يعود الفضل في تحديد يوم الصحافة الكردية والاحتفال به في الثاني والعشرين من شهر نيسان من كل عام الى الأكاديمي الراحل الدكتور معروف خزندار، الذي عثر في أوائل السبعينات من القرن الماضي على نسخة أصيلة من جريدة "كردستان" التي صدرت في العاصمة المصرية القاهرة في (22-4- 1898) من قبل مقداد مدحت بدرخان كأول جريدة كردية في التاريخ، وكانت تطبع بأربعة الآف نسخة، وهو رقم كبير حتى بالنسبة للصحف الكردية في يومنا هذا.
لعبت الصحافة الكردية منذ ظهورها فى أواخر القرن التاسع عشر دوراً تاريخيا مجيدا فى ايقاظ الوعي القومي وبلورة أهداف الحركة التحررية الكردية والتعبير عن الأماني القومية والتطلعات ألأنسانية لأمة مفتتة ومضطهَدة والدعوة الى اشاعة الديمقراطية، كما اسهمت على نحو مؤثر وفعال فى نشر المعارف الحديثة والأفكار الإصلاحية مثل العدالة الإجتماعية والمساواة وضمان الحريات الأساسية وسيادة القانون، وتوسيع قاعدة التعليم المجاني والدفاع عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل وتحديث المجتمع فى كافة مجالات الحياة.
ان الرسالة الوطنية والإنسانية التي نهضت بها الصحافة الكردية خلال قرن ونيف، كانت تستدعي ان تكون صحافة رأي فى المقام الأول، شأنها فى ذلك، شأن الصحافة المعبرة عن طموحات وتطلعات الشعوب المناضلة الأخرى من اجل نيل حقوقها المشروعة وعلى النقيض من الصحافة الغربية التي نشأت وتطورت كصحافة خبر.
كانت الصحف والمجلات الكردية فى بداية نشأتها وحتى عهد قريب بسيطة فى تحريرها واخراجها، تهتم بالرأي قبل المظهر والشكل وتعبر بصورة مباشرة عن رأي الجهة التي تمثلها او تنطق بإسمها أو رأي ناشرها الذي كان فى معظم الأحيان احدى الشخصيات السياسية او الإجتماعية او الثقافية الكردية المعروفة (أبناء الأمير بدرخان، بيره ميرد، الأخوين حزني وكيو موكرياني...الخ)، وكان عدد لا بأس به من الأدباء المتطوعين، يعملون فى تلك الصحف والمجلات او يسهمون فى تحريرها من دون أجر او مكافأة وكان العمل الصحفي جهادا حقيقيا من اجل نشر المبادىء والتعبير عن وجهات النظر المختلفة، التي كانت غالبا ما تتعارض مع السياسات الرجعية والشوفينية لحكومات الدول التى تتقاسم كردستان، لذا فقد تحمل الصحفيون الكرد الرواد مخاطر المهنة بكل جدارة وقدموا التضحيات الجسام وتعرضوا الى الملاحقة والقمع وشتى صنوف الترهيب. وعلى الرغم من ان مقص الرقيب كان مسلطا على الصحافة الكردية في معظم الأحيان، و كانت الرقابة مزاجية، حيث تسمح او تمنع نشر ما تشاء، الا ان مصير كثير من تلك المطبوعات الدورية، كان الغلق لفترات مختلفة او الغاء الإمتياز.
لذا، ليس من قبيل المصادفة ان الجريدة الكردية الأولى (كردستان)، تأسست فى المنفى، وفي مدينة (القاهرة) تحديدا واضطرت تحت ضغط السلطات العثمانية التعسفية الى نقل مقرها من العاصمة المصرية الى جنيف اولاً، ثم الى مدن اوروبية اخرى، حيث كانت السلطات العثمانية تلاحق الجريدة من دولة الى اخرى مستخدمة نفوذها السياسي والدبلوماسي لدى الدول المضيفة للجريدة الكردية الأولى.
واذا كان آل بدرخان قد استطاعوا وبشق الأنفس اصدار (31) عددا من جريدتهم الرائدة، الا ان ثمة عشرات الصحف والمجلات الكردية، التى لم يصدر منها سوى عدد واحد او بضعة اعداد، بسبب ضعف الإمكانات المادية او محاربة السلطات لها وندرة الكوادر الصحفية المؤهلة لإدارتها.
وغني عن البيان، ان الصحافة الكردية ولدت وتطورت في خضم الحركة التحررية الكردية وعبرت اصدق تعبير عن مبادىء هذه الحركة واهدافها، وكانت دائما فى خدمة قضايا الشعب والوطن، ورغم الظروف الشاذة، التي رافقت نشأتها وتطورها، الا انها أدت دورا تاريخيا بالغ الأهمية.
اما اليوم، فإن التجربة الديمقراطية التى يمر بها شعبنا فى كردستان العراق والتطور الملحوظ فى تقنية الصحافة و تغير مفهوم الرسالة الصحفية، قد أدى الى وضع صحافتنا أمام تحديات جديدة وجادة، فقد تغير العالم من حولنا كثيرا فى العقدين المنصرمين وحدثت تطورات مذهلة فى وسائل الإتصال الجماهيرى وظهرت وسائل جديدة، في مقدمتها البث التلفزيوني الفضائي والانترنت و الصحافة الإلكترونية، التي تستقطب اليوم اهتمام المشاهدين وتستحوذ على الجزء الأكبر من اوقات راحتهم و تنافس وسائل الإعلام التقليدية من حيث القدرة على النقل الآني الحي للحدث لحظة وقوعه.
هذه الوسائل الجديدة التي تنقل المضامين والأفكار والأحداث عن طريق الصوت والصورة في آن، وبسرعة الضوء، متخطية الحواجز الجغرافية والسياسية، حولت كوكبنا الى قرية عالمية، حسب تعبير العالم الكندي مارشال ماكلوهان، وجعلت من الإعلام السمعي – البصري، قوة مؤثرة تسهم فى تكوين وتغيير قناعات الرأي العام وأداة ضغط هائل على الحكومات وصناع القرار، ووسيلة من وسائل الديمقراطية المباشرة (التي تتميز باستخدام التلفزيون الفضائي والانترنت في استجلاء اراء الناس وردود فعلهم ازاء الأحداث المهمة والقضايا الحساسة واتخاذ القرارات في ضوء ذلك.
وقد اضطرت الصحافة المطبوعة فى الدول المتقدمة الى تغيير سياساتها وتوجهاتها تحت تأثير التطور التكنولوجي وظروف ومتطلبات العصر الراهن، واستطاعت أن تتكيف مع التطورات الجديدة في مجال الاتصال الجماهيري باتباع وسيلتين:
الأولى: اللجوء الى التخصص، حيث اخذ كل مطبوع دوري – سواء اكان على شكل جريدة او مجلة – يخاطب جمهورا معينا له هوايات واهتمامات محددة او يتوجه الى فئة معينة – من حيث الجنس والعمر – او اصحاب مهن متشابهة – مثل الأطباء، المهندسين، المحامين، رجال الأعمال – او يتخصص فى مجال معين من مجالات العلوم والتكنولوجيا، وما الى ذلك.
الثانية: التركيز على الأحداث والوقائع المحلية المهمة وعلى الأخبار، التي تهم القراء والمعلومات التى تساعدهم على تكوين وبلورة ارائهم وقناعاتهم بأساليب ومعالجات تتسم بالحيوية والتشويق وقادرة على اثارة فضولهم، بما تقدمه من تفسيرات تفصيلية للوقائع الآنية على درجة عالية من الدقة والموضوعية، وبذلك اصبحت الصحافة المطبوعة عنصرا مكملا للإذاعة والتلفزيون، حيث تعزز ما تبثه المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية من اخبار وبرامج مختلفة.
وتشهد الصحافة الكردية المطبوعة اليوم انتعاشا كبيرا وتعمل فى اجواء مختلفة تماما عن العهود السابقة، ويتمثل ذلك فى هذا الكم الهائل من الصحف والمجلات الدورية الصادرة في الإقليم التي باتت محط انظار زوار كردستان، كما يتجلى فى تقنية الطباعة الحديثة نسبيا واساليب التصميم الفني والإخراج الصحفي، وان كان هذا التطور متواضعا قياسا الى التطور الحاصل فى الدول المتقدمة وعدد من دول المنطقة وبخاصة دول الخليج ولبنان، ولكنه تطور ملحوظ اذا اخذنا بعين الاعتبار ندرة الكوادر الكردية الفنية المؤهلة فى مجال تقنية الصحافة المتقدمة.
بيد ان هذا التوسع الأفقي والتطور التقني لم يتحولا بعد الى تطور نوعي في المستوى المهني للصحافة الكردية، فهي ما تزال أسيرة التقاليد الصحفية القديمة والأراء الجاهزة، اي انها صحافة رأي او بتعبير ادق صحافة مقالات، قبل ان تكون صحافة خبر، في زمن اخذ هذا النوع من الصحف والمجلات يتراجع بل يختفي حتى في الدول النامية، ناهيك عن الدول المتقدمة. لأن صحف الرأي اصبحت عاجزة عن استقطاب اهتمام الجمهور القارىء والتفاعل معه، و غير قادرة على منافسة وسائل الإعلام السمعية – البصرية.
يقال احيانا ان التطور اللاحق للصحافة الكردية، يرتبط بظهور الصحافة الأهلية المستقلة (صحافة القطاع الخاص) في الإقليم، الى جانب الصحافة الرسمية والحزبية، ولكن علينا ان لا ننسى ان الصحفيين فى الغرب ناضلوا طويلا من اجل التحرر من سيطرة رأس المال الموظف في الصحافة وان القيود التي كانت تفرضها الجهات الممولة للصحف على ما ينشر فيها من مواد، لم تكن بأي حال من الأحوال اهون من قيود الصحافة الموجهة من قبل الحكومات القمعية والأنظمة الاستبدادية، ولقد اثمر نضال الصحفيين فى الغرب عن مكاسب مهمة، لعل في مقدمتها، مساهمة الصحفيين فى ادارة المؤسسات الصحفية واستقلال هيئة التحرير عن الإدارة واصحاب الصحف. وقد ادى ذلك الى تغيير مفهوم حرية الصحافة التي لا تقتصر على حرية التعبير وابداء الرأي، بل يشمل ايضا ضرورة اعلام المواطن على اكمل وجه ممكن بكل ما يمس حياته ومستقبله وتوفير المعلومات التى تمكنه من الوصول الى قناعات محددة بشأن قرارات السلطة والتعبير عنها عبر شتى الوسائل وبضمنها الانتخابات العامة الحرة النزيهة، وهذا تحول بالغ الأهمية من مبدأ حرية الصحافة الى مبدأ حق المواطن فى الإعلام، وهو حق يعكس الرغبة المتزايدة فى معرفة الوقائع، كل الوقائع المهمة، وفي ضوء هذه الحقائق يمكننا ان ندرك الأسباب الحقيقية وراء عزوف القارىء الكردستاني عن معظم ما ينشر في صحافتنا المحلية، ما عدا بعض الحالات المحددة، عندما يكون هناك احداث بارزة او قرارات لها علاقة بهمومه وحياته اليومية وبخاصة ما يتعلق منها بالخدمات والسكن والتعليم والأسعار وانظمة الخدمة والتقاعد وما شابه ذلك.
ان التقنية الحديثة وحدها غير كافية لجعل الصحافة الكردية المطبوعة، صحافة مقروءة على نطاق واسع. والبعض من اهل الصحافة والمثقفين الكرد، يعزو ذلك الى قلة الكوادر الصحفية المؤهلة والمتخصصة وتدني القدرة الشرائية للمواطنين عموما والمثقفين منهم على وجه الخصوص، الذين يشكلون الجمهور القارىء الأكبر لصحافتنا المطبوعة، وهذا صحيح جزئيا وبقدر تعلق الأمر بندرة الكوادر الصحفية المؤهلة، أما القدرة الشرائية فقد ارتفعت اليوم كثيراً في السنوات الأخيرة ومع ذلك لا نجد اقبالاً كبيرأ على قراءة ومتابعة الصحف عموما ما عدا بعض الصحف، واسعة الانتشار في الإقليم التي تستقطب اهتمام القراء، خاصة حين تنشر بعض الأخبار والموضوعات المحلية الساخنة، ذات المساس المباشر ببعض جوانب الحياة اليومية للمواطنين او ما يثير اهتمامهم وفضولهم، في حين ان الكثير من الصحف والمجلات الأخرى تتكدس في الأكشاك والمكتبات دون ان تثير أي اهتمام لدى القراء، ومع ذلك، فهي مستمرة بالصدور، وهذا الأمر يثير تساؤلات عن مصادر تمويلها! ويقال ان البعض منها صحف حزبية تدعي الأستقلالية.
القارىء الكردستاني قارىء ذكي ونهم، وله اهتماماته الفكرية والحياتية وارائه الخاصة فى كل ما يتعلق بحياته اليومية ومستقبله وفي ما يجري من حوله وفي العالم من احداث، لذا فإن المواد الصحفية المملة والبعيدة عن ميوله وهمومه ومشاكله لا تهمه كثيرا، كما ان، الوسائل الإعلامية الأخرى (الإذاعة، التلفزيون، الانترنت)، قادرة على تغطية الأحداث الخارجية بشكل اسرع واكثر تشويقا وجاذبية من الصحافة المحلية المطبوعة.
لذا فإن القارىء على حق دائما، لأنه حين يقتني أي صحيفة او مجلة محلية، يتوقع ان يجد فيها ما يثير اهتمامه ويشبع فضوله وما يسهم فى اعطاء صورة حقيقية للواقع المعاش.
صحيح ان صحافتنا الكردستانية تتطور اليوم بخطى حثيثة نحو مزيد من التطور النوعي وتعمل فى اجواء هادئة ومستقرة الى حد كبير وفى اطار المصلحة العامة والقيم العليا للمجتمع الكردستاني ولا تخضع لأية رقابة او قيود رسمية، ولكنها صحافة تغلب عليها الصفة الحكومية او الحزبية، ولا توجد الا صحف اهلية قليلة مستقلة فعلاً، ولا يرجع ذلك الى اسباب سياسية، بل الى اسباب تجارية فى المقام الأول، لأن الصحف الأهلية صحف خاسرة تجاريا (من دون الدعم الحزبي)، ولكن مع ذلك، فإن الصحافة الكردية ما زالت وفية لتقاليدها الوطنية والنضالية المجيدة، ولكننا نطمح ان تكون ايضا صحافة معاصرة، صحافة خبر ورأي في آن معاً، واداة فعالة للرقابة الشعبية المستقلة على نشاطات السلطة التنفيذية وان تنهض بدور أكبر فى تطوير التجربة الديمقراطية في كردستان.
جودت هوشيار – منبر "ليبانون تايم" – 26\4\2014
لعبت الصحافة الكردية منذ ظهورها فى أواخر القرن التاسع عشر دوراً تاريخيا مجيدا فى ايقاظ الوعي القومي وبلورة أهداف الحركة التحررية الكردية والتعبير عن الأماني القومية والتطلعات ألأنسانية لأمة مفتتة ومضطهَدة والدعوة الى اشاعة الديمقراطية، كما اسهمت على نحو مؤثر وفعال فى نشر المعارف الحديثة والأفكار الإصلاحية مثل العدالة الإجتماعية والمساواة وضمان الحريات الأساسية وسيادة القانون، وتوسيع قاعدة التعليم المجاني والدفاع عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل وتحديث المجتمع فى كافة مجالات الحياة.
ان الرسالة الوطنية والإنسانية التي نهضت بها الصحافة الكردية خلال قرن ونيف، كانت تستدعي ان تكون صحافة رأي فى المقام الأول، شأنها فى ذلك، شأن الصحافة المعبرة عن طموحات وتطلعات الشعوب المناضلة الأخرى من اجل نيل حقوقها المشروعة وعلى النقيض من الصحافة الغربية التي نشأت وتطورت كصحافة خبر.
كانت الصحف والمجلات الكردية فى بداية نشأتها وحتى عهد قريب بسيطة فى تحريرها واخراجها، تهتم بالرأي قبل المظهر والشكل وتعبر بصورة مباشرة عن رأي الجهة التي تمثلها او تنطق بإسمها أو رأي ناشرها الذي كان فى معظم الأحيان احدى الشخصيات السياسية او الإجتماعية او الثقافية الكردية المعروفة (أبناء الأمير بدرخان، بيره ميرد، الأخوين حزني وكيو موكرياني...الخ)، وكان عدد لا بأس به من الأدباء المتطوعين، يعملون فى تلك الصحف والمجلات او يسهمون فى تحريرها من دون أجر او مكافأة وكان العمل الصحفي جهادا حقيقيا من اجل نشر المبادىء والتعبير عن وجهات النظر المختلفة، التي كانت غالبا ما تتعارض مع السياسات الرجعية والشوفينية لحكومات الدول التى تتقاسم كردستان، لذا فقد تحمل الصحفيون الكرد الرواد مخاطر المهنة بكل جدارة وقدموا التضحيات الجسام وتعرضوا الى الملاحقة والقمع وشتى صنوف الترهيب. وعلى الرغم من ان مقص الرقيب كان مسلطا على الصحافة الكردية في معظم الأحيان، و كانت الرقابة مزاجية، حيث تسمح او تمنع نشر ما تشاء، الا ان مصير كثير من تلك المطبوعات الدورية، كان الغلق لفترات مختلفة او الغاء الإمتياز.
لذا، ليس من قبيل المصادفة ان الجريدة الكردية الأولى (كردستان)، تأسست فى المنفى، وفي مدينة (القاهرة) تحديدا واضطرت تحت ضغط السلطات العثمانية التعسفية الى نقل مقرها من العاصمة المصرية الى جنيف اولاً، ثم الى مدن اوروبية اخرى، حيث كانت السلطات العثمانية تلاحق الجريدة من دولة الى اخرى مستخدمة نفوذها السياسي والدبلوماسي لدى الدول المضيفة للجريدة الكردية الأولى.
واذا كان آل بدرخان قد استطاعوا وبشق الأنفس اصدار (31) عددا من جريدتهم الرائدة، الا ان ثمة عشرات الصحف والمجلات الكردية، التى لم يصدر منها سوى عدد واحد او بضعة اعداد، بسبب ضعف الإمكانات المادية او محاربة السلطات لها وندرة الكوادر الصحفية المؤهلة لإدارتها.
وغني عن البيان، ان الصحافة الكردية ولدت وتطورت في خضم الحركة التحررية الكردية وعبرت اصدق تعبير عن مبادىء هذه الحركة واهدافها، وكانت دائما فى خدمة قضايا الشعب والوطن، ورغم الظروف الشاذة، التي رافقت نشأتها وتطورها، الا انها أدت دورا تاريخيا بالغ الأهمية.
اما اليوم، فإن التجربة الديمقراطية التى يمر بها شعبنا فى كردستان العراق والتطور الملحوظ فى تقنية الصحافة و تغير مفهوم الرسالة الصحفية، قد أدى الى وضع صحافتنا أمام تحديات جديدة وجادة، فقد تغير العالم من حولنا كثيرا فى العقدين المنصرمين وحدثت تطورات مذهلة فى وسائل الإتصال الجماهيرى وظهرت وسائل جديدة، في مقدمتها البث التلفزيوني الفضائي والانترنت و الصحافة الإلكترونية، التي تستقطب اليوم اهتمام المشاهدين وتستحوذ على الجزء الأكبر من اوقات راحتهم و تنافس وسائل الإعلام التقليدية من حيث القدرة على النقل الآني الحي للحدث لحظة وقوعه.
هذه الوسائل الجديدة التي تنقل المضامين والأفكار والأحداث عن طريق الصوت والصورة في آن، وبسرعة الضوء، متخطية الحواجز الجغرافية والسياسية، حولت كوكبنا الى قرية عالمية، حسب تعبير العالم الكندي مارشال ماكلوهان، وجعلت من الإعلام السمعي – البصري، قوة مؤثرة تسهم فى تكوين وتغيير قناعات الرأي العام وأداة ضغط هائل على الحكومات وصناع القرار، ووسيلة من وسائل الديمقراطية المباشرة (التي تتميز باستخدام التلفزيون الفضائي والانترنت في استجلاء اراء الناس وردود فعلهم ازاء الأحداث المهمة والقضايا الحساسة واتخاذ القرارات في ضوء ذلك.
وقد اضطرت الصحافة المطبوعة فى الدول المتقدمة الى تغيير سياساتها وتوجهاتها تحت تأثير التطور التكنولوجي وظروف ومتطلبات العصر الراهن، واستطاعت أن تتكيف مع التطورات الجديدة في مجال الاتصال الجماهيري باتباع وسيلتين:
الأولى: اللجوء الى التخصص، حيث اخذ كل مطبوع دوري – سواء اكان على شكل جريدة او مجلة – يخاطب جمهورا معينا له هوايات واهتمامات محددة او يتوجه الى فئة معينة – من حيث الجنس والعمر – او اصحاب مهن متشابهة – مثل الأطباء، المهندسين، المحامين، رجال الأعمال – او يتخصص فى مجال معين من مجالات العلوم والتكنولوجيا، وما الى ذلك.
الثانية: التركيز على الأحداث والوقائع المحلية المهمة وعلى الأخبار، التي تهم القراء والمعلومات التى تساعدهم على تكوين وبلورة ارائهم وقناعاتهم بأساليب ومعالجات تتسم بالحيوية والتشويق وقادرة على اثارة فضولهم، بما تقدمه من تفسيرات تفصيلية للوقائع الآنية على درجة عالية من الدقة والموضوعية، وبذلك اصبحت الصحافة المطبوعة عنصرا مكملا للإذاعة والتلفزيون، حيث تعزز ما تبثه المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية من اخبار وبرامج مختلفة.
وتشهد الصحافة الكردية المطبوعة اليوم انتعاشا كبيرا وتعمل فى اجواء مختلفة تماما عن العهود السابقة، ويتمثل ذلك فى هذا الكم الهائل من الصحف والمجلات الدورية الصادرة في الإقليم التي باتت محط انظار زوار كردستان، كما يتجلى فى تقنية الطباعة الحديثة نسبيا واساليب التصميم الفني والإخراج الصحفي، وان كان هذا التطور متواضعا قياسا الى التطور الحاصل فى الدول المتقدمة وعدد من دول المنطقة وبخاصة دول الخليج ولبنان، ولكنه تطور ملحوظ اذا اخذنا بعين الاعتبار ندرة الكوادر الكردية الفنية المؤهلة فى مجال تقنية الصحافة المتقدمة.
بيد ان هذا التوسع الأفقي والتطور التقني لم يتحولا بعد الى تطور نوعي في المستوى المهني للصحافة الكردية، فهي ما تزال أسيرة التقاليد الصحفية القديمة والأراء الجاهزة، اي انها صحافة رأي او بتعبير ادق صحافة مقالات، قبل ان تكون صحافة خبر، في زمن اخذ هذا النوع من الصحف والمجلات يتراجع بل يختفي حتى في الدول النامية، ناهيك عن الدول المتقدمة. لأن صحف الرأي اصبحت عاجزة عن استقطاب اهتمام الجمهور القارىء والتفاعل معه، و غير قادرة على منافسة وسائل الإعلام السمعية – البصرية.
يقال احيانا ان التطور اللاحق للصحافة الكردية، يرتبط بظهور الصحافة الأهلية المستقلة (صحافة القطاع الخاص) في الإقليم، الى جانب الصحافة الرسمية والحزبية، ولكن علينا ان لا ننسى ان الصحفيين فى الغرب ناضلوا طويلا من اجل التحرر من سيطرة رأس المال الموظف في الصحافة وان القيود التي كانت تفرضها الجهات الممولة للصحف على ما ينشر فيها من مواد، لم تكن بأي حال من الأحوال اهون من قيود الصحافة الموجهة من قبل الحكومات القمعية والأنظمة الاستبدادية، ولقد اثمر نضال الصحفيين فى الغرب عن مكاسب مهمة، لعل في مقدمتها، مساهمة الصحفيين فى ادارة المؤسسات الصحفية واستقلال هيئة التحرير عن الإدارة واصحاب الصحف. وقد ادى ذلك الى تغيير مفهوم حرية الصحافة التي لا تقتصر على حرية التعبير وابداء الرأي، بل يشمل ايضا ضرورة اعلام المواطن على اكمل وجه ممكن بكل ما يمس حياته ومستقبله وتوفير المعلومات التى تمكنه من الوصول الى قناعات محددة بشأن قرارات السلطة والتعبير عنها عبر شتى الوسائل وبضمنها الانتخابات العامة الحرة النزيهة، وهذا تحول بالغ الأهمية من مبدأ حرية الصحافة الى مبدأ حق المواطن فى الإعلام، وهو حق يعكس الرغبة المتزايدة فى معرفة الوقائع، كل الوقائع المهمة، وفي ضوء هذه الحقائق يمكننا ان ندرك الأسباب الحقيقية وراء عزوف القارىء الكردستاني عن معظم ما ينشر في صحافتنا المحلية، ما عدا بعض الحالات المحددة، عندما يكون هناك احداث بارزة او قرارات لها علاقة بهمومه وحياته اليومية وبخاصة ما يتعلق منها بالخدمات والسكن والتعليم والأسعار وانظمة الخدمة والتقاعد وما شابه ذلك.
ان التقنية الحديثة وحدها غير كافية لجعل الصحافة الكردية المطبوعة، صحافة مقروءة على نطاق واسع. والبعض من اهل الصحافة والمثقفين الكرد، يعزو ذلك الى قلة الكوادر الصحفية المؤهلة والمتخصصة وتدني القدرة الشرائية للمواطنين عموما والمثقفين منهم على وجه الخصوص، الذين يشكلون الجمهور القارىء الأكبر لصحافتنا المطبوعة، وهذا صحيح جزئيا وبقدر تعلق الأمر بندرة الكوادر الصحفية المؤهلة، أما القدرة الشرائية فقد ارتفعت اليوم كثيراً في السنوات الأخيرة ومع ذلك لا نجد اقبالاً كبيرأ على قراءة ومتابعة الصحف عموما ما عدا بعض الصحف، واسعة الانتشار في الإقليم التي تستقطب اهتمام القراء، خاصة حين تنشر بعض الأخبار والموضوعات المحلية الساخنة، ذات المساس المباشر ببعض جوانب الحياة اليومية للمواطنين او ما يثير اهتمامهم وفضولهم، في حين ان الكثير من الصحف والمجلات الأخرى تتكدس في الأكشاك والمكتبات دون ان تثير أي اهتمام لدى القراء، ومع ذلك، فهي مستمرة بالصدور، وهذا الأمر يثير تساؤلات عن مصادر تمويلها! ويقال ان البعض منها صحف حزبية تدعي الأستقلالية.
القارىء الكردستاني قارىء ذكي ونهم، وله اهتماماته الفكرية والحياتية وارائه الخاصة فى كل ما يتعلق بحياته اليومية ومستقبله وفي ما يجري من حوله وفي العالم من احداث، لذا فإن المواد الصحفية المملة والبعيدة عن ميوله وهمومه ومشاكله لا تهمه كثيرا، كما ان، الوسائل الإعلامية الأخرى (الإذاعة، التلفزيون، الانترنت)، قادرة على تغطية الأحداث الخارجية بشكل اسرع واكثر تشويقا وجاذبية من الصحافة المحلية المطبوعة.
لذا فإن القارىء على حق دائما، لأنه حين يقتني أي صحيفة او مجلة محلية، يتوقع ان يجد فيها ما يثير اهتمامه ويشبع فضوله وما يسهم فى اعطاء صورة حقيقية للواقع المعاش.
صحيح ان صحافتنا الكردستانية تتطور اليوم بخطى حثيثة نحو مزيد من التطور النوعي وتعمل فى اجواء هادئة ومستقرة الى حد كبير وفى اطار المصلحة العامة والقيم العليا للمجتمع الكردستاني ولا تخضع لأية رقابة او قيود رسمية، ولكنها صحافة تغلب عليها الصفة الحكومية او الحزبية، ولا توجد الا صحف اهلية قليلة مستقلة فعلاً، ولا يرجع ذلك الى اسباب سياسية، بل الى اسباب تجارية فى المقام الأول، لأن الصحف الأهلية صحف خاسرة تجاريا (من دون الدعم الحزبي)، ولكن مع ذلك، فإن الصحافة الكردية ما زالت وفية لتقاليدها الوطنية والنضالية المجيدة، ولكننا نطمح ان تكون ايضا صحافة معاصرة، صحافة خبر ورأي في آن معاً، واداة فعالة للرقابة الشعبية المستقلة على نشاطات السلطة التنفيذية وان تنهض بدور أكبر فى تطوير التجربة الديمقراطية في كردستان.
جودت هوشيار – منبر "ليبانون تايم" – 26\4\2014
إرسال تعليق