تنتصب الفنادق الفخمة بنجومها المتعددة في شارع ’"كاتاي"، وسط مدينة غازي عنتاب جنوب تركيا. مركز الحراك السياسي السوري المعارض.
وراء هذه الوجوهِ جميعاً، وفي قلب هذا الشارع بين فندقين، أرض غائرة لم تطالها يد الاستثمار السياسي العمراني بعد. هي جزءٌ من هيكل يقوم على مادة التنك.
استوقفني المشهد البائس. اقتحمتُ عزلة المكان بذريعة حاجتي لكأس ماء. حديثٌ بسيط مع "أم عبود" سيدة منزل الصفيح أفضى إلى دعوتي لكأس شاي، عائلةٌ من سبعة أشخاص في مستوعب معدني هشّ، لا تتجاوز مساحته الكاملة الامتار العشرة.
أربعة أطفال وفتاتان وأب وأم، اجتمع مضيفي على موقدة مكشوفة حولي، تعجُ بثاني أوكسيد كربونها في صدور الجميع. يسردون حكاية عاصفة بالموت. قادمة من بلاد، أصبح هذا الموت عنوانها اليومي.
هربوا من قصف النظام، على مدينة اعزاز، في ريف حلب الشمالي المحرر حيث لجأوا إلى مخيم باب السلام الحدودي مع تركيا، قبل أن تلاحقهم حرب ثانية. ما بين داعش والجيش الحرّ. قبل أن تنهي إقامتهم هناك سيارة مفخخة.
نجوا من نيران الموت الاعمى مرتين. ليدخلوا في جحيم البرد من بوابة شوارع عنتاب. بما يعتبر مكرمة من مواطن تركي، جعل هذا المستوعب وطناً ثالثاً لهم.
"أم عبود" ربة هذا المستوعب المسمى مجازاً منزلاً. أسرت لي بأنهم في فردوس مقارنة بمن تركوهم ورائهم. بيتهم تهدم في مدينة أعزاز الريفية بحاوية محشوة بالمتفجرات ألقاها طيران النظام تحت ذريعة استعادة أراضي يسيطر عليها الارهاب واستردادها لحضن الوطن. أخرجهم القدر من موت الصدفة.
والآن درجة حرارة تلامس الخامسة تحت الصفر.. تسبّح أم عبود و زوجها بنعمة الثاثية المؤلمة وحسن الحظ على هذا الحال المتقدم. عن من يعرفونهم. من جيران تشتتوا بين القبور أو الكهوف.
ودعتُ أصحاب هذا المدفن المعدني. بعد أن ملئتني حرارة كرمهم، تحت قسم إيمانهم بعودتي لزيارتهم قريباً في اعزاز. عندما تنتهي هذهِ الحال المفتوحة للصراع بالفرج القريب. ابتسمت وفي عقلي تدور حركة اسئلة مفتوحة. عن وجوههم، مستقبلهم، بؤسهم، ما بين سقف سماء الموت في البلاد.
وسقف بارد مفتوحٌ على أمنيات الضحية. قسوة المشهد السوري، أعلنت الحرب على اسئلتي، فتضيعُ في زحامِ الفوضى المشرّع على بوهيمية الغد.
مهند الفياض - منبر ليبانون تايم 25\3\2014
إرسال تعليق