تحاول بكركي اليوم خلق حركة للدفع في اتجاه انتخاب رئيس للجمهورية. لكن المشكلة أن كلام الصرح لا ارتدادات له، ما دام قد حصر الموارنة بين أربعة قادة، لكل منهم حساباته الرئاسية.
رغم انشغال لبنان، في الايام الاخيرة، بالتفجيرات الامنية وملاحقة الشبكات والخلايا الارهابية، تبقى أزمة الشغور الرئاسي أولوية، وخصوصاً في ظل الهواجس التي تحكم المسيحيين والموارنة تحديداً، والتخوف من تحول الشغور فراغاً، واستكمال القوى السياسية عمل الحكومة ومجلس النواب وكأن شيئاً لم يكن. ورغم أن مفتاح حل هذه الأزمة إقليمي ودولي، إلا أن معالجة الموارنة ـــ ولا سيما بكركي ـــ لملف بهذه الخطورة والحساسية، طرحت ولا تزال سلسلة تساؤلات حول الأسلوب الذي اعتمده البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في معالجة هذا المأزق.
في عز الهيمنة السورية، وفي ظل الظروف السيئة والصعبة التي كان يمر بها البلد، حدد البطريرك الماروني حينها الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير رؤية شاملة للوضع اللبناني. كانت رؤيته واضحة وصلبة ومتواصلة، لم تشهد تقلبات ولا صعوداً ونزولاً في مواقفه. ورغم أنها لاقت تأييداً من بعض اللبنانيين ورفضاً من البعض الآخر، ظلت في إطار رعاية مصلحة لبنان والمسيحيين. وأدى هذا المسار بعد 1990، حين تكرس سوء تطبيق الطائف وبعد الانسحاب الاسرائيلي، إلى إعلان النداء الاول للمطارنة الموارنة.
فتح هذا النداء الباب أمام مجموعة من الشخصيات المسيحية التي تنادت للتجمع حول بكركي ومواقفها في لقاء «قرنة شهوان». لم تستدع بكركي حينها أحداً، ولم تدعُ هذه الشخصيات الى اللقاء عندها، بل جاء اللقاء بمبادرة من هؤلاء الاطراف، وجميعهم من العاملين في الشأن السياسي حزبيين وغير حزبيين. لم تكن قرنة شهوان تجمعاً للقوى السياسية التقليدية ولا للأحزاب المسيحية، وإن وجد فيها حزبيون ممثلون لأحزابهم أسوة بالأعضاء الآخرين. لم تكن بهذا المعنى «جبهة لبنانية»، لكن أهميتها كمنت في أن الفكرة التي أطلقتها بكركي للبنان وحريته وسيادته، جمعت السياسي المسيحي والمثقف والصحافي والحزبي، ومن ثم الرئيس والنائب، في بوتقة واحدة، وظلت بكركي فوق هؤلاء جميعاً. لذا أخذت قرنة شهوان أهميتها في الحياة السياسية المسيحية، لأنها كسرت القوالب الحزبية والعائلية، ووسعت إطار العمل السياسي المسيحي، وتمكنت من أن تكون رأس حربة في مواجهة «سلطة الوصاية السورية»، وظلت تمثل المسيحيين، ولو خرج منها التيار الوطني الحر في حينه، الى حد أن بكركي تمكنت، قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، من فرض قانون الانتخاب القائم على أساس القضاء، والذي كان حينها يمثّل حلماً بالنسبة الى المسيحيين في ظل الوجود السوري.
ماذا تغيّر منذ ذلك الوقت؟ مشكلة بكركي الحالية اليوم قد لا تكون في النيات، بل في الأفعال، إذ إن الراعي انطلق من الوجهة المعاكسة. فبدل أن يطلق الافكار الوطنية والمسيحية العامة، التي تعيد استجلاب المسيحيين حولها، خطا الخطوة الناقصة الاولى في إطلاقه شعارات كبيرة، ودعا الموارنة الى التجمع حولها وتبنّيها، لتصبح بكركي واحداً من اللاعبين لا فوقهم. لكن هذه الشعارات لم تسلك سبيلها الى التنفيذ، رغم أن الظروف السياسية اليوم مختلفة تماماً عن مرحلة صفير وقرنة شهوان؛ فلا الجيش السوري في لبنان، ولا يوجد أي ضغط أمني أو ملاحقات أو نفي أو سجن أو إبعاد. والخطوة الناقصة الثانية هي أنه عمد الى تقزيم الاطار المسيحي السياسي وحصر الموارنة والمسيحيين في أربع زعامات فحسب، فأصبح هو أسير هؤلاء، ولكل منهم حساباته الرئاسية الخاصة.
هنا كان لبّ المشكلة، رغم أن القادة الاربعة لهم تمثيلهم الشرعي والمسيحي غير المشكوك فيه، إذ لم تكن فكرة المصالحة المارونية التي قام بها الراعي هي الخطأ، بل العكس تماماً، فهي كانت مطلوبة واستجاب لها القادة الاربعة. لكن المشكلة هي في أن الحصرية التي أعطاها الراعي لهؤلاء برزت خطورتها في موضوع الرئاسة، ترشيحاً واقتراعاً ومداولات، والتي أوصلت الموارنة الى النتيجة نفسها التي وصلوا اليها في قانون الانتخاب الذي ناقشه أيضاً ممثلو هؤلاء القادة.
والمشكلة التي تفاقمت هي أن الشعارات الكبيرة التي رفعها الراعي حول مواضيع أساسية انهارت كلها تدريجاً: معركة طويلة لإنتاج قانون الانتخاب، انتهت بعد أشهر طويلة الى المشروع الارثوذكسي الكارثي الذي أدى في نهاية المطاف الى التمديد للمجلس النيابي، ثم الحملة المسبقة لانتخاب رئيس للجمهورية قبل 25 أيار التي انتهت الى الشغور وتكريسه (هذا في حال أهملنا السعي البطريركي للتمديد للرئيس ميشال سليمان). ومن عناوين كبيرة وإطلاق توصيفات على الرئيس المطلوب والقوي وغيرهما من الاوصاف، والحديث عن ضغط شعبي واستطلاعات الرأي ولوائح بطريركية ومرشحين مفضلين، تحولت حملة بكركي بعد 25 أيار الى محاولة ملء الشغور بأي ثمن، فبدت في حركتها الاخيرة التي همدت، محبطة منكفئة، لا قدرة لها إلا على تكرار لازمة الدعوة الى انتخاب رئيس للجمهورية.
اخطأت بكركي في أنها أعطت منذ البدء حصرية للقادة الموارنة في تقرير مصير رئاسة الجمهورية، فيما لهم، بطبيعة الحال، حساباتهم السياسية المختلفة عن حسابات الصرح والمختلف بعضها عن حسابات البعض الآخر. فأصبحت بكركي بذلك أسيرة النزاعات الداخلية، وبدل أن تكون مع هؤلاء في مواجهة مفتوحة مع الاطراف الآخرين الذين يعرقلون إجراء الانتخابات، انتقلت المواجهة الى هذا «المجلس السياسي» الذي أقامه الراعي للموارنة، فدخلت معه الرئاسة في عنق الزجاجة، ودخل البلد في أزمة طويلة.
أثبتت المواجهة الصامتة أولاً والمعلنة بين الراعي ورئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون، كأحد الامثلة عن سلبيات هذه الحصرية، أن رؤية الراعي لا تلتقي مع رؤية عون وبرنامجه للوصول الى بعبدا، والكلام الذين ينقله زوار الراعي عنه يومياً عن لقائه بعون يثبت أن الخطأ في إدارة أزمة الرئاسة بات يحتاج الى معالجة جذرية، تنطلق من جملة أسئلة: هل يمكن بكركي اليوم أن تسحب الوكالة التي أعطتها للقادة الأربعة بإدارة ملف رئاسة الجمهورية من دون إحداث ارتدادات سلبية؟ وكيف يمكن أن توسع حلقة النقاشات على مستوى عال وليس على مستوى الحلقة الضيقة التي أضاعت خلال عامين وأكثر هوية بكركي؟ وهل هي قادرة مثلاً على أن تطلب من رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع سحب ترشيحه، أو أن تقنع عون بالنزول الى ساحة النجمة أو على الأقل إعلان ترشحه بعدما تفاقمت الخلافات معه، أو إقناع النائب سليمان فرنجيه بعدم تعطيل النصاب؟ وأخيراً، كيف يمكن أن تخرج بكركي من المأزق الذي وضعت نفسها فيه، حين دخلت في عمق أزمة الرئاسة من دون رؤية واضحة ومستقبلية تتعلق بلبنان وبدور الموارنة فيه؟
هيام القصيفي - الأخبار 27\6\2014
رغم انشغال لبنان، في الايام الاخيرة، بالتفجيرات الامنية وملاحقة الشبكات والخلايا الارهابية، تبقى أزمة الشغور الرئاسي أولوية، وخصوصاً في ظل الهواجس التي تحكم المسيحيين والموارنة تحديداً، والتخوف من تحول الشغور فراغاً، واستكمال القوى السياسية عمل الحكومة ومجلس النواب وكأن شيئاً لم يكن. ورغم أن مفتاح حل هذه الأزمة إقليمي ودولي، إلا أن معالجة الموارنة ـــ ولا سيما بكركي ـــ لملف بهذه الخطورة والحساسية، طرحت ولا تزال سلسلة تساؤلات حول الأسلوب الذي اعتمده البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في معالجة هذا المأزق.
في عز الهيمنة السورية، وفي ظل الظروف السيئة والصعبة التي كان يمر بها البلد، حدد البطريرك الماروني حينها الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير رؤية شاملة للوضع اللبناني. كانت رؤيته واضحة وصلبة ومتواصلة، لم تشهد تقلبات ولا صعوداً ونزولاً في مواقفه. ورغم أنها لاقت تأييداً من بعض اللبنانيين ورفضاً من البعض الآخر، ظلت في إطار رعاية مصلحة لبنان والمسيحيين. وأدى هذا المسار بعد 1990، حين تكرس سوء تطبيق الطائف وبعد الانسحاب الاسرائيلي، إلى إعلان النداء الاول للمطارنة الموارنة.
فتح هذا النداء الباب أمام مجموعة من الشخصيات المسيحية التي تنادت للتجمع حول بكركي ومواقفها في لقاء «قرنة شهوان». لم تستدع بكركي حينها أحداً، ولم تدعُ هذه الشخصيات الى اللقاء عندها، بل جاء اللقاء بمبادرة من هؤلاء الاطراف، وجميعهم من العاملين في الشأن السياسي حزبيين وغير حزبيين. لم تكن قرنة شهوان تجمعاً للقوى السياسية التقليدية ولا للأحزاب المسيحية، وإن وجد فيها حزبيون ممثلون لأحزابهم أسوة بالأعضاء الآخرين. لم تكن بهذا المعنى «جبهة لبنانية»، لكن أهميتها كمنت في أن الفكرة التي أطلقتها بكركي للبنان وحريته وسيادته، جمعت السياسي المسيحي والمثقف والصحافي والحزبي، ومن ثم الرئيس والنائب، في بوتقة واحدة، وظلت بكركي فوق هؤلاء جميعاً. لذا أخذت قرنة شهوان أهميتها في الحياة السياسية المسيحية، لأنها كسرت القوالب الحزبية والعائلية، ووسعت إطار العمل السياسي المسيحي، وتمكنت من أن تكون رأس حربة في مواجهة «سلطة الوصاية السورية»، وظلت تمثل المسيحيين، ولو خرج منها التيار الوطني الحر في حينه، الى حد أن بكركي تمكنت، قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، من فرض قانون الانتخاب القائم على أساس القضاء، والذي كان حينها يمثّل حلماً بالنسبة الى المسيحيين في ظل الوجود السوري.
ماذا تغيّر منذ ذلك الوقت؟ مشكلة بكركي الحالية اليوم قد لا تكون في النيات، بل في الأفعال، إذ إن الراعي انطلق من الوجهة المعاكسة. فبدل أن يطلق الافكار الوطنية والمسيحية العامة، التي تعيد استجلاب المسيحيين حولها، خطا الخطوة الناقصة الاولى في إطلاقه شعارات كبيرة، ودعا الموارنة الى التجمع حولها وتبنّيها، لتصبح بكركي واحداً من اللاعبين لا فوقهم. لكن هذه الشعارات لم تسلك سبيلها الى التنفيذ، رغم أن الظروف السياسية اليوم مختلفة تماماً عن مرحلة صفير وقرنة شهوان؛ فلا الجيش السوري في لبنان، ولا يوجد أي ضغط أمني أو ملاحقات أو نفي أو سجن أو إبعاد. والخطوة الناقصة الثانية هي أنه عمد الى تقزيم الاطار المسيحي السياسي وحصر الموارنة والمسيحيين في أربع زعامات فحسب، فأصبح هو أسير هؤلاء، ولكل منهم حساباته الرئاسية الخاصة.
هنا كان لبّ المشكلة، رغم أن القادة الاربعة لهم تمثيلهم الشرعي والمسيحي غير المشكوك فيه، إذ لم تكن فكرة المصالحة المارونية التي قام بها الراعي هي الخطأ، بل العكس تماماً، فهي كانت مطلوبة واستجاب لها القادة الاربعة. لكن المشكلة هي في أن الحصرية التي أعطاها الراعي لهؤلاء برزت خطورتها في موضوع الرئاسة، ترشيحاً واقتراعاً ومداولات، والتي أوصلت الموارنة الى النتيجة نفسها التي وصلوا اليها في قانون الانتخاب الذي ناقشه أيضاً ممثلو هؤلاء القادة.
والمشكلة التي تفاقمت هي أن الشعارات الكبيرة التي رفعها الراعي حول مواضيع أساسية انهارت كلها تدريجاً: معركة طويلة لإنتاج قانون الانتخاب، انتهت بعد أشهر طويلة الى المشروع الارثوذكسي الكارثي الذي أدى في نهاية المطاف الى التمديد للمجلس النيابي، ثم الحملة المسبقة لانتخاب رئيس للجمهورية قبل 25 أيار التي انتهت الى الشغور وتكريسه (هذا في حال أهملنا السعي البطريركي للتمديد للرئيس ميشال سليمان). ومن عناوين كبيرة وإطلاق توصيفات على الرئيس المطلوب والقوي وغيرهما من الاوصاف، والحديث عن ضغط شعبي واستطلاعات الرأي ولوائح بطريركية ومرشحين مفضلين، تحولت حملة بكركي بعد 25 أيار الى محاولة ملء الشغور بأي ثمن، فبدت في حركتها الاخيرة التي همدت، محبطة منكفئة، لا قدرة لها إلا على تكرار لازمة الدعوة الى انتخاب رئيس للجمهورية.
اخطأت بكركي في أنها أعطت منذ البدء حصرية للقادة الموارنة في تقرير مصير رئاسة الجمهورية، فيما لهم، بطبيعة الحال، حساباتهم السياسية المختلفة عن حسابات الصرح والمختلف بعضها عن حسابات البعض الآخر. فأصبحت بكركي بذلك أسيرة النزاعات الداخلية، وبدل أن تكون مع هؤلاء في مواجهة مفتوحة مع الاطراف الآخرين الذين يعرقلون إجراء الانتخابات، انتقلت المواجهة الى هذا «المجلس السياسي» الذي أقامه الراعي للموارنة، فدخلت معه الرئاسة في عنق الزجاجة، ودخل البلد في أزمة طويلة.
أثبتت المواجهة الصامتة أولاً والمعلنة بين الراعي ورئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون، كأحد الامثلة عن سلبيات هذه الحصرية، أن رؤية الراعي لا تلتقي مع رؤية عون وبرنامجه للوصول الى بعبدا، والكلام الذين ينقله زوار الراعي عنه يومياً عن لقائه بعون يثبت أن الخطأ في إدارة أزمة الرئاسة بات يحتاج الى معالجة جذرية، تنطلق من جملة أسئلة: هل يمكن بكركي اليوم أن تسحب الوكالة التي أعطتها للقادة الأربعة بإدارة ملف رئاسة الجمهورية من دون إحداث ارتدادات سلبية؟ وكيف يمكن أن توسع حلقة النقاشات على مستوى عال وليس على مستوى الحلقة الضيقة التي أضاعت خلال عامين وأكثر هوية بكركي؟ وهل هي قادرة مثلاً على أن تطلب من رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع سحب ترشيحه، أو أن تقنع عون بالنزول الى ساحة النجمة أو على الأقل إعلان ترشحه بعدما تفاقمت الخلافات معه، أو إقناع النائب سليمان فرنجيه بعدم تعطيل النصاب؟ وأخيراً، كيف يمكن أن تخرج بكركي من المأزق الذي وضعت نفسها فيه، حين دخلت في عمق أزمة الرئاسة من دون رؤية واضحة ومستقبلية تتعلق بلبنان وبدور الموارنة فيه؟
هيام القصيفي - الأخبار 27\6\2014
إرسال تعليق