0
كل شيء يبدأ بالعقل او الفكر، هي القاعدة الأساسية في علم سيكولوجيا التصرّف. إنَّ تصرُّف أيّ شخص هو ناجم عن فكرة تتحوِّل الى شعور ومن ثم تنتقل الى مرحلة الفعل أوالتصرّف. 
في السياسة، الأمر لا يختلف وتنطبق القاعدة ذاتها إذا أردنا تحليل سلوكيات السياسيين وما خلفها. فلا يعجبَنَّ أحدٌ إن رأى مثلاً بعض السياسيين يشتم او يتفوَّه بكلامٍ نابٍ، من الزنّار وبالنازل، لأن هذا السلوك هو نتيجة لأفكار معينة تعشّش بفكره أنه الأقوى ضمن غرور العظمة الذي يتملَّكُهُ مما يجعلهُ يظن أنهُ بهذه الطريقة يستطيع التغلُّب على الخصم وإسكاته. 
ومن المعروف، أنك إذا أردت أن تعرف حقيقة الأشخاص ما عليك سوى إغضابهم وترى كيفية تصرفهم في أوقات الغيظ. عندها يتوقف سيطرة الوعي على ما يختلجُ في دواخلهم ويُرفع اللجم العاقل عن الأحاسيس ليتفجّر المستور. 
من إمتلك من السياسيين الرؤية الثاقبة هو الذي يُبقى أفكاره ومشاعره وتصرفاته، هذا الثالوث المترابط لسيكولوجيا النفس البشرية، في نطاق التناغم والإنسجام. ينطلق من أفكار صافية إيجابية فيها من الحكمة والصبر والحنكة الكثير لكي يشحن نفسهُ بالمشاعر العاكسة لتلك الأفكار فتأتي تصرُّفاته "عاقلة - موزونة" ومقنعة بصدقها ونبلها. 
أنا هنا بالطبع لا أقصد في كلامي سياسياً معيناً، فلكلٍ هفواته وشطحاته وساعاته من التجلي والتخلي. 
ومن البديهي القول هنا أنه من أصول السياسة الحقيقية وصلبها هو أدب التخاطب، فإحترام الخصم والعدو هي من شيم الكرام فلا يجوز نعتهُ نعوتاً مخجلة إنطلاقاً من مبدأ الإحترام للذات أولاً، فكيف يُعقل إن كنتَ تحترم نفسك وتقدرها أن يكون خصمك كذا وكذا (لن أردّد هنا بعض النعوت المخجلة والعبارات النابية التي سمعناها على ألسنة الكثيرين من السياسيين اللبنانيين والتي تابعها الشعب أحياناً بإستنكار وأحياناً أخرى بإستحسان حسب هواه السياسي ودرجة الحقن الذي شُحِنَ به). 
وقد دأب العرب منذ فجر التاريخ وحتى أثناء الحروب على إحترام أعدائهم ولعل مقولة "العفو عند المقدرة" تشكّل المثال الأبهى عن رقي النفس ورفعتها. لم نسمع يوماً عن رجال الدولة العظام الذين مروا في تاريخ لبنان أمثال كمال جنبلاط وفؤاد شهاب وريمون إده ورشيد كرامي والسياسيين الكبار من آل الصلح وسلام أنهم تعدوا الحدود في أدب الحوار والتخاطب ورقي التعابير. 
لم يصرّحوا يوماً بأيِّ كلام نابٍ وقد حافظوا في أحلك الظروف وأصعبها على أدب السياسة وشفافية الطروحات وحضارية التصرّف. سياسة الإقناع هي الأساس في الطروحات والصوت الأعلى هو الصوت الهادىء العاقل. والباطنية في السياسة لا تنفع، فالناس بإمكانها في كثير من الأحيان إكتشاف نوايا السياسي ومصداقيته وصدقه. 
إن السياسي الناجح هو السياسي المتَّزن الذي يتمتّع بأفكار جميلة ومفيدة للناس والمجتمع وبمشاعر وطنية وإنسانية عالية تبعد عن الأنانية والمصالح الشخصية وبالتالي بلباقة ورقي وهدوء في التصرّف. 
كم من خطيبٍ بليغ على المنبر اكتشف العامة رياءهُ وصنّفوه بوقاً مأجوراً بحيث فقد مصداقيته في القلوب وعلى الشاشات والأمثلة كثيرة ومعروفة. العمل السياسي هو إستمرارية ككل شيء في هذه الحياة، فلا يهم أن يكسب السياسي جولة ويخسر جولات بفقدانه صدقيته وإنكشافه عاجلاً أم آجلاً في عيون الناس: لا يكفي فقط أن يحبّك مناصريك، يجب أن يحترمكَ الجميع ويثقوا بصوابية أفكارك خاصةً إن كنت تطمح لتبوأ المراكز الأعلى في الحكم. 
ما كانت يوماً الوسطية خياراً خاسراً وإنما التطرّف، ودوماً الغلبة للإعتدال والكلمة الجامعة والنطرة الرؤيوية الثاقبة. كل الدكتاتوريات بنت أمجادها على أفكار مرضيّة واهمة أن سلطة القوة هي الأساس وعلى مشاعر البغضاء والإحتقار لطاقة الشعوب فكان سلوكيات البطش والإذلال والتهميش المحرّك الأساس لثورات الشعوب. 
الربيع العربي هو ربيعٌ شريفٌ ناصعٌ نقيٌّ نبيل بالأفكار والخلفيات ولكنه أستغلَّ من الدول الإقليمية والغربية لحرفهِ عن مساره وإحباطه وإفشال نتائجه. في سوريا تحوَّل الحراك الشعبي الى حربٍ أهلية طائفية كما في العراق وأماكن أخرى. التجربة التونسية في طريقها الى النجاح إن إستمرّ العقل مسيطراً وبقي السياسيون في هذا البلد يكبحون طموحاتهم الشخصية من أجل المصلحة الوطنية. مصر إستعادت زمام المبادرة ونجحت الى حدّ معيَّن في عدم الإنزلاق الى الفوضى ولكن ينتظرها الكثير لتكريس الديمقراطية والإنماء والتطوير. 
في لبنان، ننتظر العقلاء لصون المؤسسات او ما تبقى منها والعمل على ملء الفراغ في سدة الرئاسة بالشخصية المناسبة، القوية بحكمتها ورجاحة عقلها وإعتدالها. 
إن ظهور التطرّف في مجتماعاتنا ليس سوى نتيجة حتمية للإقصاء والفقر والتهميش والجهل والفشل في إيصال السياسيين النخبة الى مراكز القيادة والقرار. 
لا ديمقراطية دون نضج الشعوب والتخلي عن العصبيات المذهبية والطائفية والعائلية. الحكماء والعقلاء وأصحاب العقول النيّرة من يجب أن يحكموا بلداننا وليس المتهورين الفاشلين الفاشيين. 

في سيكولوجيا السياسة، النجاح للأعقل! 

د. وائل كرامه - منبر "ليبانون تايم" 30\6\2014


إرسال تعليق

 
Top