تسنى للبنانيين لأول مرة منذ نحو اربعين سنة مشاهدة مجلس النواب ملتئما في جلسة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، مارس خلالها النواب حقهم في الاقتراع السري وامكنهم الاختيار بين أكثر من مرشح او الاقتراع بورقة بيضاء، ولو ان النتيجة كانت شبه معروفة. وهذا الامر لم يكن متاحا في السابق وعلى مدى عهود الوصاية السورية، وفي أشهر الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982، اذ كان يحضر النواب للموافقة على مرشح واحد سبق التوافق عليه او فرضه مسبقا وغالبا برفع الأيدي. وآخر مرة حصلت فيها منافسة على الرئاسة، وان غير متكافئة، كانت في خضم الحرب عام 1976 بين الياس سركيس وريمون اده المعارض الشديد للاحتلال السوري والوجود الفلسطيني المسلح. وقبلها معركة الرئاسة الشهيرة عام 1970 التي انتهت بفوز سليمان فرنجيه على سركيس بفارق صوت واحد. فأين نحن من تلك الايام...
بالأمس، وبعد أسابيع من التهويل والابتزاز حضر النواب وتأمن النصاب وصوت فريق 14 آذار لمرشحه سمير جعجع الذي نال 48 صوتا، واقترع فريق 8 آذار بورقة بيضاء بلغ عددها 52 ورقة، وحصل هنري حلو على 16 صوتا كرست وليد جنبلاط «بيضة قبان» في اي تسوية محتملة. ونال امين الجميل صوتا واحدا اعتبره هو «مدسوس»، فيما كتب على 7 اوراق أسماء شخصيات واشخاص اغتيلوا خلال الحرب من باب «التمريك» على رئيس «القوات اللبنانية».
وبنتيجة هذه المنافسة بين جعجع وخصمه الرئيسي «الورقة البيضاء» لم يتمكن أحد بطبيعة الحال من الفوز لعدم حصول اي مرشح على ثلثي الاصوات (86 من اصل 128) المطلوبة في دورة الاقتراع الاولى. وكان من المفترض هنا ان يعمد رئيس المجلس نبيه بري الى اجراء دورة اقتراع ثانية كما ينص عليه الدستور يتأمن فيها الفوز لمن يحصل من المرشحين هذه المرة على النصف زائد واحد اي 65 صوتا. الا ان فريق 8 آذار الذي لم يجرؤ على التصويت لمرشحه المخضرم ميشال عون الذي لجأ فورا وقبل معرفة نتيجة الفرز الى مغادرة القاعة تهريبا للنصاب.
والمفارقة في الأمر هي ان الجنرال الذي بات يعتبر نفسه في الأشهر الأخيرة «مرشحا توافقيا» قاد هو عملية الانسحاب من القاعة ورافقه نواب «حزب الله» وسليمان فرنجية وطلال ارسلان واسعد حردان، اي الفريق المرتبط بالنظام السوري والمقطور ايرانيا. وقد عاجلهم بري خلال خروجهم من القاعة بالقول: «روحة برجعة» وهو العارف بطبيعة الحال انهم لن يعودوا، ولكن هكذا كانت تقتضي اللعبة وتوزيع الادوار داخل فريق 8 آذار وعلق عاطف مجدلاني من نواب 14 آذار قائلا: «الارجح انها روحة بلا رجعة»! وفور الانتهاء من الفرز واعلان النتيجة نادى بري على من خرج مطالبهم بالعودة رغم انه يعرف النتيجة سلفا، وبعد اجراء عملية عد للحضور تبين ان النصاب غير متوفر فرفعت الجلسة.
وفي هذه الاثناء كان «الجنرال التوافقي» يتكلم امام وسائل الاعلام معلنا بصراحة انهم انسحبوا من الجلسة «لأن تبين أن لا إمكان للتوافق على أي من المرشحين في الدورة الثانية، لذلك نحن انسحبنا من القاعة على أمل أن نتوصل في الجلسة المقبلة إلى تشكيل نوع من الإجماع على مرشح»، أي بمعنى آخر يجب ان يحصل توافق على اسمه ك»مرشح توافقي» والى حين حصول هذا الاجماع فان الجنرال وفريقه لن يعودوا الى القاعة. وهو يريد بالتالي ان يفرض اجماعا حول شخصه، ولهذا السبب لم يعلن ترشحه قبل الجلسة ولم يقم فريق 8 آذار بالتصويت له كي يتسنى لعون في ما بعد طرح نفسه ك»مرشح توافقي» بامتياز.
غير ان المضحك والمبكي في آن ان الجنرال يعتقد على الارجح ان «التوافق» هو مساحة او مكان جغرافي يقف فيه المرء ويقول بأعلى صوته «أنا توافقي» فيصبح على مسافة (جغرافية) من الجميع ومقبولا من الجميع، ويمارس ايضا نوعا من الصمت السياسي الذي يفرضه على عسكره كي لا يقع احد منهم في «المحظور الرئاسي». ولكن الجنرال في الوقت عينه لم ينتبه ربما انه خرج بالامس من القاعة مع فريقه في 8 آذار الذي يتصدره «حزب الله» المتشبث بسلاحه والرافض لسلطة الدولة، والذي يذهب للقتال في سوريا دفاعا عن النظام بقرار ذاتي رغم توافق جميع الأطراف بما فيها الحزب ذاته على «اعلان حياد لبنان»، كما انه يرفض حتى اللقاء مع الآخر الذي من المفترض ان «يتوافق» معه، اقله على الرئاسة. فقد رفض «حزب الله» مثلا اعطاء موعد لوفد من «القوات اللبنانية» كي يقدم له البرنامج الرئاسي لجعجع.
وهل ان السعي الى التوافق يكون بتبرير هؤلاء الذين اقترعوا (ومعظمهم نواب عونيين) باسماء ضحايا اغتيلوا خلال الحرب في محاولة لنكء الجراح بالقول غامزا من قناة جعجع: «اتهم بارتكاب هذه الجرائم أم أنه حوكم على ارتكابها؟ للناس ذاكرة، وهي متأثرة بهذا الوضع، وقد عبرت بطريقة ما عن مشاعرها وتفكيرها». وهل ان التحول الى مرشح «توافقي» يكون فقط بعدم استفزاز «تيار المستقبل» وتسريب وترويج اخبار ومعلومات عن تفاهمات جرت مع سعد الحريري على اعتبار انهما سيكونا «الثنائي» الناجح في رئاستي الجمهورية والحكومة؟! طبعا، يحق للجنرال ان يحلم.
لذلك، فان التعطيل سيكون سيد الموقف بدءا من الدورة القادمة الاربعاء المقبل، على اعتبار ان ليس بمقدور 8 آذار فرض مرشحها او ايصال مرشح مقبول منها بمفردها، وبالأخص لأن الثنائي برّي - جنبلاط لن يصوت لعون رئيسا (ولا لجعجع) ويحاول ان يسوق «مرشحا توافقيا» يقبل به فريق 14 آذار. ولكن لدى 8 آذار سلاح تعطيلي بامتياز هو تطيير النصاب طالما انه، وباصرار من بري وتفسيره الاستنسابي للدستور، ثابت على حضور 86 نائبا لافتتاح اي جلسة وليس الاولى فقط.
25/4/2014 سعد كيوان - اللواء
إرسال تعليق