب منافساً لمنطق الدولة نفسها. والدولة غير قادرة على مجاراة الخطاب في منطقه وأهدافه وأحلامه وتطلعاته. للدولة حدود جغرافية وسياسية ودستورية، وليس للخطاب مثل هذه الحدود. وللدولة مواطنون، وللخطاب أتباع خارج حدود الوطن والمواطنة، والدستور. وها هو منطق الدولة يصطدم في ساحات الصراع في العراق والشام مع منطق الطائفية، ومع منطق ومصالح النظام الدولي أيضاً. والمطلوب في هذا السياق أن يتخلى العراق كعضو في التحالف عن الميليشيات الطائفية كجزء من منظومته الأمنية، وأن يدرك أن ظهور «داعش»، وثورة السنّة أيام المالكي نتيجة طبيعية لمجاراته النموذج الإيراني من هذه الناحية. لا يمكن أن تكون الحرب على «داعش» السنّي غطاء للإبقاء على التنظيمات الشيعية المشابهة لـ «داعش».
القضية الأخيرة هي فكرة التحالف نفسها. هذه المرة الثالثة التي تتولى فيها الولايات المتحدة بناء تحالف إقليمي ودولي لشن حرب على طرف في المنطقة يهدد استقرارها، وبالتالي يهدد النظام الدولي. لماذا تعجز الدول العربية عن أن تكون المبادرة لتشكيل مثل هذا التحالف من دون رعاية خارجية؟ لماذا السؤال؟ لأنه مرتبط بمفهوم الدولة، ومن ثم بالقضية السابقة. السبب الأول للعجز هو أن بنية الدولة وآليات عملها الحقيقي لم تكتمل بعد. وهي لم تكتمل ليس لقصر زمن أو عمر هذه الدول، بل على رغم أن الأقصر عمراً بين هذه الدول لا يقل بأي حال عن نصف قرن. بعضها لا يقل عمره عن مئة عام. مصر، مثلاً، تفاخر بأن عمر الدولة فيها يمتد لأكثر من سبعة آلاف سنة. في المغرب يتجاوز عمر الدولة خمسة قرون. العمر الحقيقي للدولة السعودية يقترب من ثلاثة قرون. وعلى رغم هذا العمر المديد لهذه الدول، إلا أنها غير قادرة، وعلى مدى قرون أيضاً، على تشكيل تحالفات استراتيجية قادرة على البقاء ومقاومة الظروف الإقليمية والدولية، وعلى حماية مصالح هذه الدول. علاقة كل منها بشعبها علاقة غير ناضجة، وذات اتجاه واحد. وهذا مؤشر إلى ضعف في هيكلية الدولة. سلطات الدولة لا تزال متصلة وليست منفصلة ومستقلة كل واحدة منها عن الأخرى. على العكس، تتداخل السلطة التنفيذية بأجهزتها السياسية والأمنية والإدارية مع السلطتين القضائية والتشريعية. وعلى رغم توافر عناصر مختلفة لشرعية الدولة، إلا أن بعضها يتمسك بشرعية القوة، والهيبة، وبعضها يقدم شرعية الخوف، وبعض ثالث يفضل شرعية الرعب كما في حكم البعث السوري الحالي، وقبله البعث العراقي السابق. من الصعوبة في مثل هذه البيئة إنتاج خطاب «دولوي» (من دولة) ينافس خطاباً دينياً يمتد عمره لقرون، ومتجذر في ثقافة المجتمعات العربية. ومن الصعوبة أيضاً إقامة تحالفات إقليمية تفتقد عمقاً شعبياً تستند إليه. في المقابل، من السهولة أن يكون للطائفية في هذه البيئة جاذبية تنافس جاذبية الدولة، خصوصاً في مرحلة صراعات تاريخية ومفصلية مثل الذي تمر به المنطقة حالياً. وهذا هو التحدي الذي تواجهه الدول العربية حالياً.
استبعاد إيران وقبول السعودية باستضافة مركز للتدريب يتسقان مع مسلمة أن هدف التحالف لا يمكن في أي حال أن يتوقف عند القضاء على «داعش». فهذا تطور ستكون له تداعياته. ما هي الخيارات الممكنة أو المرغوبة بعد ذلك؟ سؤال مفتوح بطبيعة الحال. ولطالما تساءل كثيرون عمن سيكون المستفيد من إضعاف تنظيم الدولة الإسلامية، أو إخراجه تماماً من المعادلة العسكرية في العراق وسورية؟ هل سيكون النظام السوري هو المستفيد من ذلك؟ هذا ما كانت تريده إيران عندما أعلنت الأسبوع الماضي استعدادها، على لسان المرشد علي خامنئي، للتنسيق مع الأميركيين في الحرب على «داعش»، ثم جاء الرفض الأميركي لذلك ليقول إن النظام السوري لن يكون المستفيد من هذه الحرب، وهو ما أكده أوباما في خطابه الأخير من أن النظام السوري فقد شرعيته، ولا يمكنه استعادته الآن.
من ناحية أخرى، الأرجح أن موافقة السعودية على استضافة مركز التدريب، وهي سابقة تاريخية لافتة، جاءت نتيجة لصفقة، توافق بموجبها واشنطن على أن تمتد الحرب على «داعش» إلى تغيير المعادلة العسكرية في سورية لمصلحة المعارضة، بهدف إما إرغام النظام على القبول ببيان جنيف الأول، أي مرحلة انتقالية تتولاها حكومة مشتركة بصلاحيات تنفيذية كاملة، أو الذهاب إلى خيار إسقاط النظام. واشترطت واشنطن للقبول بتغيير سياستها على هذا النحو بأن يكون للرياض دور مباشر في ذلك، وألا تكتفي بالتمويل وتوفير الغطاء السياسي، والاعتماد في تحقيق هذا الهدف على الأميركيين. هل هذا ما حصل فعلاً؟ هكذا يبدو. مهما يكن، فإن استبعاد إيران والقبول السعودي باستضافة مركز التدريب يشيران معاً إلى أن حرب التحالف الجديد لن تتوقف عند القضاء على «داعش»، إما كخيار مسبق لهذا التحالف، أو كأمر واقع ستفرضه التطورات على الجميع.
هنا تبرز قضية أخرى. هل أخذ التحالف في اعتباره، خصوصاً أطرافه العربية، العلاقة العضوية بين الخطر العسكري والأمني المباشر لـ «داعش» من ناحية، والخطورة السياسية والفكرية للمنظومة الثقافية والأيديولوجية التي انبثق منها ويمثلها مع غيره من التنظيمات الأخرى؟ تمثل الطائفية أساس هذه المنظومة، وبالتالي أساس الإرهاب، والتنظيمات الإرهابية التي تملأ أفق المنطقة الآن (انظر مقالة الأسبوع الماضي).
إيران هي التي غرست البذرة الأولى لظاهرة هذه التنظيمات، وجعلت منها أداة سياسية وعسكرية لدورها الإقليمي. كان ظهور «داعش» وغيره رد فعل على ذلك، أولاً في إطار الاحتلال الأميركي العراق، ونمو النفوذ الإيراني هناك تحت هذا الاحتلال، ثم في إطار الثورة السورية والدور الإيراني الداعم النظام السوري في قمع هذه الثورة. الآن يبدو أن إيران تدفع ثمن سياستها الإقليمية واستنادها إلى منطق الطائفية، ومبدأ تحالف الأقليات المستمد من هذا المنطق تحديداً. السؤال: هل سيكتفي التحالف الجديد بهزيمة «داعش» عسكرياً، وإبعاد خطره الأمني على الأنظمة السياسية؟ أم أنه سيأخذ الحرب إلى مداها الطبيعي، ويؤسس لهزيمة الطائفية ومنظومتها، وبالتالي حماية المجتمعات وأنظمتها السياسية معاً من هذه الآفة؟
الهدف الثاني هو التحدي الحقيقي للتحالف وللدول المنضوية فيه، والمؤشر الحقيقي على مدى نجاحه من عدمه، وذلك لأن هذا الهدف يتطلب ما هو أكثر من الحشد العسكري، يتطلب التخلي عن مقاومة الدول للإصلاح السياسي والثقافي والدستوري.
لقد ارتكبت هذه الدول، وتحديداً السعودية وإيران، خطأ جسيماً بالسماح للخطاب الديني بأن يكون، أو أن يدعي أنه الأساس الوحيد لشرعيتها، ومن ثم بأن يكون منطق هذا الخطاب منافساً لمنطق الدولة نفسها. والدولة غير قادرة على مجاراة الخطاب في منطقه وأهدافه وأحلامه وتطلعاته. للدولة حدود جغرافية وسياسية ودستورية، وليس للخطاب مثل هذه الحدود. وللدولة مواطنون، وللخطاب أتباع خارج حدود الوطن والمواطنة، والدستور. وها هو منطق الدولة يصطدم في ساحات الصراع في العراق والشام مع منطق الطائفية، ومع منطق ومصالح النظام الدولي أيضاً. والمطلوب في هذا السياق أن يتخلى العراق كعضو في التحالف عن الميليشيات الطائفية كجزء من منظومته الأمنية، وأن يدرك أن ظهور «داعش»، وثورة السنّة أيام المالكي نتيجة طبيعية لمجاراته النموذج الإيراني من هذه الناحية. لا يمكن أن تكون الحرب على «داعش» السنّي غطاء للإبقاء على التنظيمات الشيعية المشابهة لـ «داعش».
القضية الأخيرة هي فكرة التحالف نفسها. هذه المرة الثالثة التي تتولى فيها الولايات المتحدة بناء تحالف إقليمي ودولي لشن حرب على طرف في المنطقة يهدد استقرارها، وبالتالي يهدد النظام الدولي. لماذا تعجز الدول العربية عن أن تكون المبادرة لتشكيل مثل هذا التحالف من دون رعاية خارجية؟ لماذا السؤال؟ لأنه مرتبط بمفهوم الدولة، ومن ثم بالقضية السابقة. السبب الأول للعجز هو أن بنية الدولة وآليات عملها الحقيقي لم تكتمل بعد. وهي لم تكتمل ليس لقصر زمن أو عمر هذه الدول، بل على رغم أن الأقصر عمراً بين هذه الدول لا يقل بأي حال عن نصف قرن. بعضها لا يقل عمره عن مئة عام. مصر، مثلاً، تفاخر بأن عمر الدولة فيها يمتد لأكثر من سبعة آلاف سنة. في المغرب يتجاوز عمر الدولة خمسة قرون. العمر الحقيقي للدولة السعودية يقترب من ثلاثة قرون. وعلى رغم هذا العمر المديد لهذه الدول، إلا أنها غير قادرة، وعلى مدى قرون أيضاً، على تشكيل تحالفات استراتيجية قادرة على البقاء ومقاومة الظروف الإقليمية والدولية، وعلى حماية مصالح هذه الدول. علاقة كل منها بشعبها علاقة غير ناضجة، وذات اتجاه واحد. وهذا مؤشر إلى ضعف في هيكلية الدولة. سلطات الدولة لا تزال متصلة وليست منفصلة ومستقلة كل واحدة منها عن الأخرى. على العكس، تتداخل السلطة التنفيذية بأجهزتها السياسية والأمنية والإدارية مع السلطتين القضائية والتشريعية. وعلى رغم توافر عناصر مختلفة لشرعية الدولة، إلا أن بعضها يتمسك بشرعية القوة، والهيبة، وبعضها يقدم شرعية الخوف، وبعض ثالث يفضل شرعية الرعب كما في حكم البعث السوري الحالي، وقبله البعث العراقي السابق. من الصعوبة في مثل هذه البيئة إنتاج خطاب «دولوي» (من دولة) ينافس خطاباً دينياً يمتد عمره لقرون، ومتجذر في ثقافة المجتمعات العربية. ومن الصعوبة أيضاً إقامة تحالفات إقليمية تفتقد عمقاً شعبياً تستند إليه. في المقابل، من السهولة أن يكون للطائفية في هذه البيئة جاذبية تنافس جاذبية الدولة، خصوصاً في مرحلة صراعات تاريخية ومفصلية مثل الذي تمر به المنطقة حالياً. وهذا هو التحدي الذي تواجهه الدول العربية حالياً.
خالد الدخيل - الحياة 14\9\2014
إرسال تعليق