0
وأخيراً، وبكل «ممنونية» يُقال إن الغطاء السياسي الذي كان يحمي المسلحين في جبل محسن وباب التبانة قد «انتزع«، مما أتاح للجيش اللبناني والقوى الأمنية اختراق التابوهات، والمحرمات ودخول طرابلس والانتشار الكثيف في أرجائها، وجمع السلاح وإزالة الدشم، وإلغاء المواقع التي كان «المسلحون» يتبادلون منها اطلاق النار وحوّلوا هذه المدينة الرائعة جحيماً على امتداد 20 جولة وحبة مسك. إذاً «فك» الطلسم السحري، ورُميت «خرزات العين» الزرقاء و«الحارسة« التي كانت تحمي و«تبارك«، ارهابيين معروفين ومسلحين مدرجين في لوائح دوائر الأمن... وسلكت طريق الدولة. الدولة بعسكرها وامنها وقضائها باتت وبغطاء شعبي ورسمي، تمارس دورها المطلوب، رُفعَ الغطاء عن القتلة ومفجري السيارات و»أبطال» (جواسيس) المحاور لا سيما رفعت وعلي عيد (كارهابيين معلنين)، ووضع على رأس الخطة الأمنية. رأس الخطة الأمنية صار أعلى من كل «الرؤوس». بل كأنه صار الرأس الوحيد الذي يحق له باسم الشرعية، أن يتولى أمن المدينة الثانية في لبنان.

ونظن أن ما هو أساسي في هذه المبادرة ليس فقط رفع الأغطية وحدها من هنا ووضعها هناك. فالأغطية «السياسية» قد تتبدل وتُتبَادل، وتتوازع فيها الأدوار والبطولات والسيناريوات، وهذا ما خبرناه وعرفناه على امتداد أكثر من أربعة عقود من الحروب على لبنان، منذ 1969، وحتى اليوم. وليس المهم ان ترفع هذه الأغطية من هنا فإلى هنالك فقط، وانما ما يخشى ان يكون وراء هذه الحركة ما يوحي «تراضياً» ضمنياً.

ذلك أن سياسة الأمن بالتراضي مؤقتة دائماً. وهي وقائمة على تركيبات ووصفات سرعان ما يزول مفعولها، بل وغالباً ما تكون موضعية مكاناً، وموضعية زمنياً. ويظن كثير من اللبنانيين ان «اسكتشات» فرار قادة المحاور إلى «جهات» مجهولة قد يكون من أسرار هذه التركيبات «السحرية» و«المتراضية» لتبقى «رؤوس» بمأمن من المحاكمة. وهذا ما اشارات إليه وسائل اعلام عديدة: «تبخر قادة القتل والقتال». وقد عبر النائب وليد جنبلاط عن هذه المسألة عندما صرح بأن «جنرالات» الميادين قد «أنذروا» قبل العملية الأمنية بالهروب، وخص بالذكر ارهابيي «الممانعة والمقاومة» رفعت وعلي العيد... اللذين يمثلان الواجهة السوداء المضرجة بالدم للوصايتين. هرب «الجنرالات» من رفعت عيد الأميرال نلسون إلى نلسون مانديلا علي عيد، وبقي «الصغار»... هذا اذا بقوا أو التحقوا ببخار «قادتهم» المأجورين. و«ملحمة» الفرار هذه كانت وما تزال جزءاً من عدد كبير من سياسات الحروب التي عرفها لبنان. ونتذكر انه قبل سقوط نهر البارد بأيدي الجيش اللبناني (بعدما تحرر من الخطوط الحُمر التي وضعها له حزب الله!) فرّ العميل الارهابي شاكر العبسي؛ بعد كل الخراب الذي أحدثته حركته الإجرامية التي خطط لها النظام السوري وباركها الحزب الالهي. وشاكر العبسي هرّبه «العبابسة».. أي من أدخله إلى نهر البارد هو الذي سهّل هروبه، هذا اذا لم يكن هذا الهروب جزءاً من «طلسم» التراخي المستور . والمتهمون باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري «فروا» بأبهة واحتفالية عالية، وبطقوس «تطويبهم» قديسين إلى «أماكن» مجهولة معروفة، أي في كانتونات حزب الله! والأغطية والشراشف السياسية التي كانت تغطي مسلحي طرابلس، هي أثقل وأقوى في بيئة الحزب. فهؤلاء «آمنون» بفضل الدولة الأمنية للحزب وهروبهم ليس هروباً. بل نوع من البطولة، وفي هذه المناسبة نتذكر دخول الجيش إلى الضاحية، بالتراضي مع الحزب (أو بالموافقة أو ربما غب الطلب)، لمواجهة بعض العشائر التي تحولت ظاهرة مربكة للحزب. ونتذكر أيضاً لجوء المجرم محمود الحايك من سرايا العدوان عند حزب الله والمتهم بمحاولة اغتيال النائب بطرس حرب... إلى حضن من أوكله هذه المهمة «المقدسة». وها هو يمرح ويسرح في ارجاء «جماهيرية» الحزب، كبطل عاد مظفراً من محاولة قتل النائب حرب، محملاً بالمجد الالهي، والبركات الحزبية. ومن لا يعرف أن هناك الكثيرين من الشهود في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري... قد «هُرّبوا» وخُبئوا في «القلوب»... أو رُحِّلوا إلى دار «الآخرة»... وهنا بالذات يمكن الكلام على القضاء بالتراضي لكن بين أهل السلاح غير الشرعي وبين واقع الدولة نفسها. أي بين دويلة تلعب دور الدولة، ودولة تكتفي بدور ثانوي كدويلة. والغريب أن لعبة التراضي مفروضة من الدويلة الحزبية على الدولة الجمهورية. وليس مستغرباً ان تشارك في هذه «الحبكة» الروائية الميديا الاعلامية المرتبطة بالدويلة لكن من باب التضليل والتعمية والتأثير الديماغوجي «الأصفر» على المؤسسات الأمنية والقضائية. فمن حاول احراق مبنى تلفزيون الجديد وهو من من ابطال «سرايا العدوان» خرج بكفالة ضئيلة. خرج وعاد إلى ممارسة «واجبه الجهادي» في انتظار تكليف جديد. فهو ومن كلفه يفرضون آفة التراضي على «ميزان العدالة» ومن الطبيعي الا تتوقف هذه «الأمور» عند هذه الحدود «الجهادية» بإذنه تعالى، بل إلى ظواهر الفساد التي تصيب كل الناس: فضيحة الكبتاغون والمخدرات مرت بسلام. والمجرمون الذين قاموا بهذه العملية لا احد يعرف امكنتهم «فُرّروا وهُرّبوا». لم يستطع احد رفع «الغطاء» السياسي الميليشيوي الجهادي عنهم. والسؤال نفسه: اين مزيفو الأدوية؟ هل من منادٍ؟ هل من أسماء؟ هل من محاكمة؟ هل من عقاب؟ هل من رادع؟ لاّ لأن المرتكبين بكل بساطة هم من «نبتات» البيئة الحزبية. ممنوع. خط أحمر. ونقطة على السطر. وهل ننسى مسألة اللحوم الفاسدة.... السيناريو ذاته. فالاغطية والملاحف والوسادات لم تعد مقتصرة على القضايا الأمنية بل الاجتماعية والقضائية. وباتت ظاهرة تتنامى في كل الاتجاهات: وها هي عمليات الخطف (يتم معظمها في بيئات الحزب الالهي) التي صارت منظمة وسهلة والتي ينتهي بعضها «بالتراضي»: دفع فدية للخاطفين أو غالباً بفضل جهود الجيش والقوى الأمنية بتحرير الخاطفين بالقوة.

ونظن أن لعبة «التراضي» (المفروضة أصلاً من قوى الأمر الواقع)، تعني أولاً وأخيراً بقاء الدولة دون مستوى الفاعلين والمرتكبين ومن وراءهم. ويعني أن «الدويلات» و«البؤر» المسلحة والمغلقة والفائضة بالخراب والسلاح هي التي تتحكم بالأمور وليس الدولة. ويعني ذلك ان الدولة لا تتنازل فقط في بعض أمور ذكرناها بل تعلن عجزها في صورة تواطؤ «اعتسافي» أو قَدَري امام قوى الأمر الواقع. في الحروب التي عرفناها منذ نهاية الستينات أدت ظاهرة التراضي إلى تدمير الدولة وتقسيم البلاد والغاء الجمهورية نفسها. الميليشيات (وآخر عناقيدها الالهية حزب الله) يرتبط وجودها بهذه الخطة «الخبيثة» التي تتصاعد وتائرها. وتتعدد صورها من الأمور الصغيرة إلى مصائر البلاد. ونتذكر ان بعد كل جولة من جولات الحروب السابقة كان كل وقف اطلاق نار يتم بالتراضي، حتى ادى هذا التراضي بين الميليشيا والجيش إلى سياسة تراض بين الميليشيات وحدها من دون الدولة التي وُدِّعت ومن دون الجيش الذي تفرفط في السبعينات. ويتكرر الأمر وان بنسب أقل، مع وقوى الأمر الواقع كلها ونتذكر من هذه «الأمجاد» 7 أيار المجيد الذي تجاوزت قوى الوصايتين المسلحة الجيشَ وقوى الأمن ذلك لأن عملية حسم الجولات السابقة لم تكن بعد ناضجة: احترقت طرابلس ولم تنضج عملية الحسم السياسية! احدثت قطيعة «مفتعلة بين أهالي جبل محسن وباب التبانة ولما تنضج عملية الغطاء السياسي أو البرنيطة أو الروب دي شامبر. 


سقط مئات القتلى والوف الجرحى ولم «تُنضج» دماؤهم «القرار» السياسي. اعلن شبه اجماع في المدينة اعطاء الجيش الغطاء الشعبي لكن الغطاء الشعبي من ورق السيلوان إذا ما قيس بالغطاء «السياسي» المعدني! لكن نقول على الرغم من كل ذلك انه وصل ولو متأخراً! والوصول متأخراً افضل من عدم الوصول أبداً. وهكذا اكتشفنا ان الجيش قادر على ردع هؤلاء المسلحين في جبل محسن او باب التبانة بكل سهولة بل واكتشفنا مدى هزال هذه «المواقع» المسلحة ومدى كرتونيتها اذا باتت بلا سقوف الذين ارادوا أن تكون طرابلس ملعونة، ومدرجة على «لوائح ارهابهم» واقلامهم السود. وها هي وفود من باب التبانة «تقتحم» سلمياً وتوافقياً جبل محسن التي رهنها العميلان الارهابيان رفعت وعلي عيد بارادة النظام السوري ومخططاته.

ولماذا عسانا ننسى «عرسال» ألم يطالب اهلوها منذ اندلاع الثورة الشعبية على نظام دمشق، بدخول الجيش اليها، بعدما الصقت بها تهم الارهاب والبؤر التكفيرية. عرسال تتوسل الدولة وتعلن انها خيارها الوحيد، وتتوسل جيشها باعتباره جيش البلاد بأن تدخل إلى عرسال. لا أحد. لا شيء. وبدلاً من ذلك، وامعاناً في تحفيز الفتنة المذهبية التي ذهب حزب الله باسمها إلى سوريا (حماية مقام السيدة زينب فكأنما هو وخامنئي ونجاد قد بنوه وحموه قرابة الف عام وأكثر)، ها هي ميليشيات الحزب تحاصر عرسال. تماماً كما أيام زمان عندما كانت الميليشيات المسيحية والاسلامية والايديولوجية تمارس حصارها على مناطق بعضها. ميليشيا تحاصر مدينة بوجود الجيش جوارها. هذا كثير! ميليشيا تمنع الطحين والخبز والطعام والدواء على مدينة بكاملها شيء لا يصدق إلا اذا صدقنا حصار النظام السوري لشعبه. فهل تستكمل اجراءات دخول الجيش عرسال دخولاً نهائياً وشاملاً؟ هل تراه سيدخل ويعيد التوازن ويحمي ناسها من شرور حزب الله! أكثر أو ليس من حق عرسال ان تطالب الجيش بردع الاعتداءات السورية بالقصف الجوي والصواريخ على منازلها واطفالها ونسائها ! واذا لم يُسلب الجيش اي اذا لم يكن للجيش غطاء سياسي مرده على انتهاك السيادة اللبنانية من «النيران الصديقة» (المجرمة) ايلجأ هؤلاء إلى الحكومة. لكن ها هي الحكومة الدولة لا تعلق. بل تمتنع تلبية لسلاح الممانعة من تقديم شكوى إلى الجامعة العربية أو الأمم المتحدة ولو لمجرد احتجاج على هذه الانتهاكات. أتكون عرسال بعد طرابلس؟ وماذا بعدهما! اغطية كثيرة، الضاحية عاصمة جماهيرية الحزب، وبؤرة الفساد وملجأ الخارجين على القانون، الا يظن من يجب ان يظن ان أهلها باتوا يئنون بصمت تحت ثقل هيمنة الحزب بسلاحه وقمعه وسراياه! فمن يلبيهم؟ ومن يستجيبهم؟ انها رحلة ما زالت طويلة، وكلامنا على الأغطية والبطانيات المفروضة، وعلى سياسة التراضي.. لن ينسينا فرحتنا بخطوة الألف ميل... ولن ينسينا اغتباطنا باسترجاع طرابلس، مدينة العلم والصمود والثقافة والعروبة والتسامح أمنها وسلمها! بل ولن ينسينا اطلاقاً مآثر الجيش وقوى الأمن وقدراتهم وجهوزيتهم لفرض الدولة ومفهومها وقوانينها على تلك المدينة التي فاحت عطراً واريجاً بأمنها وسلامتها وانضمامها إلى الدولة!

5/4/2014 بول شاوول - المستقبل

إرسال تعليق

 
Top