0
كتبت راغدة درغام - بين تمادي فلاديمير بوتين حتى التطاول وانحسار باراك أوباما حتى التقلص درجات عدة من صنع العلاقات الأميركية – الروسية وحلقات عدة في تأثير تلك العلاقة في الملفات الدولية. أوكرانيا تشكل اليوم ساحة اختبار لشخصية كل من الرئيسين وهي أيضاً معيار لحكمة القيادة لدى كل منهما. السيرة الذاتية – أو ما يسمى Legacy – للرئيس الأميركي باراك أوباما في الميزان. والسيرة التاريخية لما يصنعه بوتين بمستقبل روسيا في الامتحان. بين سيرتيهما تتأرجح تسويات ممكنة ومواجهات واردة وإنما ليس أبداً في حرب أميركية – روسية مباشرة يعتزم كلاهما تجنبها. مواقع ومساحات المقايضة أو المواجهة لها هوية متعددة الجنسية انما الفائدة أو الخسارة تطاول بالتأكيد الرجلين وبلديهما. فلاديمير بوتين، الهادئ العنيف الذي يدخل التاريخ عبر بوابة القومية – الوطنية الجامحة لإحياء عظمة تم هدرها على حافة الانفتاح على الديموقراطية، فأخذ على الإقدام لدرجة التهوّر. باراك أوباما، البراغماتي المسالم الذي أحيا الحروب السرية المبعثرة مستخدماً فيها تكنولوجيا عسكرية تعفي الجنود الأميركيين من خوضها، بات متردداً في المواجهة لدرجة اكتساب صفة الرئيس الضعيف الذي يسلب أميركا نفوذها وهيبتها واستفرادها.

باراك أوباما دخل البيت الأبيض متوّجاً بهالة الكاريزما والعزم على تغيبر العالم الى الأفضل، ثم تقلّص وخلع ثوب الإيحاء بالحلم وقفازات التغيير بالأفعال. بدأ شعار «في قدرتنا ان نفعل»، وانتهى الانقلاب على شعاره. أوباما المرشح للرئاسة الذي قبض على قلوب العالم ومخيلتهم بات رئيساً براغماتياً بلا زخم القيادة الخلاقة. أصبح اعتيادياً فيما كان فوق العادة في أذهان الناس. نال أوباما الرئيس سمعة لا تتماشى مع سمعة أوباما المرشح وخسر دعماً وشعبية عارمة محلياً وعالمياً. وحتى الآن، قد يتذكر التاريخ باراك أوباما في الرئاسة عبر صورة العد العكسي الى توجيه ضربة عسكرية في سورية ثم التراجع في الساعات الأخيرة لأنه رجل لا يريد المواجهة. انما حدث أوكرانيا قد يضفي على باراك أوباما صفات أخرى وذكرى مختلفة إذا لعب الشطرنج مقابل فلاديمير بوتين بحذاقة وزجّه في الزاوية.

فلاديمير بوتين لم يدخل الكرملين كما دخل أوباما البيت الأبيض محاطاً بالترحيب العالمي والتشوّق الى ماذا ستأتي به كاريزما شخصيته على العالم. بوتين صنع شخصيته من تاريخه الاستخباري العسكري وحاك هوية القومية الروسية لاستعادة الوزن السوفياتي في العالم. حدّة شخصية فلاديمير بوتين يرافقها عنف متين. قل ما يبتسم وهو يجلس في الكرسي مسترخي الكتفين بمسافة واسعة للساقين، عمداً. عنف هدوئه وهو يحيك سيرته الذاتية كرئيس روسيا وقيصرها الجديد جعله يكتسب كاريزما مختلفة مميزة في أذهان الروس وكثيرين في العالم. فهو الرجل الذي يبدو جاهزاً لأخذ زمام المبادرة وعازماً بلا تردد أو خوف أو تراجع ينتظر على مفرق الطريق.

النقاش في الساحة الأميركية والعربية يدور حول ما إذا كان بوتين اتخذ اجراءاته العسكرية في القرم في أوكرانيا لو كان أوباما أكثر حزماً في سورية. أو، هل لدى بوتين اصرار وعزم وخطة بعيدة المدى واستقواء وأوراق مكّنته من اعادة ضم القرم عملياً الى روسيا بغض النظر عن ضعف أو تقلص أو تراجع أوباما.

استقواء بوتين له بالتأكيد علاقة برخوة أوباما، انما هذا نصف القصة وليس القصة بكاملها. بوتين قرأ ضعف أوباما بأنه فرصة له لدفع الأمور الى ما يشاء لتخدم مصالحه ومصالح روسيا. استفاد من الانعزالية الأميركية والتنصل من الانخراط والنأي بالنفس عن المسألة السورية، فنصّب نفسه الفاعل الأكبر في صنع مستقبل سورية. قرر ان الساحة السورية ملك وذخيرة لطموحاته الاقليمية ومساوماته الدولية. قرر بوتين أنه الرابح الأكبر استراتيجياً والمنتصر عسكرياً في المعركة على سورية – أو هكذا تخيّل له.

ذلك ان من المبكر جداً الحسم إذا كان فلاديمير بوتين حقاً فاز بسورية وانتصر فيها، أو أنه تورّط في قيادة الحرب على التطرف الإسلامي باستدراج ذكي وضعه في فوهة البندقية.

قد تكون استراتيجية الإنهاك المتبادل بين قوى المحور الذي يضم النظام في دمشق و «حزب الله» وروسيا وإيران والصين وبين قوى التطرف السلفي نظرية منبثقة من تحليل واقعي وقد تكون خطة أميركية مدروسة ضمن السياسات الكبرى البعيدة المدى التي تتعدى الإدارات المتتالية.

مهما كان، انساق فلاديمير بوتين الى المعركة السورية فبات طرفاً في حرب الاستنزاف الدائرة. تخيّل له ولكثيرين ان ضعف باراك أوباما فسح المجال له ليستعيد النفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط. واقع الأمر ان استقواء بوتين اكتسب له عداءات كثيرة وخطيرة وأنمى قوى الإرهاب والتطرف الإسلامي في جيرته الآسيوية كما في داخله الشيشاني. حقيقة الأمر أن روسيا دخلت طرفاً مباشراً في الحرب الأهلية السورية وباتت ايضاً في مقعد القيادة الدولية لما يسمى الحرب على الإرهاب، فعرّضت نفسها للمحاسبة والانتقام.

ورَّطت روسيا بوتين نفسها في سورية أم انها تورطت بسياسة مدروسة لإدارة أوباما قوامها الامتناع عن التدخل في المستنقع السوري الذي يغرق فيه أطراف المحور وهم يتصوّرون أنهم يسبحون الى ضفة الانتصار؟

هذا السؤال يعيد نفسه في الحدث الأوكراني. هل هي الحنكة الأميركية التي مدت حبل الخناق حول رقبة فلاديمير بوتين واستدرجته الى غزو القرم واحتلاله؟ أم أن اساءة الحسابات الأوروبية والأميركية أسفرت عن حشد الدعم الشعبي وضخ القومية المتطرفة وراء بوتين فزادت في تنصيبه قيصراً؟ مهما كان الجواب، ان بوتين تورط في أوكرانيا مع انه يمتلك أوراقاً عدة تجعله قادراً على المساومة والمكابرة.

وهنا الجزء الآخر من القصة. فلاديمير بوتين كان سيتصرف في أوكرانيا كما تصرف، بغض النظر عن ضعف أوباما وتردده أو حنكته وحذاقته. فالنزعة القومية لديه أقوى من حساباته الهادئة. عندما يُستدرَج يهرول الى سلالم الاستدراج. وعندما يشعر بالإهانة، يضع نصب عينيه غمامات الانتقام.

القرم بالنسبة الى فلاديمير بوتين تشبه ما كانت الكويت في ذهن ومخيلة الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. صدام اعتبر الكويت «المحافظة 19» للعراق، فغزاها واحتلها معتقداً ان العالم لن يحاسبه أو يرغمه على الانسحاب. وقعت حرب بتحالف اقليمي ودولي أجبرت صدام على الانسحاب من الكويت وأصبحت الكويت الخاصرة الضعيفة لصدام الذي انتهى في حفرة مختبئاً من المحاسبات.

لن تحدث حرب اقليمية ودولية بسبب غزو روسيا لشبه جزيرة القرم واحتلالها. موسكو تنفي وترفض وصف اجراءاتها بالغزو والاحتلال وهي تصر على مصالحها القومية والثقافية والاقتصادية في شبه الجزيرة التي ألحقها الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف – يُقال تحت تأثير الفودكا وغطرسة العظمة السوفياتية الدائمة للأبد – بأوكرانيا عام 1954 أثناء الاحتفاء بمرور 300 سنة على اتحاد روسيا وأوكرانيا.

بوتين اضحى واثقاً بأن الخيارات المحدودة لدى باراك أوباما والقيادات الأوروبية ستؤدي عملياً الى اعفائه من المحاسبة، بل والخضوع أمام إملاءاته وشروطه إذا وافق على التراجع قليلاً أو إذا بدأت مفاوضات التسوية الكبرى.

بوتين أيضاً يرتاح كثيراً الى مواقف ألمانيا وبالذات المستشارة انغيلا ميركل التي لطالما أبدت تقارباً وتعاطفاً واحتضاناً مع مواقف روسيا سواء كان في سورية أو في تحالف الأمر الواقع لموسكو مع ايران.

الرئيس الروسي واثق بأن الذاكرة الغربية قصيرة وضعيفة وأن الانصباب الدولي على أوكرانيا عابر والعالم سينسى احتلال روسيا للقرم كما سبق وتناسى ان جزءاً من جورجيا ما زال تحت الاحتلال الروسي عندما وافق على انعقاد الألعاب الأولمبية في روسيا.

ثم ان فلاديمير بوتين يكره مسيرة «الشعب يريد» ويحتقرها. أما وقد وصلت تلك المسيرة الى ميدان التحرير في كييف، فإنها وصلت الى مرمى منه، ولن يسمح لها بأن تحقق أية انجازات – إن كان في صورة اسقاط رئيس واختيار آخر، أو إن كان في سياق التوجه غرباً للانتماء الى الاتحاد الأوروبي ولاحقاً الى حلف شمال الأطلسي (ناتو). هذا من وجهة نظر بوتين.

لكن أوكرانيا قد تصبح الخاصرة الضعيفة لبوتين وفاصلة الاستدراج الى أخطاء تجعله يحفر بيديه تلك الحفرة التي يعدها لنفسه. لن يكون مثل صدّام في الحفرة، لكن انزلاق بوتين الى هوى غطرسة الطغاة ليس مستبعداً. ثم ان هناك اجراءات يمكن الولايات المتحدة اتخاذها – لو شاء أوباما – لإضعاف بوتين. فليست كل الإجراءات رمزية.

لعل العقوبات الاقتصادية التي هددت بها دول حلف شمال الأطلسي سيف ذو حدين. ولعل الحركة العسكرية لقوات «الناتو» في البلطيق مجرد شد عضلات رمزية. وربما كل التطويق الذي يحدث لروسيا في الأمم المتحدة لعزلها معنوياً لا يصيبها في الصميم. انما كل هذا لا يعني ان أثر هذه الإجراءات هامشي أو عابر. فالتطويق الرمزي والمعنوي والاقتصادي وعبر استخدام نفوذ الناتو ليس مجرد تمرين بلا جدوى.

ثم ان هناك خيارات عملية متاحة. فمثلاً: لو قرر الرئيس الأميركي احياء الخطط التي قدمها له البنتاغون ومجلس الأمن القومي لشن هجوم من نوع Cyber attack على المفاصل العسكرية للنظام في سورية التي تدعمها روسيا، لتمكّن بالتأكيد من إضعاف المحور الروسي – السوري في المعادلة العسكرية في الحرب السورية ولأضعف بوتين في خاصرته السورية.

عام 1979 وبعد الغزو السوفياتي لأفغانستان، لجأت الولايات المتحدة الى صنع الأصولية الإسلامية المتطرفة وأطلقت الجهاد الإسلامي الذي ساهم جذرياً في إسقاط الاتحاد السوفياتي. هكذا وُلِدت «القاعدة» ومشتقاتها من تلك الأحشاء.

روسيا اليوم في حرب مع التطرف الإسلامي جعل بوتين منها ركيزة مهمة في سياساته الخارجية. حوّل بوتين عبء مكافحة الإرهاب من الأكتاف الأميركية الى الأكتاف الروسية. وهذا مريح جداً للولايات المتحدة التي تريد إبعاد حروب مكافحة الإرهاب عن أراضيها.

فلاديمير بوتين أراد أن ينسخ ما فعله جورج دبليو بوش في العراق عبر حربه في سورية – الى إبعاد المعركة عن المدن الروسية والجيدة لروسيا. لكن أوكرانيا باتت تشكل خاصرة ضعيفة لبوتين لأنها تفتح باباً آخر عليه. وهي في حديقته الخلفية.

فك الارتباط الغربي بروسيا نتيجة مغامراتها الأوكرانية سيعرّض روسيا للهشاشة وسيعرّي فلاديمير بوتين قيصراً بلا ثياب أمام انتقامات مختلفة. بعض أوجه الانتقام قد يظهر على أيدي التطرف الإسلامي الذي أصبح العدو الأكبر لروسيا، على ما يراه بوتين. وبعضه قد يظهر في كلفة الحرب على الإرهاب. فلقد سبق أن سددت الولايات المتحدة فاتورة الحرب على الإرهاب في أفغانستان مثلاً حيث استفادت روسيا من دون أن تشارك في دفع الفاتورة. والآن قد يحدث العكس.

بوتين يخوض الآن حروب الزعامة والقومية والفوقية وهو في خضم حربه على التطرف الإسلامي. هكذا وضع على أكتافه وأكتاف روسيا أعباء كلفة كبيرة.

فللتمادي كلفة. واليوم، يبدو ان كلفة التمادي تتضاعف فيما كلفة الانحسار تزداد تقلّصاً حتى إشعار آخر. والى حين التأكد إن كان باراك أوباما حقاً تبنى سياسة الانحسار أو أنه عملياً يورّط ببراغماتيته الخافتة الصوت ذلك التسونامي الآتي بضجيجه الهادئ العنيف.

الحياة - 7 اذار 2014

إرسال تعليق

 
Top