نعرف أولئك الذين تأخذهم العزة بالإثم. وها نحن نعيش عصر المأخوذين بعزة العمالة والخيانة.
ومؤلف هذا الكتاب الصادر بالفرنسية واحد منهم. إنه «جاي جاي» للمعارف، وللبعيدين فإن اسمه جيهانشاه، حفيد شاهبور بختيار، آخر رئيس وزراء في عهد الشاه. وعنوان الكتاب: «أنا إيراني عميل للـ(سي آي إيه) و(الموساد)». أي خبطة إعلامية أكبر من هذي؟
إن الكتب التي تتصدر قوائم المبيعات في الغرب هي تلك التي يفتح فيها الأبناء خزائن الأسرار العائلية وينشرون غسيلهم على الملأ. رجل ولد من علاقة بين فرنسية وجندي ألماني أثناء الاحتلال النازي لفرنسا. شقيقة لرئيس وزراء سابق ساعدت والدتها المسنة على «الموت الرحيم»، أي الانتحار، خلافا للقانون. شرطي تواطأ مع عصابات المخدرات. وتكاد أرفف المكتبات تضيق بهذا النوع من الاعترافات التي يؤكد أصحابها أنها «ثيرابي»، وسيلة علاجية من أشباح الماضي.
لا أشباح في حكاية حفيد بختيار، بل الكثير من التوابل ومثيرات الشهية. وتبعا لهذه الوصفة، صار المؤلف ضيفا مطلوبا من برامج الإذاعة والتلفزيون ومادة تفرد لها عناوين الصحف. فهو جاسوس عابر للقارات، ولد في أحضان العز والثروة، ودرس في أرقى المدارس الداخلية في بريطانيا قبل أن ينهار عالمه الصغير وهو في الرابعة عشرة من العمر، مع عودة الخميني إلى إيران. لقد عمل مع مصارف عالمية ومؤسسات كبرى قبل أن يعود، بدوره، إلى طهران بجواز سفر اشتراه من موظف مرتش. وهناك عمل في المقاولات ووطد علاقاته بعدد من مراكز السلطة وجمع معلومات خطيرة، يقول إنه تطوع لتقديمها للمخابرات الإسرائيلية. وحجته في الخيانة جاهزة: الانتقام لمقتل جده الذي اغتاله، في ضاحية باريسية عام 1991، فريق ثلاثي أرسلته إيران لهذه المهمة.
أتطلع في صورة الغلاف وأرى النسر الشاهنشاهي يفرد جناحيه فوق الشمعدان اليهودي ذي الفروع المتوازية. أما ملامح المؤلف، فإنها تشبه ملامح الملايين من رجال منطقتنا؛ البشرة السمراء، والشعر الأسود السرح، والسكسوكة التي تسلل إليها البياض، والنظرة المخفية وراء عوينات شمسية داكنة. بل إنني أرى فيه شبها من أكثر من واحد من الأصدقاء أو الزملاء. ما الذي يميز العميل عن غيره؟ وهل أتوقع أن أتعرف عليه من دمغة خاصة على الجبين، مثلا؟
لقد حسم نجل ابنة بختيار أمره وقرر أن يتقاعد وأن ينشر مغامراته قبل التواري في بقعة ما من أميركا الجنوبية، القارة النائية الحنون التي كانت ملجأ للفارين من جرائم ضد الإنسانية. والمؤلف يعرف أن كتابه سيثير عليه نقمة الأجهزة الإيرانية وقد تطارده للنيل منه. لكنه يتبجح بأنه لا يخاف الموت وقد واجهه أكثر من مرة وكان «في جفن الردى وهو نائم»، على حد قول شاعرنا المتنبي. بل يمضي صاحب الكتاب إلى حد الاعتراف بأنه ارتكب جريمة قتل في إيران. لقد أخذ سكينا وتمرن على قطع من اللحم الحيواني ثم ذهب ليذبح رجلا قيل إنه كان جلادا في سجون الثورة.
في سنوات الصبا الأول، كنا نحاذر التلفظ بالأحرف الثلاثة الدالة على وكالة المخابرات المركزية لئلا يتلوث اللسان. أما اليوم، فإن زعماء الكتل السياسية يتسابقون على خطب ودها وصار تلقي الأموال منها ومن مثيلاتها مسألة عادية. وقد قالها بدر شاكر السياب قبل نصف قرن: «إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون... أيخون إنسان بلاده؟!». وسيبقى السؤال صالحا لقرون مقبلة.
ومؤلف هذا الكتاب الصادر بالفرنسية واحد منهم. إنه «جاي جاي» للمعارف، وللبعيدين فإن اسمه جيهانشاه، حفيد شاهبور بختيار، آخر رئيس وزراء في عهد الشاه. وعنوان الكتاب: «أنا إيراني عميل للـ(سي آي إيه) و(الموساد)». أي خبطة إعلامية أكبر من هذي؟
إن الكتب التي تتصدر قوائم المبيعات في الغرب هي تلك التي يفتح فيها الأبناء خزائن الأسرار العائلية وينشرون غسيلهم على الملأ. رجل ولد من علاقة بين فرنسية وجندي ألماني أثناء الاحتلال النازي لفرنسا. شقيقة لرئيس وزراء سابق ساعدت والدتها المسنة على «الموت الرحيم»، أي الانتحار، خلافا للقانون. شرطي تواطأ مع عصابات المخدرات. وتكاد أرفف المكتبات تضيق بهذا النوع من الاعترافات التي يؤكد أصحابها أنها «ثيرابي»، وسيلة علاجية من أشباح الماضي.
لا أشباح في حكاية حفيد بختيار، بل الكثير من التوابل ومثيرات الشهية. وتبعا لهذه الوصفة، صار المؤلف ضيفا مطلوبا من برامج الإذاعة والتلفزيون ومادة تفرد لها عناوين الصحف. فهو جاسوس عابر للقارات، ولد في أحضان العز والثروة، ودرس في أرقى المدارس الداخلية في بريطانيا قبل أن ينهار عالمه الصغير وهو في الرابعة عشرة من العمر، مع عودة الخميني إلى إيران. لقد عمل مع مصارف عالمية ومؤسسات كبرى قبل أن يعود، بدوره، إلى طهران بجواز سفر اشتراه من موظف مرتش. وهناك عمل في المقاولات ووطد علاقاته بعدد من مراكز السلطة وجمع معلومات خطيرة، يقول إنه تطوع لتقديمها للمخابرات الإسرائيلية. وحجته في الخيانة جاهزة: الانتقام لمقتل جده الذي اغتاله، في ضاحية باريسية عام 1991، فريق ثلاثي أرسلته إيران لهذه المهمة.
أتطلع في صورة الغلاف وأرى النسر الشاهنشاهي يفرد جناحيه فوق الشمعدان اليهودي ذي الفروع المتوازية. أما ملامح المؤلف، فإنها تشبه ملامح الملايين من رجال منطقتنا؛ البشرة السمراء، والشعر الأسود السرح، والسكسوكة التي تسلل إليها البياض، والنظرة المخفية وراء عوينات شمسية داكنة. بل إنني أرى فيه شبها من أكثر من واحد من الأصدقاء أو الزملاء. ما الذي يميز العميل عن غيره؟ وهل أتوقع أن أتعرف عليه من دمغة خاصة على الجبين، مثلا؟
لقد حسم نجل ابنة بختيار أمره وقرر أن يتقاعد وأن ينشر مغامراته قبل التواري في بقعة ما من أميركا الجنوبية، القارة النائية الحنون التي كانت ملجأ للفارين من جرائم ضد الإنسانية. والمؤلف يعرف أن كتابه سيثير عليه نقمة الأجهزة الإيرانية وقد تطارده للنيل منه. لكنه يتبجح بأنه لا يخاف الموت وقد واجهه أكثر من مرة وكان «في جفن الردى وهو نائم»، على حد قول شاعرنا المتنبي. بل يمضي صاحب الكتاب إلى حد الاعتراف بأنه ارتكب جريمة قتل في إيران. لقد أخذ سكينا وتمرن على قطع من اللحم الحيواني ثم ذهب ليذبح رجلا قيل إنه كان جلادا في سجون الثورة.
في سنوات الصبا الأول، كنا نحاذر التلفظ بالأحرف الثلاثة الدالة على وكالة المخابرات المركزية لئلا يتلوث اللسان. أما اليوم، فإن زعماء الكتل السياسية يتسابقون على خطب ودها وصار تلقي الأموال منها ومن مثيلاتها مسألة عادية. وقد قالها بدر شاكر السياب قبل نصف قرن: «إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون... أيخون إنسان بلاده؟!». وسيبقى السؤال صالحا لقرون مقبلة.
إنعام كجه جي - الشرق الاوسط 8\6\2014
إرسال تعليق