0
يكثر الحديث عن فرصة مميزة انبثقت من رحم العراق الممزّق لربما تؤدي الى تفاهمات اقليمية ودولية جديدة نوعياً. البعض يتحدث عن حلول موعد «الصفقة الكبرى» Grand Bargain. والبعض الآخر يدعو الى التأقلم مع الواقع على الأرض والإقرار رسمياً بفكرة المقاطعات والانتقال من «الدولة البسيطة الى الدولة المركّبة». انما هناك أيضاً من يقرأ الحدث العراقي بأنه بداية الانهيار والتقسيم والشرذمة والحروب المذهبية الدموية في كامل المنطقة العربية. ما يحدث في العراق وسورية بالغ الجدة والخطورة ولا مجال لارتكاب المزيد من الأخطاء لأنها ستكون مدمِّرة. حان الوقت لمقاربة جديدة على الصعيد الإقليمي بالذات في العلاقة السعودية – الإيرانية، وعلى الصعيد الدولي سيما لجهة الانخراط الأميركي بدلاً من التنصّل. والرئيس باراك أوباما بدأ بتصحيح سياساته انما الخوف من تراجعه ما زال يلازمه – أقله من وجهة نظر مراقبيه. القيادة الإيرانية تعمل على توظيف الحدث العراقي لمصلحتها بالذات في اطار العلاقة الثنائية الإيرانية – الأميركية. القيادة السعودية ترى ان التنبه الأميركي لابعاد وافرازات الحدث العراقي يفتح الباب على حديث جديد بين البلدين حول العراق وسورية وأيضاً حول متطلبات اصلاح العلاقة السعودية – الإيرانية. أما روسيا، فإنها تراقب بقلق التطورات في الساحة العراقية خشية ان تنعكس سلباً على «انتصاراتها» في سورية، ولذلك انها تعمل على تقزيم الحدث العراقي واختزاله في خانة الإرهاب، تماماً كما فعلت بالحدث السوري. الفارق، انها فاعل مباشر بمساهمات عسكرية في الحرب الأهلية السورية حيث روسيا في تحالف عضوي مع النظام الحاكم والرئيس بشار الأسد. أما في العراق، فإنها لاعب هامشي ومهمش.

القاسم المشترك بين جميع هذه الأطراف هو انها كلها مقتنعة بأن تنظيم «داعش» يشكل خطراً على كل منها وانه تنظيم ارهابي همجي ايديولوجيته التدمير وإقامة «الإمارة» الإسلامية لتحل مكان أي حكم منفتح على الآخرين. القاسم المشترك الآخر هو ان كل هذه الأطراف تدرك تماماً ان ما حصل ويحصل في العراق هو انتفاضة ضد حكم رئيس الحكومة نوري المالكي الذي أتت به الولايات المتحدة وإيران الى السلطة، وان «داعش» ليس سوى تنظيم واحد بين أكثر من عشرة تنظيمات شاركت في الانتفاضة.

كل الأطراف تتفق على عدم السماح لـ «داعش» بتحقيق انتصارات تمكنه من ان يقيم تلك «الإمارة» التي تريدها. الفارق هو ان البعض يريد الحاق الهزيمة الآنية الفورية بـ «داعش» كشرط مسبق لعملية سياسية ذات شمولية، والبعض الآخر يرى ان الحل الأمني ليس ممكناً من دون عملية سياسية فورية خالية من الإقصاء والتهميش والطائفية. «داعش»، في هذا الإطار، ليس أبداً جزءاً من الحل السياسي في ذهن أي طرف كان. انه جزء من الحل الأمني الذي يتم بحثه للقضاء على «داعش» وإلحاق الهزيمة به كتنظيم ارهابي.

المشكلة ان «داعش» كان واقعياً الصف الأمامي في الانتفاضة التي غيّرت معادلات موازين القوى الداخلية في العراق، لكنه ليس سوى صف واحد في صفوف أمامية قتالية أخرى في انتفاضة السنّة ضد اقصاء المالكي لهم. واقعياً، كسر «داعش» الطوق الأول وخلق ديناميكية جديدة في وجه الاستفراد الإيراني بإملاء الحكم في العراق عبر نوري المالكي. انما خلف الجبهة الأمامية لـ «داعش»، توجد جبهات متأهبة، بل انها تتداخل معه حالياً على رغم حتمية الخلافات الدموية الآتية بين صفوف تلك التنظيمات المتضاربة الأهداف والإيديولوجيات.

إذاً، أي حديث عن حسم أمني ضد «داعش» يعني اجراءات عسكرية تتطلب حتماً عمليات جوية لا بد أن يكون للولايات المتحدة دور فيها عبر الطائرات بلا طيار Drones وعبر الطائرات الاستطلاعية الاستخبارية وبمساعدة القوات الخاصة التي أرسلها الرئيس أوباما الى العراق لتقديم المساعدة وليس لخوض المعارك مباشرة.

الحكومة العراقية طلبت من الأمين العام للأمم المتحدة تأمين الغطاء للمساعدة الدولية – والمقصود المساعدة الأميركية على أساس اتفاقات ثنائية سابقة بين البلدين وعلى أساس ان القدرات العسكرية العراقية محدودة وليس لدى العراق طائرات مقاتلة قادرة على مثل هذا التحرك العسكري.

وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري ركّز على مسألة «الدعم الدولي باعتباره مفتاحاً أساسياً» وقال ان «تطورات مهمة آتية في الفترة المقبلة». ركز على ان المطلوب هو «وقفة ضد الإرهاب وليس مع حكومة المالكي أو مع الشيعة». قال ان خطر «داعش» آتٍ على «الجميع»، وان الحل الأمني «ليس ممكناً من دون عملية سياسية ولا بد من السير بالاتجاهين».

إيران، بحسب المصادر، مستعدة لإقناع المالكي بالتنحي انما ليس قبل اعادة الأمور الى نصابها قبل استيلاء أقطاب الانتفاضة العراقية على المواقع والمعابر وقبل القضاء على «داعش» عبر عمليات جوية. طهران تريد الغاء ما حدث ميدانياً كشرط مسبق للموافقة على تنحي المالكي. والقيادة الإيرانية ترى ان هناك فرصة ذهبية مُتاحة لها الآن لصياغة «الصفقة الكبرى» الثنائية مع الولايات المتحدة لمحاربة «داعش» وأمثالها بدءاً من العراق.

وللتأكيد، ان طهران قد تكون جاهزة لإخراج يليق بالمالكي لتنحيه عن السلطة وفي جيبها بديل عنه لا يقل ولاءً لها. لكن طهران رافضة قطعاً أي كلام يصب في خانة الاستغناء عن بشار الأسد في أية صفقة كانت – صفقة كبرى أو صغرى. وللتأكيد أيضاً، لا تشعر طهران بأنها تحت أية ضغوط أميركية في ذلك الاتجاه. أي انها لم تسمع من المسؤولين الأميركيين حول مصير الأسد ما سمعته منهم حول مصير المالكي.

الرابط الوحيد بين العراق وسورية في ذهن الإيرانيين هو القضاء على «داعش» وأمثاله في البلدين، وإلغاء أية انتصارات ميدانية لـ «داعش» في العراق وسورية، وقطع الطريق على انتفاضة سورية مماثلة للانتفاضة العراقية – أي لجوء السنّة الى التحالف مع الشيطان للخروج من الوضع الراهن.

باطنياً، تدرك القيادات الإيرانية صعوبة تحقيق ما تسوّقه على أنه فرصة لصالحها. فهي، واقعياً وعملياً، ليست جاهزة لـ «الصفقة الكبرى» بعد لأن تلك التسوية تتطلب تنازلات جدية من قِبل ايران كما من قِبل السعودية. اللاعب الوحيد الذي يمكن له ان يدفع ايران وكذلك السعودية نحو تلك التسوية الكبرى هو الولايات المتحدة. ولعل الفرصة الذهبية مُتاحة حقاً إذا قررت ادارة أوباما ان الوقت حان لمقاربة شمولية وشاملة لإيجاد حلول جدية ودائمة في كل من العراق وسورية. وهذا يتطلب استراتيجية متماسكة ليس واضحاً انها في حوزة أوباما وفريقه.

وزير الخارجية جون كيري يجول، كعادته، ويستطلع ويسعى ويحلل ويتمنى. حان الوقت لرئيسه أن يعززه باستراتيجية اقدام واضحة مع كل من الطرفين السعودي والإيراني. فلقد حان حقاً وقت المقاربة الجديدة الصارمة والعازمة التي تنطوي على شق آفاق وحدود الأدوار الإيرانية في العراق وسورية ولبنان وعلى شق الحاق الهزيمة بالإرهاب السلفي والذي يتطلب حتماً شراكة سنّية قبل أن يتطلب حروباً مذهبية.

أما إذا كانت الأولوية الأميركية التوصل الى الاتفاق النووي مع ايران بأي ثمن كان، على ادارة أوباما ان تلوم نفسها فقط في حال انهيار العراق وفي حال نمو الإرهاب السلفي ليكون بديل الأمر الواقع الوحيد أمام التقاعس الأميركي عن مواجهة ايران بعواقب سياساتها وتدخلها العسكري في دولتين عربيتين رئيسيتين.

هذا وقت الاستفادة من الفرصة المواتية للتقدم بطروحات واعية الى مصير دول المنطقة. ولن يجدي الإصرار على استبعاد ايران من التفاهمات الإقليمية والدولية. فإيران باتت فاعلاً أساسياً في العراق وفي سورية وفي لبنان وأي حلول في هذه البلدان يتطلب مفاوضات معها.

ان «داعش» وأمثال هذا التنظيم تشكل تهديداً لاستقرار دول المنطقة. والقرارات التي اتخذتها السعودية للجم مواطنيها عن العمل في التنظيمات المتطرفة ولمكافحة الإرهاب قرارات مهمة وضرورية. وعلى الرياض ألاّ تترك الساحة للمزاعم الإيرانية بأنها الشريك الطبيعي للولايات المتحدة في مكافحة «داعش» وأخواته، وألا تسمح لروسيا بل وللولايات المتحدة أيضاً أن تختزل العراق وسورية الى مجرد ارهاب. ومن الأهمية القصوى للسعودية ان تبذل كل جهد ممكن لتحصين لبنان من السقوط في أحضان انتقام «داعش» من «حزب الله».

إعلامياً، تسعى الجمهورية الإسلامية الإيرانية الى الظهور بأنها الشريك الطبيعي للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب وهي تتقدم بطروحات قديمة – جديدة على الإعلام والرأي العام الأميركي – تحت عنوان الاستعداد للتعاون الاقليمي وإنشاء منظومة أمنية جديدة تضم دول مجلس التعاون الخليجي والعراق وإيران.

دول مجلس التعاون تدرك تماماً ان تلك البدعة الإيرانية هدفها تحطيم وتفكيك مجلس التعاون واستبداله بمنظمة أمنية تهيمن عليها طهران التي لم تنسَ أبداً أن دول مجلس التعاون الست دعمت العراق في حربه ضد ايران في عهد صدام حسين ومعها الولايات المتحدة. وهي تنفي في باطنها ان أحد أهداف دعم مجلس التعاون للعراق حينها هو صد تصدير ايران لثورة الملالي لفرض نظام الحكم الإيراني على الدول المجاورة.

المهم للسعودية هو ان تتقدم بطرح مقابل الطرح الإيراني الذي يتلحف المنطق ويبدو تهادنياً. فإذا كان الطرح مرفوضاً، لتتقدم الرياض بطرح مضاد. وإذا كان مقبولاً بتحفظات أو بشروط، فلتوضح تلك المعطيات بشمولية. المهم ألا تغيب الأطروحات السعودية التهادنية والا تبدو غائبة عن ساحة المبادرات.

راغدة درغام - الحياة 27\6\2014

إرسال تعليق

 
Top