0
من الواضح ان البطريرك الماروني بشارة الراعي طبع بكركي بطابعه، وأدخل اليها نمطا من السلوك، لم يكن مألوفا في ايام البطريرك السابق نصرالله بطرس صفير، وربما سواه أيضا.
يتميز الراعي بحيوية فائضة، تجعله غزيرا في المواقف، كما في السفرات الخارجية والجولات المناطقية، ما أتاح له ان يكون أقرب الى نبض الشارع، من أسلافه. هو نجح بهذا المعنى في «تأميم» بكركي والتخفيف من «الفوارق الطبقية» بينها وبين رعيتها وبيئتها المسيحية، فلم يعد رأس الكنيسة المارونية أسير «هالة» مفرطة، كانت تجعل الطريق اليه طويلة، ومزروعة بالحواجز.
لكن، في المقابل، تُرتب هذه المواصفات على الراعي كلفة سياسية مرتفعة، إذ ان انغماسه في القضايا الساخنة، واعتماده «لغة صادمة» أحيانا في التعبير عن موقفه منها، أخرجا البطريرك من عباءة «الراعي» التي تتسع للجميع، وجعلاه أقرب الى ان يكون «القطب المسيحي» الخامس.
وقد جاءت المواقف الاخيرة للراعي كي تعزز هذا الانطباع في صفوف بعض الاوساط السياسية، لاسيما بعد دعوته «داعش» الى الحوار والتفاهم، وارتفاع حدة انتقاداته للنواب بسبب عدم تمكنهم بعد من انتحاب رئيس الجمهورية، وصولا الى شكواه الضمنية من أداء الرئيس نبيه بري لعدم مبادرته الى تحديد مواعيد يومية لجلسات الانتخاب.
وإذا كانت مواقف البطريرك قد أثارت في عين التينة امتعاضا «صامتا» حتى الآن، فان رد الفعل اختلف لدى «التيار الحر» الذي لم يتردد بعض نوابه، في انتقاد تصريحات الراعي.
من وجهة نظر بكركي التي يلخصها النائب البطريركي العام المطران سمير مظلوم، «أراد الراعي عبر مخاطبته «داعش» ان يعكس موقفا مبدئيا للكنيسة، وهو انها لا تؤمن بالعنف والقتل بل تبشر بالكلمة وتنادي بالحوار، حتى مع تنظيم مثل «داعش» الذي نرفض اساليبه الارهابية، لكننا في الوقت ذاته لا نخشى من محاورته، فإما ان يقنعنا وإما ان نقنعه».
تدرك بكركي ان طرحها قد لا يكون عمليا في الوقت الحاضر، كما يُستنتج من كلام مظلوم الذي يشير الى ان الراعي يعرف جيدا ان «داعش» غير مستعجل للحوار، وربما ليس مؤهلا لذلك في الاساس، إلا ان البطريرك كان راغبا في ان يُبيّن الفارق الشاسع بين الفكر الإلغائي لهذا التنظيم وطرح الكنيسة القائم على الاعتراف بالآخر حتى لو كان مختلفا في رأيه وعقيدته.
ولعل الجانب الاكثر مدعاة للاستغراب في كلام الراعي قوله بان إنسانية الانسان تشكل المساحة الوحيدة للالتقاء مع «داعش»، وهو استنتاج بدا في غير محله بالنسبة الى الكثيرين، لان السلوك الدموي والهمجي لهذا التنظيم لا يؤشر بتاتا الى ان له علاقة بأي من معاني الانسانية.
يُقر مظلوم بان مقاتلي «داعش» لا يمتون بصلة الى الإنسانية، لافتا الانتباه الى انهم شوهوا أيضا بتصرفاتهم صورة الاسلام الذي يقاتلون باسمه، لكن يبقى اننا وإياهم بشر.. صحيح انهم يرتكبون الخطايا، إلا ان البشرية تجمعنا بهم، وهذا ما قصده الراعي بكلامه.
وإذا كانت تصريحات الراعي قد أوحت بشيء من الضعف في مقاربة ظاهرة «داعش»، فإن مظلوم يرى العكس تماما. برأيه، أظهر البطريرك قدرا كبيرا من القوة عندما قرر ان يواجه السلاح بالكلمة التي تتطلب شجاعة، خصوصا حين يكون خصمها هو من امتلأ قلبه بالبغض والحقد.
تبدو بكركي واثقة في ان «داعش» ليس «محلي الصنع»، بل هو تنظيم مركّب تتشارك في تمويله وتسليحه دول وأجهزة مخابرات، تسعى الى تفتيت المنطقة مذهبيا لإراحة اسرائيل، بحيث لا تظل جسما غريبا في المنطقة.
وانطلاقا من هذه المقاربة، يعتبر مظلوم ان الجهات الاجنبية التي تدعم «داعش» هي تلك الساعية الى تشويه صورة الاسلام امام الرأي العام الدولي، وإنتاج دويلات مذهبية متصارعة في المنطقة، الامر الذي من شأنه ان يبرر لاسرائيل قيام دولة يهودية صافية، خالية من الفلسطينيين.
ولمزيد من التحديد، يتهم مظلوم الغرب بتغليب مصلحة اسرائيل على ما عداها وبالمشاركة في تنفيذ المخطط الصهيوني الهادف الى تفتيت العالم العربي، والذي جاء مشروع «داعش» ليقدم له خدمة جليلة.
ويتوقف مظلوم عند تشجيع فرنسا مسيحييي الموصل على الهجرة اليها وكأن المطلوب تفريغ المنطقة من مسيحييها، كما يشير الى ان اللوبي الصهيوني يسيطر على أغلب مفاتيح القرار في الولايات المتحدة، ويستخدمها بالطريقة التي تناسب مصالح اسرائيل.
أما في ما خص الحملة العنيفة التي يشنها الراعي على النواب، لاسيما أولئك الذين يقاطعون جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، فان مظلوم يضعها في إطار صرخة احتجاجية من الراعي، ردا على التملص من تنفيذ الاتفاق الذي تم بين الاقطاب المسيحيين الاربعة برعاية بكركي حول كيفية التعامل مع الاستحقاق الرئاسي.
يروي مظلوم ان الاجتماعات التي عقدت بين الاقطاب الاربعة بحضور الراعي، قبل انتهاء المهلة الدستورية للانتخاب، أفضت الى اتفاق على النقاط الآتية:
ـ حق الترشح لكل من الاقطاب الاربعة وعدم جواز وضع فيتو من أي منهم على الآخر.
ـ ضرورة تأمين نصاب جلسة الانتخاب.
ـ إذا لم يحصل أي مرشح على ثلثي الاصوات في الدورة الاولى او على النصف + واحد في الدورة الثانية، يلتقي الاقطاب الاربعة مجددا مع البطريرك ويبحثون في الخيارات البديلة، فإما ان يتفاهموا على دعم واحد منهم، وإما ان يتوافقوا على دعم شخصية أخرى من خارج الانقسامات القائمة.
ويلفت مظلوم الانتباه الى انه بعد مرور 9 جلسات انتخابية، لم يتم التقيد بأي من بنود هذا الاتفاق، ما أثار غضب البطريرك الذي يرفض العبث بمصير الرئاسة الاولى وجعلها رهينة الحسابات الشخصية.
ويشدد على ان البطريرك لا يلوم فقط التيار الوطني الحر والمتحالفين معه على الشغور بفعل مقاطعة الجلسات، وإنما يحمّل أيضا الفريق الآخر جزءا من المسؤولية نتيجة إصراره على ترشيح جعجع في حين المطلوب من هذا الفريق ان يتحرر من تلك العقدة وان يرشح شخصا آخر لفتح ابواب الحوار مع الطرف المقابل.

عماد مرمل - السفير 31\7\2014

إرسال تعليق

 
Top