اذا كُتب للبنان أن يفلت من الفراغ الرئاسي والدستوري سريعاً، فمن المفترض ان يتزامن انتخاب الرئيس العتيد مع الذكرى المئوية للحرب الكبرى، بأشهر تزيد عليها أو تقل، وأن يتزامن انتهاء ولايته، مع الذكرى المئوية لتأسيس «لبنان الكبير».
المئوية الأولى هي مئوية زوال لبنان الصغير، لبنان المتصرفية، الذي أطاحت الدولة العثمانية ببروتوكول استقلاله الذاتي اثر دخولها الحرب الى جانب المانيا والنمسا، وتعرّض ابنائه لمجاعة يتكرّر ذكرها في الكتب المدرسية من دون أن تأخذ حيّزاً مهمّاً في اشتغال المؤرخين اللبنانيين المعاصرين، مع أنّها مختبر تأسيسي بامتياز، ومن الكارثي تجاوزه عند تناول تاريخ الموارنة وكنيستهم بالتحديد، والنافذة التي رأوا من خلالها لاحقاً.
فكيف يحيي اللبنانيون عموماً، والجبل - لبنانيون خصوصاً، مئوية المجاعة والكارثة الديموغرافية التي تسببت بها، والأهم من ذلك في أي ظرف يحيونها: في ظلّ تخلّع ما بقي من دولتهم، واضطراب الموقع المعقود للموارنة على رأسها، أم في ظروف تسمح بجرجرة أزمة نظامنا الدستوري والسياسي سنوات مزيدة الى الأمام؟
والمئوية الثانية بعد ست سنوات هي لقيام «لبنان الكبير»، ومفارقة الاستقلال الذي رسم كيانه المستعمر الفرنسي، مباشرة بعد هزيمة مشروع المملكة العربية السورية في ميسلون، فظلّ كياناً يُساءل في حدثه التأسيسي أكثر من أي كيان عربيّ آخر. فمعظم الكيانات العربية الحديثة تشكّلت بالمبضع الكولونيالي، الا أنّ للبنان الكبير خصوصية نافرة في هذا المجال: المستعمر جاء يعلن في الوقت نفسه احياءه، وتوسيعه، واستقلاله، في لحظة كيانية واحدة، لكن أيضاً من بعد تلك الكارثة الديموغرافية التي أهلكت مئات الآلاف من سكان الجبل اللبناني في أعوام الحرب، والذي يتفاوت تقدير «قصدية» السياسة الحكومية والادارية العثمانية في التسبّب بها، علماً أن ايثار الموارنة لاحقاً لأيديولوجيا يمينية في تناول التاريخ ونشدان الخصوصية وابتهال الاقتصاد الحرّ، أتى على حساب تلك الذاكرة الشعبية، الحقيقية، المعاشة، ذكرى الفقر والجوع والمذلّة في سني الحرب، التي كان سيؤدي وضعها في مركز الضوء الى تحفيز أيديولوجيا اجتماعية لا يمنعها التغني بالحرّية من التركيز الموازي على محاربة الفقر.
فبمعنى ما، ظلّت النظرة الى تاريخ هذا الكيان نظرة تفصل تداعيات زوال لبنان الصغير عن تداعيات قيام لبنان الكبير. غير الموارنة قام بذلك عندما كان يجد صعوبة في تقبل توسيع الكيان اللبناني أو انفصاله التام عن المتحد السوري. والموارنة قاموا بذلك لأنهم ارتضوا ابقاء ذاكرة الحرب الكبرى مشتّتة، مشوّشة، لا تستعاد الا في الأقاصيص الأدبية أو في المسرحيات الغنائية، دون أن ينتج عنها مفاعيل تأسيسية في النظرة الى الذات والآخر.
المئويتان هما اذاً مناسبة للمراجعة التاريخية. مناسبة للتفتيش عن شيء نقوله خارج الكلام المعاد المكرر على امتداد السنوات الأخيرة. شيء يستعيد من خلاله الموارنة تحديداً مسارهم على امتداد نصف القرن الأخير.
خير لهذه المراجعة أن تتمّ في ظلّ استمرارية دستورية، وحينها سيكون رئيس المئويتين بشكل أو بآخر: رئيس تتزامن ولايته مع استحقاق كيان محمول على مساءلة نفسه، ليس فقط عمّا أوجده، وكيف وجد، بل أيضاً عمّا يجعله مستمرّاً، وكيف يستمرّ.
أما اذا كتب على البلد الخروج عن الاستمرارية الدستورية، فان المراجعة التاريخية ستفرض نفسها بشكل آخر: بنوبات من المحاكاة المأسوية حيناً، والهزلية حيناً آخر، لظواهر وقضايا من مراحل منصرمة.
المئوية الأولى هي مئوية زوال لبنان الصغير، لبنان المتصرفية، الذي أطاحت الدولة العثمانية ببروتوكول استقلاله الذاتي اثر دخولها الحرب الى جانب المانيا والنمسا، وتعرّض ابنائه لمجاعة يتكرّر ذكرها في الكتب المدرسية من دون أن تأخذ حيّزاً مهمّاً في اشتغال المؤرخين اللبنانيين المعاصرين، مع أنّها مختبر تأسيسي بامتياز، ومن الكارثي تجاوزه عند تناول تاريخ الموارنة وكنيستهم بالتحديد، والنافذة التي رأوا من خلالها لاحقاً.
فكيف يحيي اللبنانيون عموماً، والجبل - لبنانيون خصوصاً، مئوية المجاعة والكارثة الديموغرافية التي تسببت بها، والأهم من ذلك في أي ظرف يحيونها: في ظلّ تخلّع ما بقي من دولتهم، واضطراب الموقع المعقود للموارنة على رأسها، أم في ظروف تسمح بجرجرة أزمة نظامنا الدستوري والسياسي سنوات مزيدة الى الأمام؟
والمئوية الثانية بعد ست سنوات هي لقيام «لبنان الكبير»، ومفارقة الاستقلال الذي رسم كيانه المستعمر الفرنسي، مباشرة بعد هزيمة مشروع المملكة العربية السورية في ميسلون، فظلّ كياناً يُساءل في حدثه التأسيسي أكثر من أي كيان عربيّ آخر. فمعظم الكيانات العربية الحديثة تشكّلت بالمبضع الكولونيالي، الا أنّ للبنان الكبير خصوصية نافرة في هذا المجال: المستعمر جاء يعلن في الوقت نفسه احياءه، وتوسيعه، واستقلاله، في لحظة كيانية واحدة، لكن أيضاً من بعد تلك الكارثة الديموغرافية التي أهلكت مئات الآلاف من سكان الجبل اللبناني في أعوام الحرب، والذي يتفاوت تقدير «قصدية» السياسة الحكومية والادارية العثمانية في التسبّب بها، علماً أن ايثار الموارنة لاحقاً لأيديولوجيا يمينية في تناول التاريخ ونشدان الخصوصية وابتهال الاقتصاد الحرّ، أتى على حساب تلك الذاكرة الشعبية، الحقيقية، المعاشة، ذكرى الفقر والجوع والمذلّة في سني الحرب، التي كان سيؤدي وضعها في مركز الضوء الى تحفيز أيديولوجيا اجتماعية لا يمنعها التغني بالحرّية من التركيز الموازي على محاربة الفقر.
فبمعنى ما، ظلّت النظرة الى تاريخ هذا الكيان نظرة تفصل تداعيات زوال لبنان الصغير عن تداعيات قيام لبنان الكبير. غير الموارنة قام بذلك عندما كان يجد صعوبة في تقبل توسيع الكيان اللبناني أو انفصاله التام عن المتحد السوري. والموارنة قاموا بذلك لأنهم ارتضوا ابقاء ذاكرة الحرب الكبرى مشتّتة، مشوّشة، لا تستعاد الا في الأقاصيص الأدبية أو في المسرحيات الغنائية، دون أن ينتج عنها مفاعيل تأسيسية في النظرة الى الذات والآخر.
المئويتان هما اذاً مناسبة للمراجعة التاريخية. مناسبة للتفتيش عن شيء نقوله خارج الكلام المعاد المكرر على امتداد السنوات الأخيرة. شيء يستعيد من خلاله الموارنة تحديداً مسارهم على امتداد نصف القرن الأخير.
خير لهذه المراجعة أن تتمّ في ظلّ استمرارية دستورية، وحينها سيكون رئيس المئويتين بشكل أو بآخر: رئيس تتزامن ولايته مع استحقاق كيان محمول على مساءلة نفسه، ليس فقط عمّا أوجده، وكيف وجد، بل أيضاً عمّا يجعله مستمرّاً، وكيف يستمرّ.
أما اذا كتب على البلد الخروج عن الاستمرارية الدستورية، فان المراجعة التاريخية ستفرض نفسها بشكل آخر: بنوبات من المحاكاة المأسوية حيناً، والهزلية حيناً آخر، لظواهر وقضايا من مراحل منصرمة.
وسام سعادة - المستقبل 19\5\2014
إرسال تعليق