0
المداخلات والمناقشات التي شهدها مجلس النواب خلال يومي الأربعاء والخميس الماضيين، كشفت حقيقة باتت بالنسبة الى كثيرين في خانة لزوم ما يلزم، وهي أن الحكومة الحالية التي نالت الثقة أخيراً بعد مخاض عسير لا تعني إطلاقاً أن ثمة بوادر لتسوية تخفّض منسوب "الاحتراب" السياسي بين طرفي الصراع الأساسيين أي "حزب الله" وتيار "المستقبل".

إنها وفق التعريف الأوضح والأجرأ لنائب "القوات اللبنانية" جورج عدوان تسوية "لفظية"، لكن اللافت كان مداخلة رئيس كتلة نواب "حزب الله" محمد رعد التي كانت أكثر وضوحاً وجلاء، في الإفصاح والتعبير عن رؤية الحزب لحقيقة ما تم منذ ان تألفت الحكومة السلامية إلى أن نالت ثقة مجلس النواب، فالحزب لا يملك أية أوهام حول امكان أن يكون ما استجد هو، في ذهن الحزب ورؤياه العميقة، مقدمة لتسوية سياسية مع تيار "المستقبل". فهي بالنسبة اليه خطوة اضطر الحزب إلى خطوها في اتجاه اشتراك التيار في لعبة الحكم والسلطة على نحو لا يبقيه خارج دائرتهما يستخدم ما يستخدمه عادة المعارضون وهو الشارع وخطاب التحريض وما يمكن أن يندرج في هذا الخيار من "أسلحة".

على لسان رعد كرر الحزب مسلّماته الآن وغداً وبعد غد: المقاومة وسلاحها ثابتة لا يمكن أن يأتي حين من الدهر ويتم التخلي عنها تحت وطأة الترهيب أو الترغيب، والفريق الآخر ("المستقبل") خصم سياسي ينتظر منه ما ينسجم مع هذا الموقع، ولكن على قاعدة استعداد الحزب لطي صفحة "العداوة" تلك، والشروع في مرحلة جديدة عنوانها العريض الهدنة والبحث عن قواسم ومشتركات تكون في العادة بين طرفين اساسيين في ساحة كل منهما. وبناء على ذلك فإن الحزب يعي تماماً أنه ذاهب في رحلة شركة سياسية مع طرف ما برح يبعث إليه يومياً برسائل متتالية عنوانها: "إننا لن نكف عن الضغط على ما نعتبره نقاط ضعف لديك: سلاح المقاومة والانزلاق إلى الميدان السوري لاعباً أساسياً".

وبمعنى آخر يعلن الحزب بلسان رعد الذي ادلى بخطبة بليغة ومعبّرة، أنه يتقبل فكرة الشركة في حكومة "ربط النزاع" وفق المصطلح الذي أطلقه عليها الرئيس سعد الحريري، وبالتالي لم يعد مهماً بالنسبة اليه، وفق مصادر على صلة بالحزب، أن تكون الحكومة الجديدة هي حكومة "مساكنة" أو "تعايش"، وليس مفاجئاً له حرص رموز تيار "المستقبل" في جلسة مجلس النواب وخارجها على إظهار أن الخلاف الرؤيوي بينه وبين الحزب ما انفك في ذروته، فالحزب مقبل على هذه الشركة مع هذا الفريق متكئاً على رؤية عميقة للمقدمات والنتائج واستطراداً للمكاسب المرجحة والخسائر المحتملة، فهو أقبل الى شركة "معقدة"، بعدما تيقن من أن "لعبة" الاستفراد مع حلفائه السياسيين في السلطة عبر حكومة الرئيس نجيب ميقاتي استنفدت اغراضها ووظيفتها، وهو كان يتمنى ضمناً لو استمرت، ولكنه علم أن حدود قدرة ميقاتي على الاستمرار قد بلغت منتهاها.

وأكثر من ذلك يسير الحزب إلى الشركة كخيار واعٍ لإدراكه أن خصمه السياسي مني خلال الأعوام الثلاثة التي جلس فيها قسراً في مقاعد المعارضة والنأي عن "جنة" السلطة قد ابتلي بجملة سقطات، بدأ يحصد ثمارها ونتائجها المرّة من علاقته المتردية مع دار الإفتاء وحربه الضروس مع رأسها وهو سابقة في تاريخ العلاقات داخل الطائفة السنية ومراكز القوى فيها، الى استشراء الحالات السلفية التي يصعب تطويعها والسيطرة عليها في لحظات معينة، في الشارع الذي كان يخال "المستقبل" أنه طوع بنانه، ولعل تجربة طرابلس المرّة أفصح مثال، خصوصاً في جولات العنف الأخيرة، فقادة المحاور انطلقوا في رحلة حسابات ورهانات خاصة بهم ولا تتماهى مع "اجندة" "المستقبل" لا سيما بعدما شعروا بأن "دورهم الوظيفي" شارف الانتهاء بعد نجاح القوات السورية النظامية في تحقيق مكاسب ميدانية في الجزء السوري المتاخم للشمال اللبناني وتحديداً في ريف تلكلخ وقلعة الحصن وقبلها الزارة امتداداً إلى ريف حمص الغربي. 

وأكثر من ذلك صار "المستقبل"، وفق ما يقوله الحزب، محكوماً بالدخول عاجلا أم آجلا، في "لعبة" صعبة عليه هي لعبة "ضبط" هذه المجموعات التي ستصير ولو بعد حين عبئاً عليه بعدما تولى وزارتي الداخلية والعدل. وبمعنى آخر ثمة خشية لدى قادة محاور طرابلس من أن ينتهوا نهاية "القادة" في عرسال البقاعية.
 
ولا ريب أن الحزب يضع في حساباته أن تيار "المستقبل" صار في وارد اعادة النظر في حساباته ورهاناته التي عقدها على سير الأوضاع في الميدان السوري منذ نحو ثلاثة اعوام وبالتحديد منذ ان كانت المجموعات المعارضة للنظام هناك تبسط هيمنتها على نحو ما يزيد عن نصف الجغرافيا السورية، وتدق أبواب دمشق نفسها، إذ أن كل المناخات والأجواء التي سادت في الداخل اللبناني والإقليم عموماً قد تداعت أركانها وأعمدتها واحداً تلو آخر.
 
ومن البديهي ان ليس لدى الحزب أوهاماً حول أن خصمه قد صار في مرحلة "الاستسلام"، لكنه يعرف أن هذا الخصم كان مضطراً قسراً للدخول في الشركة السياسية الجديدة مع ما عنته من تراجع بيّن كل شعاراته وشروطه العالية وطموحاته السابقة، بناء على اعتبارات وحسابات عدة ابرزها:

- ان ابتعاده القسري عن السلطة خلال الاعوام الثلاثة المنصرمة اوشك أن يحوله الى حالة عدمية، لا سيما ان تركيبته وتوجهاته لا تهيئه اطلاقا للعب دور المعارض.

- ان هذا الخصم قد وجد في عودته الى السلطة وعلى هذا النحو الفضفاض والمريح، راحة نفسية تجعله في وضع المطمئن الى الحاضر والمستقبل الا ان عودته الى المكان الذي اقصي عنه بعد السقوط المدوي لحكومة الرئيس سعد الحريري يفرض عليه موجبات وأعباء سيسأل عنها ولو بعد حين، إذ يتعين عليه على سبيل المثال ضبط "التمرد" الحاصل في عاصمة الشمال، من جهة، وطي صفحة "الحرب" المعلنة من رموزه على المؤسسة العسكرية بذريعة انها منحازة من جهة اخرى. فخطاب "الحرب" هذا أوجد حالة غير مسبوقة في الحياة السياسية اللبنانية الا في بدايات سني الحرب الاهلية،وعليه ايضاً وايضاً التعامل على نحو يضبط تلك المجموعات المتفلتة من شارعه والتي اعتاشت على الحدود المفتوحة للعبور نحو الميدان السوري.

هكذا، وبمعنى أو بآخر، ووفق رؤية "حزب الله" فان ثمة "دويلات" نشأت في حضن تيار "المستقبل" ذهبت بعيداً في منطق عدائها للدولة والنظام العام سواء في الشمال (وادي خالد، طرابلس) أو في البقاعين الاوسط والشمالي (ومثاله الواضح في عرسال)، فلقد أتى الوقت الذي على تيار "المستقبل" أن يسحب غطاءه عن الحالات المتعددة التي "أخذت راحتها" في "التمرد" على الدولة وفي اشهار الحرب على المؤسسة العسكرية و"شيطنتها" بحجة انها منحازة، وفي المقابل ولّى زمن الاستفادة من "شطحات" هذه المجموعات وممارساتها لا سيما بعدما سقطت مقولة مقايضتها بسلاح المقاومة.

ومهما يكن من أمر فان الحزب لا يعارض اطلاقاً مقولة ان ما جرى شبه تسوية أو شروع في التسوية، ولكنه يرى ايضاً ان الامر ليس "صحن كرز" بالنسبة الى خصمه، إذ انه يضعه أمام موجبات وأعباء لا يستهان بها، خصوصاً ان انفتاح الابواب امام معركة الاستحقاق الرئاسي يحمل معه حسابات أخرى، وربما يعيد خلط الاوراق كلها.

ابراهيم بيرم - النهار 22\3\2014

إرسال تعليق

 
Top