0
أول شيء بحثت عنه في فيينا عام 1972، كان «الدانوب الأزرق». اعتقدت أنني سأخرج من الفندق ويكون هو في الانتظار خلف الباب، أو أبعد قليلا. فقد ارتبطت فيينا في الذاكرة بموسيقى يوهان شتراوس، «الدانوب الأزرق»، وأغنية أسمهان «ليالي الأنس». لكن الصدمة كانت قاسية. كان الدانوب بعيدا عني بقدر ما كان عصيا على سليمان القانوني. لم يكن أبدا يشق مدينة ليالي الأنس، كما يفصل السين باريس إلى ضفتين، يسرى ويمنى. وثمة ما هو أفدح: لم يكن أزرق على الإطلاق، بل داكنا ملوثا وتعبره البوارج وليس الألحان ولا ترفرف فوقه طيور أسمهان.

لكي ترى مدينة يشقها الدانوب إلى ضفتين، عليك أن تمضي أبعد قليلا إلى بودابست، ولن يكون أزرق في أي حال. صحيح أن كثيرا من المدن والعواصم تقوم على ضفاف الأنهر، لكن انسى حكاية الضفتين المتساويتين. النيل مضى غير عابئ بشيء، في شرق القاهرة. والتيبر لا يقسم روما. ولندن لم تحاول أبدا أن تسمي نفسها، الضفتين. فلا معنى رومانسيا «للتيمز» كما للسين أو الدانوب أو النيل.

وحدها باريس، ولدت وعاشت هكذا. ضفة للجامعات ومعالم البساطة، على يسار السين، وواحدة للقصور والمال على يمينه. ولا عجب أن تدور «البؤساء»، رائعة الأدب الفرنسي، على الضفة اليسرى وفي «مجاهل» المونبارناس. وكان ألكسندر دوما، الروائي الملكي يقول إن الضفة اليسرى قامت لكي تهجر، وليس لكي تأتي الناس إليها. لكنها بقيت «حصة» الشعراء والفقراء والمثقفين. ولا يزال الفارق بين الضفتين واحدا، فنجان القهوة أرخص في اليسرى بخمسين في المائة على الأقل، وعدد الذين يحملون «باغيت» الخبز في طريق العودة إلى البيوت أكبر بكثير، مع أن بعض مناطق اليسرى، كالدائرة السابعة، يفوق اليمين غلاء «وجمالا في الحجارة» كما يقول الفرنسيون في وصف مبانيهم القديمة، التي تبقى، ألق باريس الحقيقي، هي والبولفارات الواسعة، المرصوفة حجارة سوداء من أجل خيول القرون الماضية وعربات الفرسان المدافعين بالسيوف عن شرف عشيقاتهم.

لا تصدق رومانسيات الأنهر. إنها شيء لعطلة الأسبوع ومواضيع للموسيقيين مثل شتراوس، أو كتاب الظرف مثل مارك توين الذي حول المسيسيبي من نهر في حجم البحر إلى قطار بحري يحكي قصص أميركا. كذلك فعل القبطان البولندي جوزف كونراد عندما حول نهر الكونغو إلى حكاية الملحمة البشرية. وسمى الجواهري نفسه «أبو فرات»، الفرات الذي كتب له بدر شاكر السياب أناشيد الحزن. ولم يترك النيل شاعرا أو روائيا مصريا إلا وملأ محابره. وإذ مر في السودان استوقف الفتى الطيب الصالح وقال له: خذ. ابدأ من هنا رواية «موسم الهجرة إلى الشمال».

27/4/2014  سمير عطا الله - الشرق الأوسط


إرسال تعليق

 
Top