ألقى وزير العدل اللواء أشرف ريفي كلمة لمناسبة عيد الجيش بدعوة من "بيت لبنان العالم" جاء فيها: "نلتقي اليوم في عيد الجيش اللبناني الذي أفخر أنني انتميت الى مدرسته منذ التحقت كتلميذ ضابط في المدرسة الحربية. أهنئ المؤسسة العسكرية بعيدها، متمنيا لها قيادة وضباطا وأفرادا التوفيق والنجاح في حماية لبنان، عبر بسط سلطة الدولة بمؤسساتها الشرعية على كامل أرضها.
أيها الاصدقاء: أتوجه بالشكر لجمعية "بيت لبنان العالم" على تنظيم هذا الحفل تحت عنوان "حماية الاعتدال" أشكر لهم هذه المبادرة التي تعبر عن حس وطني، وعن وعي لما نعيشه من أحداث وأخطار.
ايها الاصدقاء: نشأت في كنف عائلة لبنانية مسلمة،في مدينتي طرابلس،مدينة التنوع والانفتاح. أخذت عن والدي الكثير من القيم واظبت على تطبيقها في حياتي. فقد تربينا كما غالبية اهلنا، ونشأنا على الإعتدال واحترام الآخرونبذ التطرف، وعلى تقديس التفاعل الايجابي بين الأديان وخصوصا بين الاسلام والمسيحية،هكذا كنا ونحن مستمرون بهذا النهج، لأن لا حياة لنا ولا مستقبل لابنائنا بدون الفهم الصحيح، لما تختزنه الاديان السماوية، من قيم ومثل تعطي للحياة معناها، ولمفهوم انسانية الانسان حقه ومضمونه، كقاعدة للتفاعل بين البشر الى أي دين انتموا.
أيها الاصدقاء: من لبنان الرسالة الذي تحدث عنه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، عشنا هذه التجربة معا، متساوين مختلفين ومتمايزين داخل الوطن الواحد والعائلة الواحدة، مؤمنين بأن الله سبحانه وتعالى خلقنا على صورته ومثاله، الله هو العدل والمحبة والرحمة، التي من دونها لا نستحق أن نكون مسلمين ولا مسيحيين ولا مؤمنين. ما تختزنه المسيحية وما يختزنه الاسلام من قيم، لا يمكن للفئات الضالة والمتطرفة أن تشوهها.
نعيش على هذه الارض معا منذ مئات السنين. لسنا فصائل مختلفة، ولا احرفا متنافرة، نعيش معا كأبجدية متناغمة هي نتاج تاريخ من الاخوة والانتماء الى عيش مشترك، وإلى قيم مشتركة.
لقد مر نموذجنا في العيش معا، بتجارب مريرة. اذ تعرض لاختبار الحرب الاهلية التي لم تكن للأسف مجرد حرب آخرين على ارضنا فقط، بل كانت امتحانا لنا مسلمين ومسيحيين، استخلصنا من خلالها أعمق العبر بعدما عشنا مآ سي كثيرة وسالت دماء بريئة وذرفت دموع كثيرة. لم تكن طريقنا في الخروج من الحرب سهلة ومن الطبيعي ألا تكون . لكن كلي ثقة أننا قادرون على اجتيازها، لأن نداء الحياة المشتركة أقوى من صوت العنف والتطرف والموت.
اليوم وبكل واقعية أقول، أن الغالبية العظمى من اللبنانيين، لا تريد العودة الى الحرب ولا الى الفوضى، بل تريد دولة تقوم على أساس المواطنية وتحترم حرية الفرد وكرامته. الغالبية العظمى من اللبنانيين عاشت السلام وعرفت معنى أن يكون المسلم والمسيحي في هذا الوطن، شريكين في مساحة واسعة من القيم الاخلاقية والدينية والانسانية، كما في الالتزام بحب لبنان، البلد الفريد، الذي يناضل لتثبيت صيغته الفريدة، هذه الصيغة التي لا تشبه اي صيغة اخرى في المنطقة، باتت حاجة حضارية لنا وللعالم.
أيها الاصدقاء: لم يعد الاعتدال مجرد كلمة خشبية، يراد بها الهروب من مسؤولية المواجهة. المعتدلون في هذه المنطقة هم أهل القضية وعليهم مسؤولية ان يواجهوا بشجاعة، كل اشكال الاستبداد والارهاب التي هي ألوان مختلفة لصورة سوداء واحدة. .
لذلك، ونحن نواجه الاستبداد الذي أغرق منطقتنا بالدم، من سوريا الى العراق، والذي كبل وطننا بمغامرات مذهبية لا طاقة له على تحملها، علينا في الوقت نفسه، أن نواجه ردة الفعل المتطرفة التي ولدت أو تم استيلادها بفعل هذا الاستبداد.
لقد سببت الأنظمة الدكتاتورية، الكثير من النتائج السلبية. وبات علينا الآن أن نكون اكثر وعيا وصلابة للوقوف بوجه ما انتجه هذا المحور التوسعي في سوريا والعراق ولبنان، حيث اغرقت سوريا بدم ابنائها، ووضع العراق في أتون حرب مذهبية ، فيما سبقت كل ذلك في لبنان حملة إجرامية ممنهجة هدفت الى القضاء على كل رموز الاعتدال من مسلمين ومسيحيين، بدءا من شهيد لبنان الكبير الرئيس رفيق الحريري، وصولا الى شهدائنا بيار الجميل وجبران التويني وسمير قصير وباقي الشهداء الأبرار.
لا ننسى معكم يا صاحب الغبطة، أن هذا النظام المجرم اغتال في العام 1989 رمز الاعتدال سماحة المفتي الشهيد حسن خالد، لأنه أصر أن يكون جسر عبور لقيامة لبنان، ولا يمكن أن ننسى وإياكم ما قام به باسم الكنيسة المارونية والمسيحيين، سلفكم الكبير الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، الذي فتح أبواب بكركي لتقبل التعازي بمفتي لبنان، في رسالة للقتلة تقول: سقطت الحواجز بين اللبنانيين.اما انتم يا صاحب الغبطة فقد سجل لكم اهل طرابلس مشاركتكم الشخصية في تقديم العزاء بشهداء تفجير مسجدي السلام والتقوى، يوم اقدم المجرمون المعروفون على ارتكاب هذه الجريمة الارهابية على ابواب بيوت لله..
للقضاء على الاعتدال وتقوية المتطرفين، فجروا الكنائس والمساجد، وفبركوا الملفات، وصنعوا المنظمات الارهابية في نهر البارد وأمكنة اخرى، التي زرعوا هذه المنظمات في الجسد اللبناني كي يفجروه من داخل، فوقفنا بوجههم وقفة رجل واحد، واحبطنا مؤامرتهم التي ارادوا تمريرها باسم الاسلام، وهو منها براء.
للقضاء على الاعتدال اغتالوا الشهداء في لبنان، فرد الشعب اللبناني في 14 آذار بأبهى ثورة شعبية سلمية حضارية مدنية اذهلت العالم، وألهمت التغيير في بلاد العرب.
للقضاء على الاعتدال، قتلوا في سوريا عشرات آلاف من الأبرياء السلميين العزل. اقتلعوا الحناجر بتهمة الغناء للحرية، قتلوا الاطفال، سلطوا اجهزة الامن لكي تقبض على الناس وتضعهم في السجن الكبير.
للقضاء على الاعتدال، مارسوا البطش وساهموا بتفريخ حالات متطرفة عنفية كي يبرروا اجرامهم.
للقضاء على الاعتدال مارسوا سياسة مذهبية في العراق، وحاولوا تغيير هويته العربية.
ايها الاصدقاء: في مواجهة هذا الإرث الثقيل الذي اورثنا اياه الاستبداد، والذي يتضاعف خطره بفعل مجموعات متطرفة نبتت في مستنقع الفوضى والعنف والتطرف والفهم الخاطئ للدين، ليس أمامنا الا أن نواجه ارهاب الاستبداد، والارهاب الناتج عنه. لقد قلت سابقا وأكرر إن ارهابين لا يبنيان وطنا، وأضيف أن ارهابين لا يمكن ان يكونا عنوانا لهذه المنطقة من العالم. فأهل الاعتدال من كل الطوائف هم الأكثرية، وعلى عاتقهم محاربة ثقافة الموت التي أنتجتها أنظمة الاستبداد، والتي اعطت المنطقة اسوأ نموذج من الارهاب والتطرف المرفوض.
لا داعش ولا أخواتها يمثلون الاسلام. هؤلاء لا يمتون للإسلام بصلة، فلا إسلام متطرف بل إسلام واحد، اسلام الرحمة والاعتدال.اسلام الشورى والديموقراطية. اسلام احترام حرية الانسان والخيار الحر، فلا إكراه في الدين، هذا هو الإسلام . هذا هو اسلامنا وباعتزاز ننتمي اليه. .
ايها الحضور الكريم:
المواجهة مع هؤلاء وأمثالهم يجب أن تقوم وهي بدأت فعلا، على امتداد العالمين العربي والاسلامي، من المملكة العربية السعودية الى مصر وسوريا والعراق ولبنان. فهم وجدوا كتركيبة مشبوهة تشوه صورة الاسلام،و المواجهة معهم تقوم على المشاركة الاسلامية المسيحية، وعلى قاعدة مواجهتهم باعتبارهم جزءا من منظومة الاستبداد.
لا أكثريات ولا أقليات في هذه المنطقة، بل أكثرية واحدة، تحتكم للعقل والاخلاق والدين وللاخوة الانسانية.
نحن نؤمن ان المسيحية اصيلة في هذا الشرق، وهي لا تحتاج الى شهادة من أحد ولا تحتاج الى حماية من احد. من هذه الارض انطلقت الرسالات السماوية، وهذا الوطن سيبقى ارض تفاعل الرسالات.
معوض
كلمة الختام كانت للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي تلاها النائب البطريركي المطران جوزف معوض وجاء فيها:" 1- يسعدني ان احيي جمعية بيت لبنان العالم واشارك بايفاد معاوننا البطريركي ونائبنا العام في اهدن - زغرتا سيادة المطران جوزف معوض واوجه كلمة في هذه الندوة لاطلاق "حملة وثيقة الاعتدال" التي تدعو اليها وتنظمها بمناسبة عيد الجيش.
اني اعرب عن كامل تقديري لهذه المبادرة ذات الابعاد التربوية والاجتماعية والوطنية ويطيب لي ان اوجه تحية اكبار وتهنئة للجيش اللبناني بعيده اصوغها لقائده العماد جان قهوجي واركانه وضباطه وجنوده فننحني امام شهدائه ونقدر تضحياته في سبيل لبنان وحماية كيانه ارضا وشعبا ومؤسسات، نحييه كمدرسة للاعتدال ومكان عيشه وحاميه.
2 - الاعتدال فضيلة انسانية ادبية واحدى الفضائل الاربع المدعوة رئيسة ومحورية الى جانب الفطنة والعدل والقوة وفقا لتعليم الكتاب المقدس في سفر الحكمة (8:7)
الاعتدال فضيلة اي استعداد داخلي عادي وثابت في الانسان لفعل الخير واعطاء افضل ما في قلبه وفكره ونفسه وهو فضيلة انسانية لانها تتميز بالمواقف الراسخة والاستعدادات الثابتة في العقل والارادة التي تنسق افعالنا وتنظم اهواءنا وتقود سلوكنا وهو فضيلة ادبية تمنح التسلط على الذات والفرح وحرية صنع الخير والاخلاقية التي تميز تماما بين الخير والشر وتهيىء قوى الكائن البشري للمشاركة في الحب الالهي (راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1804).
3 - كون الاعتدال من الفضائل الرئيسة الاربع ذات الدور المحوري بحيث تتجمع حولها سائر الفضائل فهو فضيلة اخلاقية تكبح جماح الشهوات والغرائز وتمنح الاتزان في الفكر والعمل والموقف في استعمال خيرات الارض وتحفظ الرغائب في حدود الاستقامة.
الكتاب المقدس يدعو الى فضيلة الاعتدال عندما يقول في سفر يشوع بن سيراخ: لا تتبع هواك وقوتك لسير في شهوات قلبك (5:2) وفي موضوع آخر: "لا تكن تابعا لشهواتك بل اكبح اهواءك"( 18:30).
ويعلم بولس الرسول ان نعمة الله ظهرت، وهي ينبوع الخلاص لجميع الناس. فتعلمنا ان ننبذ الكفر وشهوات الدنيا، لنعيش في هذا الدهر باعتدال وعدل وتقوى. يجمع القديس اغسطينوس الفضائل المحورية الاربع بهذا التعليم" الحياة الصالحة ما هي الا محبة الله بكل القلب وبكل النفس وبكل الفعل. فنحتفظ له بمحبة كاملة بفضيلة الاعتدال، محبة لا يزعزعها سوء بفضيلة القوة، ولا تخضع الا لله بفضيلة العدل، وتسهر على التمييز بين كل الاشياء لكي لا يفاجئها مكر او كذب بفضيلة الفطنة.
4 - اننا نمتدح حقا سعي جمعية بيت لبنان العالم الى وضع وثيقة لبنانية جامعة حول الاعتدال، في كل من مجالات السياسة والاجتماع والثقافة والتربية والاعلام. فلبنان مميز باعتداله، لانه بحكم ميثاق العيش معا بين المسيحيين والمسلمين، اختار نظاما سياسيا ميزته الاعتدال، لانه متوسط بين النظام الديني التيوقراطي، الذي يجمع بين الدين والدولة، وغالبا ما يجنح نحو التشدد والروح الاصولية، وبين النظام العلماني، الذي يفصل تماما بين الدين والدولة، وغالبا ما يجنح نحو التفلت من القيم الدينية والاخلاقية والتراخي فيها كلها. وقد لفت قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في ارشاده الرسولي: " الكنيسة في الشرق الاوسط، شركة وشهادة " الى هاتين الواقعتين في بلدان الشرق الاوسط وهي العلمانية والاصولية. اما لبنان فقد تخطاهما بنظامه السياسي المتوسط وبميثاقه الوطني.
5- تأتي هذه الندوة من اجل حماية الاعتدال في وقتها المناسب، فيما نشهد اليوم في بلدان الشرق الاوسط، ابتعادا ملحوظا عن الاعتدال، بسبب ظهور الحركات والمنظمات الاصولية الاسلامية وتناميها وتقويتها، ونرى ما بلغ اليه مثلا تنظيم داعش، اي الدولة الاسلامية في العراق والشام، في الموصل وتحديدا مع المسيحيين وفي لبنان بسبب التفرد في القرار السياسي وبخاصة في مخالفة الدستور والميثاق وعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وفي سواه من القرارات الوطنية، وفي استعمال السلاح غير الشرعي كما نشهد عندنا الكثير من التفلت من القيم الاخلاقية والانسانية والروحية، ومن ثقافتنا وحضارتنا اللبنانية.
6- اجل، نحن بحاجة الى استعادة الاعتدال الى لبنان الذي اعلن عن نفسه في مقدمة الدستور انه جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وان الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسات الدستورية وان النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها.
7- هذا الاعتدال اللبناني هو الاساس لاعلان تحييده وحياده الايجابي، بمعنى انه لا ينخرط في المحاور الاقليمية والدولية، بل يلتزم قضايا العدالة والسلام وحقوق الانسان، وفي طليعتها القضية الفلسطينية، والشؤون العربية الثقافية والحضارية ومستلزمات ضفة المتوسط الشرقية. كما ان الاعتدال اللبناني اساس لاعلان لبنان رسميا مركزا للحوار بين الاديان والثقافات والحضارات.
واننا، فيما نثني على مبادرة " بيت لبنان العالم " بعقد هذه الندوة لاطلاق " حملة وثيقة الاعتدال " ندعو لها بالنجاح والبلوغ الى نشر ثقافة الاعتدال، والى المحافظة على لبنان كنموذج لهذا الاعتدال.
وختاما إطلقت اغنية " متل الشجر مزروعين " للفنانة هبة طوجي شعر غدي الرحباني موسيقى اسامة الرحباني.
أيها الاصدقاء: أتوجه بالشكر لجمعية "بيت لبنان العالم" على تنظيم هذا الحفل تحت عنوان "حماية الاعتدال" أشكر لهم هذه المبادرة التي تعبر عن حس وطني، وعن وعي لما نعيشه من أحداث وأخطار.
ايها الاصدقاء: نشأت في كنف عائلة لبنانية مسلمة،في مدينتي طرابلس،مدينة التنوع والانفتاح. أخذت عن والدي الكثير من القيم واظبت على تطبيقها في حياتي. فقد تربينا كما غالبية اهلنا، ونشأنا على الإعتدال واحترام الآخرونبذ التطرف، وعلى تقديس التفاعل الايجابي بين الأديان وخصوصا بين الاسلام والمسيحية،هكذا كنا ونحن مستمرون بهذا النهج، لأن لا حياة لنا ولا مستقبل لابنائنا بدون الفهم الصحيح، لما تختزنه الاديان السماوية، من قيم ومثل تعطي للحياة معناها، ولمفهوم انسانية الانسان حقه ومضمونه، كقاعدة للتفاعل بين البشر الى أي دين انتموا.
أيها الاصدقاء: من لبنان الرسالة الذي تحدث عنه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، عشنا هذه التجربة معا، متساوين مختلفين ومتمايزين داخل الوطن الواحد والعائلة الواحدة، مؤمنين بأن الله سبحانه وتعالى خلقنا على صورته ومثاله، الله هو العدل والمحبة والرحمة، التي من دونها لا نستحق أن نكون مسلمين ولا مسيحيين ولا مؤمنين. ما تختزنه المسيحية وما يختزنه الاسلام من قيم، لا يمكن للفئات الضالة والمتطرفة أن تشوهها.
نعيش على هذه الارض معا منذ مئات السنين. لسنا فصائل مختلفة، ولا احرفا متنافرة، نعيش معا كأبجدية متناغمة هي نتاج تاريخ من الاخوة والانتماء الى عيش مشترك، وإلى قيم مشتركة.
لقد مر نموذجنا في العيش معا، بتجارب مريرة. اذ تعرض لاختبار الحرب الاهلية التي لم تكن للأسف مجرد حرب آخرين على ارضنا فقط، بل كانت امتحانا لنا مسلمين ومسيحيين، استخلصنا من خلالها أعمق العبر بعدما عشنا مآ سي كثيرة وسالت دماء بريئة وذرفت دموع كثيرة. لم تكن طريقنا في الخروج من الحرب سهلة ومن الطبيعي ألا تكون . لكن كلي ثقة أننا قادرون على اجتيازها، لأن نداء الحياة المشتركة أقوى من صوت العنف والتطرف والموت.
اليوم وبكل واقعية أقول، أن الغالبية العظمى من اللبنانيين، لا تريد العودة الى الحرب ولا الى الفوضى، بل تريد دولة تقوم على أساس المواطنية وتحترم حرية الفرد وكرامته. الغالبية العظمى من اللبنانيين عاشت السلام وعرفت معنى أن يكون المسلم والمسيحي في هذا الوطن، شريكين في مساحة واسعة من القيم الاخلاقية والدينية والانسانية، كما في الالتزام بحب لبنان، البلد الفريد، الذي يناضل لتثبيت صيغته الفريدة، هذه الصيغة التي لا تشبه اي صيغة اخرى في المنطقة، باتت حاجة حضارية لنا وللعالم.
أيها الاصدقاء: لم يعد الاعتدال مجرد كلمة خشبية، يراد بها الهروب من مسؤولية المواجهة. المعتدلون في هذه المنطقة هم أهل القضية وعليهم مسؤولية ان يواجهوا بشجاعة، كل اشكال الاستبداد والارهاب التي هي ألوان مختلفة لصورة سوداء واحدة. .
لذلك، ونحن نواجه الاستبداد الذي أغرق منطقتنا بالدم، من سوريا الى العراق، والذي كبل وطننا بمغامرات مذهبية لا طاقة له على تحملها، علينا في الوقت نفسه، أن نواجه ردة الفعل المتطرفة التي ولدت أو تم استيلادها بفعل هذا الاستبداد.
لقد سببت الأنظمة الدكتاتورية، الكثير من النتائج السلبية. وبات علينا الآن أن نكون اكثر وعيا وصلابة للوقوف بوجه ما انتجه هذا المحور التوسعي في سوريا والعراق ولبنان، حيث اغرقت سوريا بدم ابنائها، ووضع العراق في أتون حرب مذهبية ، فيما سبقت كل ذلك في لبنان حملة إجرامية ممنهجة هدفت الى القضاء على كل رموز الاعتدال من مسلمين ومسيحيين، بدءا من شهيد لبنان الكبير الرئيس رفيق الحريري، وصولا الى شهدائنا بيار الجميل وجبران التويني وسمير قصير وباقي الشهداء الأبرار.
لا ننسى معكم يا صاحب الغبطة، أن هذا النظام المجرم اغتال في العام 1989 رمز الاعتدال سماحة المفتي الشهيد حسن خالد، لأنه أصر أن يكون جسر عبور لقيامة لبنان، ولا يمكن أن ننسى وإياكم ما قام به باسم الكنيسة المارونية والمسيحيين، سلفكم الكبير الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، الذي فتح أبواب بكركي لتقبل التعازي بمفتي لبنان، في رسالة للقتلة تقول: سقطت الحواجز بين اللبنانيين.اما انتم يا صاحب الغبطة فقد سجل لكم اهل طرابلس مشاركتكم الشخصية في تقديم العزاء بشهداء تفجير مسجدي السلام والتقوى، يوم اقدم المجرمون المعروفون على ارتكاب هذه الجريمة الارهابية على ابواب بيوت لله..
للقضاء على الاعتدال وتقوية المتطرفين، فجروا الكنائس والمساجد، وفبركوا الملفات، وصنعوا المنظمات الارهابية في نهر البارد وأمكنة اخرى، التي زرعوا هذه المنظمات في الجسد اللبناني كي يفجروه من داخل، فوقفنا بوجههم وقفة رجل واحد، واحبطنا مؤامرتهم التي ارادوا تمريرها باسم الاسلام، وهو منها براء.
للقضاء على الاعتدال اغتالوا الشهداء في لبنان، فرد الشعب اللبناني في 14 آذار بأبهى ثورة شعبية سلمية حضارية مدنية اذهلت العالم، وألهمت التغيير في بلاد العرب.
للقضاء على الاعتدال، قتلوا في سوريا عشرات آلاف من الأبرياء السلميين العزل. اقتلعوا الحناجر بتهمة الغناء للحرية، قتلوا الاطفال، سلطوا اجهزة الامن لكي تقبض على الناس وتضعهم في السجن الكبير.
للقضاء على الاعتدال، مارسوا البطش وساهموا بتفريخ حالات متطرفة عنفية كي يبرروا اجرامهم.
للقضاء على الاعتدال مارسوا سياسة مذهبية في العراق، وحاولوا تغيير هويته العربية.
ايها الاصدقاء: في مواجهة هذا الإرث الثقيل الذي اورثنا اياه الاستبداد، والذي يتضاعف خطره بفعل مجموعات متطرفة نبتت في مستنقع الفوضى والعنف والتطرف والفهم الخاطئ للدين، ليس أمامنا الا أن نواجه ارهاب الاستبداد، والارهاب الناتج عنه. لقد قلت سابقا وأكرر إن ارهابين لا يبنيان وطنا، وأضيف أن ارهابين لا يمكن ان يكونا عنوانا لهذه المنطقة من العالم. فأهل الاعتدال من كل الطوائف هم الأكثرية، وعلى عاتقهم محاربة ثقافة الموت التي أنتجتها أنظمة الاستبداد، والتي اعطت المنطقة اسوأ نموذج من الارهاب والتطرف المرفوض.
لا داعش ولا أخواتها يمثلون الاسلام. هؤلاء لا يمتون للإسلام بصلة، فلا إسلام متطرف بل إسلام واحد، اسلام الرحمة والاعتدال.اسلام الشورى والديموقراطية. اسلام احترام حرية الانسان والخيار الحر، فلا إكراه في الدين، هذا هو الإسلام . هذا هو اسلامنا وباعتزاز ننتمي اليه. .
ايها الحضور الكريم:
المواجهة مع هؤلاء وأمثالهم يجب أن تقوم وهي بدأت فعلا، على امتداد العالمين العربي والاسلامي، من المملكة العربية السعودية الى مصر وسوريا والعراق ولبنان. فهم وجدوا كتركيبة مشبوهة تشوه صورة الاسلام،و المواجهة معهم تقوم على المشاركة الاسلامية المسيحية، وعلى قاعدة مواجهتهم باعتبارهم جزءا من منظومة الاستبداد.
لا أكثريات ولا أقليات في هذه المنطقة، بل أكثرية واحدة، تحتكم للعقل والاخلاق والدين وللاخوة الانسانية.
نحن نؤمن ان المسيحية اصيلة في هذا الشرق، وهي لا تحتاج الى شهادة من أحد ولا تحتاج الى حماية من احد. من هذه الارض انطلقت الرسالات السماوية، وهذا الوطن سيبقى ارض تفاعل الرسالات.
معوض
كلمة الختام كانت للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي تلاها النائب البطريركي المطران جوزف معوض وجاء فيها:" 1- يسعدني ان احيي جمعية بيت لبنان العالم واشارك بايفاد معاوننا البطريركي ونائبنا العام في اهدن - زغرتا سيادة المطران جوزف معوض واوجه كلمة في هذه الندوة لاطلاق "حملة وثيقة الاعتدال" التي تدعو اليها وتنظمها بمناسبة عيد الجيش.
اني اعرب عن كامل تقديري لهذه المبادرة ذات الابعاد التربوية والاجتماعية والوطنية ويطيب لي ان اوجه تحية اكبار وتهنئة للجيش اللبناني بعيده اصوغها لقائده العماد جان قهوجي واركانه وضباطه وجنوده فننحني امام شهدائه ونقدر تضحياته في سبيل لبنان وحماية كيانه ارضا وشعبا ومؤسسات، نحييه كمدرسة للاعتدال ومكان عيشه وحاميه.
2 - الاعتدال فضيلة انسانية ادبية واحدى الفضائل الاربع المدعوة رئيسة ومحورية الى جانب الفطنة والعدل والقوة وفقا لتعليم الكتاب المقدس في سفر الحكمة (8:7)
الاعتدال فضيلة اي استعداد داخلي عادي وثابت في الانسان لفعل الخير واعطاء افضل ما في قلبه وفكره ونفسه وهو فضيلة انسانية لانها تتميز بالمواقف الراسخة والاستعدادات الثابتة في العقل والارادة التي تنسق افعالنا وتنظم اهواءنا وتقود سلوكنا وهو فضيلة ادبية تمنح التسلط على الذات والفرح وحرية صنع الخير والاخلاقية التي تميز تماما بين الخير والشر وتهيىء قوى الكائن البشري للمشاركة في الحب الالهي (راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1804).
3 - كون الاعتدال من الفضائل الرئيسة الاربع ذات الدور المحوري بحيث تتجمع حولها سائر الفضائل فهو فضيلة اخلاقية تكبح جماح الشهوات والغرائز وتمنح الاتزان في الفكر والعمل والموقف في استعمال خيرات الارض وتحفظ الرغائب في حدود الاستقامة.
الكتاب المقدس يدعو الى فضيلة الاعتدال عندما يقول في سفر يشوع بن سيراخ: لا تتبع هواك وقوتك لسير في شهوات قلبك (5:2) وفي موضوع آخر: "لا تكن تابعا لشهواتك بل اكبح اهواءك"( 18:30).
ويعلم بولس الرسول ان نعمة الله ظهرت، وهي ينبوع الخلاص لجميع الناس. فتعلمنا ان ننبذ الكفر وشهوات الدنيا، لنعيش في هذا الدهر باعتدال وعدل وتقوى. يجمع القديس اغسطينوس الفضائل المحورية الاربع بهذا التعليم" الحياة الصالحة ما هي الا محبة الله بكل القلب وبكل النفس وبكل الفعل. فنحتفظ له بمحبة كاملة بفضيلة الاعتدال، محبة لا يزعزعها سوء بفضيلة القوة، ولا تخضع الا لله بفضيلة العدل، وتسهر على التمييز بين كل الاشياء لكي لا يفاجئها مكر او كذب بفضيلة الفطنة.
4 - اننا نمتدح حقا سعي جمعية بيت لبنان العالم الى وضع وثيقة لبنانية جامعة حول الاعتدال، في كل من مجالات السياسة والاجتماع والثقافة والتربية والاعلام. فلبنان مميز باعتداله، لانه بحكم ميثاق العيش معا بين المسيحيين والمسلمين، اختار نظاما سياسيا ميزته الاعتدال، لانه متوسط بين النظام الديني التيوقراطي، الذي يجمع بين الدين والدولة، وغالبا ما يجنح نحو التشدد والروح الاصولية، وبين النظام العلماني، الذي يفصل تماما بين الدين والدولة، وغالبا ما يجنح نحو التفلت من القيم الدينية والاخلاقية والتراخي فيها كلها. وقد لفت قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في ارشاده الرسولي: " الكنيسة في الشرق الاوسط، شركة وشهادة " الى هاتين الواقعتين في بلدان الشرق الاوسط وهي العلمانية والاصولية. اما لبنان فقد تخطاهما بنظامه السياسي المتوسط وبميثاقه الوطني.
5- تأتي هذه الندوة من اجل حماية الاعتدال في وقتها المناسب، فيما نشهد اليوم في بلدان الشرق الاوسط، ابتعادا ملحوظا عن الاعتدال، بسبب ظهور الحركات والمنظمات الاصولية الاسلامية وتناميها وتقويتها، ونرى ما بلغ اليه مثلا تنظيم داعش، اي الدولة الاسلامية في العراق والشام، في الموصل وتحديدا مع المسيحيين وفي لبنان بسبب التفرد في القرار السياسي وبخاصة في مخالفة الدستور والميثاق وعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وفي سواه من القرارات الوطنية، وفي استعمال السلاح غير الشرعي كما نشهد عندنا الكثير من التفلت من القيم الاخلاقية والانسانية والروحية، ومن ثقافتنا وحضارتنا اللبنانية.
6- اجل، نحن بحاجة الى استعادة الاعتدال الى لبنان الذي اعلن عن نفسه في مقدمة الدستور انه جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وان الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسات الدستورية وان النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها.
7- هذا الاعتدال اللبناني هو الاساس لاعلان تحييده وحياده الايجابي، بمعنى انه لا ينخرط في المحاور الاقليمية والدولية، بل يلتزم قضايا العدالة والسلام وحقوق الانسان، وفي طليعتها القضية الفلسطينية، والشؤون العربية الثقافية والحضارية ومستلزمات ضفة المتوسط الشرقية. كما ان الاعتدال اللبناني اساس لاعلان لبنان رسميا مركزا للحوار بين الاديان والثقافات والحضارات.
واننا، فيما نثني على مبادرة " بيت لبنان العالم " بعقد هذه الندوة لاطلاق " حملة وثيقة الاعتدال " ندعو لها بالنجاح والبلوغ الى نشر ثقافة الاعتدال، والى المحافظة على لبنان كنموذج لهذا الاعتدال.
وختاما إطلقت اغنية " متل الشجر مزروعين " للفنانة هبة طوجي شعر غدي الرحباني موسيقى اسامة الرحباني.
2\8\2014
إرسال تعليق