0
سياسي مخضرم، شق طريقه بمثابرة وثبات، عبر أكثر من محطة في النيابة ثم الوزارة ليصبح شخصية لبنانية كرسها بمشاركته في وضع «اتفاق الطائف». عاصر على مدى أكثر من اربعة عقود، عهود ورؤساء وزعماء وشخصيات، من كميل شمعون الى بيار الجميل والياس سركيس، ومن رشيد كرامي الى كمال جنبلاط وكامل الأسعد، ومن صائب سلام الى رفيق الحريري.

بطرس حرب براغماتي بامتياز، يتقن اللعبة السياسية، عرف كيف يصبح تدريجيا رقما في المعادلة اللبنانية ويبقى محافظا على استقلاليته ضمن الصراع القوي الذي يتجاذب الساحة المسيحية. انخرط في السياسة باكرا عند انتخابه عام 1972 نائبا عن قضاء البترون وهو لا يزال في الثامنة والعشرين، على اثر وفاة عمه النائب السابق جان حرب الذي خسر مقعده عام 1968 بعد ان شغله اربع دورات متتالية (1953 - 1968).
سعى حرب منذ البداية الى ان يضفي على الوراثة مشروعية سياسية، وان يجمع بين الارث العائلي-العشائري (عائلة حرب في بلدته تنورين تعد أكثر من ألفي ناخب) وطموحاته كمحام شاب نشأ وتعلم في بيروت، بعد ان تنقلت عائلته بين مدينتي جبيل وطرابلس، ثم التحق بالجامعة اليسوعية لدراسة الحقوق. فخاض اول انتخابات له في لائحة واحدة مع جورج سعاده، الذي كان اول كتائبي ينجح في القضاء عام 1968 ويصبح لاحقا (1986) رئيسا لحزب الكتائب. وبارك اللائحة يومها سليمان فرنجيه الذي أصبح في 1970 رئيسا للجمهورية. 

فاز الاثنان رغم انهما كانا متباعدين في السياسة، اذ ان عم بطرس كان منتميا الى «حزب الوطنيين الاحرار» ولكن شعبيته تقوم على العصبية العائلية الجردية البعيدة عن الانتماء الحزبي، فيما بقي هو محافظا على استقلاليته وعرف كيف يبقى على مسافة من «الكتائب» و»الاحرار» وفرنجيه. وشكلت الظروف عاملا مساعدا للنائب الشاب الذي تحول بسرعة الى الأكثر شعبية في قرى جرد البترون مع انكفاء غريم العائلة التقليدي منوال يونس، وترافق ذلك مع بداية أفول الزعامات العائلية التقليدية، خصوصا في وسط القضاء وساحله، وانحسار شعبية يوسف ضو، اول نائب عن البترون بعد الاستقلال (1943- 1951).

لم يكد يثبت خطواته حتى دخل لبنان اتون الحرب الاهلية، التي كاد ان ينجر اليها عبر انشائه «لواء تنورين». الا انه بعد فترة قصيرة، وعلى اثر انتخاب الياس سركيس رئيسا للجمهورية، تراجع عن الخطوة، وراح يبتعد شيئا فشيئا عن ميليشيات الاحزاب المسيحية. ثم دفعته حادثة الصدام بين الجيش اللبناني والجيش السوري والاحزاب المسيحية في الفياضية عام 1978، هو وزملاء له الى اطلاق «تجمع النواب الموارنة المستقلين» الذي ضم يومها اوغست باخوس، والياس الهراوي، وطارق حبشي، وجبران طوق، وحبيب كيروز وآخرين، والذي طرح بجرأة مجموعة مبادىء منها: وحدة لبنان شعبا ومؤسسات، دعم السلطة الشرعية، حل الميليشيات المسلحة، رفض الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، دعم القضية الفلسطينية واعتبار الحوار الوسيلة الوحيدة للحل». وعلى اثر ارتكاب مجزرة اهدن التي ادت الى اغتيال طوني فرنجيه في 13 حزيران 1978 توجه حرب برفقة الهراوي وحبشي الى الفاتيكان مطالبين تدخله لاجراء مصالحة بين الرئيس فرنجيه و»الكتائب». 

تموضعه في الوسط كصوت اعتدال مسيحي حمله لأول مرة الى الحكومة الثانية التي شكلها سليم الحص عام 1979، وهو في الخامسة والثلاثين، واسندت اليه حقيبتين مهمتين هما التربية والاشغال. وكانت تجربته ناجحة في كلا الوزارتين، وبالاخص التربية اذ تمكن من وقف عمليات الغش والتزوير في الامتحانات الرسمية، وضبط الامتحانات وتعميمها على مراكز مشتركة رغم خطورة التحرك بين المنطقتين «الشرقية» و»الغربية» من بيروت. ووضع مشروعا لانشاء وزارة الثقافة، وعزز الجامعة اللبنانية عبر انشاء كلية للهندسة واطلاق مشروع كلية الطب والصحة العامة. وقد عاد الى وزارة التربية نهاية عام 1990 في حكومة عمر كرامي التي اسقطها حرق الدواليب في 16 ايار 1992.

ومع اشتداد حدة المواجهة وسعي حافظ الاسد المستمر لتأجيج النار بين طرفي الصراع، راح يشتد ساعد بشير الجميل كقائد عسكري لل»القوات اللبنانية» عبر «توحيد البندقية» (تموز 1980) بعد صمود الاشرفية في «حرب المئة يوم» (1978) أمام قصف الجيش السوري، وسعيه لفرض نفسه الزعيم المسيحي الشاب الأقوى طمعا برئاسة الجمهورية. وراح منطق القوة يتعزز أكثر فأكثر ويسابق (أو يواكب؟) التسويات الاقليمية التي لم تتمكن من منع اسرائيل من اجتياح لبنان، في حزيران 1982، والوصول الى العاصمة بيروت ومحاصرتها برا وبحرا وجوا. وكان من نتائج الاجتياح اجبار «منظمة التحرير الفلسطينية» وتنظيماتها المسلحة على الخروج من لبنان، وانتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية بأكثرية 57 صوتا من ضمنها اصوات «تجمع النواب الموارنة المستقلين» بعد عملية قيصرية لتأمين النصاب الدستوري لمجلس النواب الذي التأم في المدرسة الحربية في الفياضية. 

غير ان الرئاسة تحولت في غضون ثلاثة أسابيع فقط الى مأساة باغتيال بشير الذي لم يتمكن من تسلم مهامه كرئيس. وتحول عهد شقيقه أمين الى سنوات من شد الحبال والسباق بين مبادرات لوقف اطلاق النار واشعال لجبهات القتال، ومن مؤتمر جنيف الى مؤتمر لوزان، الى «انتفاضات» على «القوات اللبنانية» وفي داخلها، فيما النظام السوري مستمر في سياسة «فرق تسد» عبر محاولات تطويع الطرفين. وانتهى العهد بمأزق كبير ادى الى فراغ رئاسي «عالجه» الجميل بتكليف قائد الجيش ميشال عون تشكيل حكومة انتقالية، الا ان المناخ طاب لهذا الأخير فدخل القصر الجمهوري وتمركز وراح يبني زعامته من بعبدا. 

عندها نجحت وساطة «اللجنة الثلاثية العربية» في تنظيم مؤتمر «الطائف» الذي كان حرب احد أهم النواب المشاركين في صناعته، والذين لم يبق منهم اليوم سوى اثنين، هو وعبد اللطيف الزين (82 سنة). ذهب حرب الى الطائف رغم ان «الجنراليسيم» عون اتخذ قرارا هامايونيا بحل المجلس وهو قرار لا يدخل ضمن صلاحياته كرئيس حكومة انتقالية، وشن حربا على النواب لمنعهم من السفر.

وعاد النواب الى لبنان وانتخبوا على الفور رينيه معوض رئيسا للجمهورية، الذي تم اغتياله بعد سبعة عشر يوما فقط على تسلمه صلاحياته. عندها سارع النواب الى ملء الفراغ بانتخاب الياس الهراوي لتتكرس الهيمنة السورية الكاملة. ثم التأم مجلس النواب ليصدق على «وثيقة الوفاق الوطني» التي أقرت في الطائف وأصبحت دستورا، وشارك حرب في اول حكومة شكلها عمر كرامي في نهاية 1990. وبعد سقوطها بدأت معركة رفض مشروع قانون انتخاب جديد مخالف ل»وثيقة الوفاق» خاضها حرب الى جانب الاطراف المسيحية. ثم كان قرار الفريق المسيحي في صيف 1992 مقاطعة الانتخابات، وشاركه فيها بعض المسلمين وفي مقدمهم صائب سلام ونجله رئيس الحكومة الحالي تمام سلام. وشملت المقاطعة 85 في المئة من الناخبين، ومع ذلك حصلت الانتخابات.
ودخل لبنان ما بعد «الطائف» عصر الوصاية المباشرة والقاسية باحكام النظام السوري قبضته على مفاصل السلطة، واستتبع الطبقة السياسية بمعظمها وبعض المسيحيين وطوع المؤسسات. وبدأت مرحلة صعبة ودقيقة امتدت نحو خمس عشرة سنة وقف فيها حرب معارضا المجلس الجديد والحكومة التي انبثقت عنه، والتي حملت لأول مرة رجل الاعمال رفيق الحريري الى رئاسة الحكومة لتكرس لاحقا زعامته اللبنانية. 

بقي حرب اربع سنوات خارج المجلس وراح يدوزن خطواته بعد ان اصبح سمير جعجع في السجن وعون في منفاه الباريسي الذهبي. كان يعارض من دون ان يكسر، ويهادن من دون ان يوالي محكوما بصداقته مع الهراوي. وجاءت انتخابات 1996 بعد ان قرر الأسد التمديد للهراوي في صيف 1995 من على صفحات جريدة «الأهرام» المصرية. وبدأ تركيب لوائح البوسطات والمحادل على قياس النافذين والمستزلمين، وعاد حرب عن المقاطعة ولكنه واجه حصارا في محافظة الشمال لمنعه من الدخول في اي من اللائحتين اللتين تواجهتا على خلفية الصراع غير الخفي بين المقربين من الحريري وأصحاب «الولاء السوري الصافي». عندها شكل حرب لائحة ثالثة غير مكتملة مكنته من الخرق وتسجيل فوز لافت قارب المئة ألف صوت، وفاز معه ايضا مصباح الأحدب الذي ترشح للمرة الأولى. 

اشتدت المعارضة لسياسة الحريري ونهجه الاقتصادي، ودفع الفوز الانتخابي الباهر حرب الى الواجهة أكثر فأكثر فشارك في اطلاق «اللقاء الوطني اللبناني» الذي ضم الراحل نسيب لحود، وحسين الحسيني، وسليم الحص، وعمر كرامي ومحمد يوسف بيضون. وفي نهاية 1998 انتخب العسكري اميل لحود الشديد الولاء للنظام السوري رئيسا للجمهورية بعد ان تم تعديل الدستور «استثنائيا ولمرة واحدة»! الا ان حرب سجل اعتراضه المبدئي على التعديل. وأدى مجيء لحود الى فرط عقد «اللقاء الوطني» بعد اقل من سنتين على اعلانه، عندما تم استبعاد الحريري واستدعاء الحص لتشكيل حكومة كانت كمن يحركها بال»رموت كونترول» من دمشق.

وشهدت تلك المرحلة بين 1998 و 2000 اشتداد القبضة السورية على البلد وتشديد الحملة على الحريري الذي اضطر الى الابتعاد لفترة عن لبنان. وخلال الانتخابات النيابية في 2000 اختار حرب، البارع في تدوير الزوايا، التحالف مع احد طرفي «الكباش الشمالي» الذي جمع يومها سليمان فرنجيه ونجيب ميقاتي في مواجهة عمر كرامي ونايلة معوض، وتمكن من الفوز.

وفي 20 ايلول من ذاك العام اطلقت بكركي نداءها الشهير مطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان، وبعده بأشهر قليلة رعت قيام لقاء «قرنة شهوان» الذي جمع كل القوى والشخصيات المسيحية المعارضة، والتي كان حرب واحد من نوابه وركائزه الاساسيين. وتحول اللقاء بسرعة الى قوة فاعلة وضاغطة عمل النظام السوري وبكافة الوسائل على محاصرته ومنع تواصل المسلمين معه. الا ان جنبلاط في العلن، والحريري من وراء الكواليس، بدءا مد خطوط التواصل مع مكوناته تمهيدا لخلق معارضة وطنية فاعلة في وجه النظام الامني السوري-اللبناني ومخابراته، وخاضوا معا معركة منع التمديد للحود. يومها، حرص حرب على ابراز استقلاليته عبر اعلان ترشحه لرئاسة الجمهورية، ولكن التمديد حصل ودفع بشار الاسد لبنان الى مواجهة خطيرة أدت الى اغتيال الحريري وقيام «انتفاضة الاستقلال» الثاني في 14 آذار 2005 التي اجبرته على سحب جيشه من لبنان. 

حافظ حرب باستمرار على شعبية وحضور قويين بحيث بات المرشح الأقوى في قضاء البترون. وقد خلقت تطورات 2005 معطيات جديدة وضعته للمرة الأولى في مواجهة مرشح عوني هو جبران باسيل صهر الجنرال، وتمكن من الفوز متحالفا مع مرشح «القوات اللبنانية» انطوان زهرا، وجدد الاثنان فوزهما في 2009. وفي 2007 ترشح حرب مجددا للرئاسة مثلما فعل زميله نسيب لحود، الذي حظي بتبني قوى 14 آذار لترشيحه رسميا. 

ومؤخرا، خلال عام 2013 لم يتردد في معارضة مشروع قانون انتخابي عرف ب»القانون الارثوذكسي» السيء الصيت رغم تبنيه من قبل الاحزاب المسيحية وبكركي، ورغم ما لهذا الموقف الجريء من مضاعفات على الصعيد الانتخابي في دائرته، وعلى مجمل موقعه على الساحة السياسية المسيحية.

لم يشأ حرب ان يعلن ترشحه هذه المرة، لأنه أولا يعتقد بدون شك انه موجود في الساحة ب»قوة الواقع». وثانيا، لأن مرشحي 14 آذار كثر والاتفاق على مرشح واحد لا يبدو امرا سهلا. وثالثا، لأنه يدرك على الارجح ان لا انتخابات في المدى المنظور. ولكن، هل لذلك علاقة ما بمحاولة الاغتيال التي تعرض لها في تموز 2012 والمتورط بها احد عناصر «حزب الله؟!

18/4/2014 سعد كيوان - اللواء

إرسال تعليق

 
Top