0
العذر، الذي هو أشد وطأة من الذنب، الذي تذرعت به الجامعة العربية لعدم تسليم مقعد سوريا إلى المعارضة السورية، «الائتلاف» تحديداً، هو أنَّ هذه المعارضة ليست موحدة وأنها لم تحقق الانتصار على نظام بشار الأسد ولم تتمكن من حسم الأمور رغم مرور ثلاثة أعوام على بداية هذه الأزمة التي دخلت عامها الرابع قبل نحو ثلاثة أسابيع، وكل هذا وأنَّ المعروف أن هذا الائتلاف قد حاز ثقة أكثر من مائة وستٍ وعشرين من دول العالم، من بينها معظم الدول العربية، باعتباره الممثل الشرعي للشعب السوري.

وحقيقة، إن هذا «الائتلاف» الذي يشكل إطاراً عاماً لقوى المعارضة السورية ورموزها، باستثناء «داعش» و«النصرة»، قد تعرض أخيراً أكثر مما تعرض سابقاً إلى حملة ممنهجة شاركت فيها، إلى جانب نظام بشار الأسد وأبواقه، إيران وبعض الدول الأخرى المعروفة، وهذا بالإضافة إلى جيش جرار من الإعلاميين الطائفيين والمرتزقة.. والواضح أن «الجامعة» قد استهوتها هذه الحملة الظالمة وأنها كانت تنتظرها على أحر من الجمر لتستخدمها حجة وذريعة لحرمان المعارضة السورية، التي قدمت عشرات الألوف من الشهداء، من تمثيل شعبها في شغل مقعد سوريا في هذه الهيئة العربية.

ربما أن الجامعة العربية لا تعرف وربما أنها تعرف ولكنها «تحْرِف» أنَّ أهم ثورتين شهدهما القرن العشرون، بالإضافة إلى الثورة «البلشفية» الروسية والثورة الماوية الصينية، هما الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية، قد كانتا تعانيان في البدايات مما تعاني منه المعارضة السورية الآن ومما يعاني منه «الائتلاف» تحديداً، الذي يشكل إطاراً عاماً لقوى واتجاهات متعددة، من بينها المجلس الوطني والجيش الحر والكثير من الرموز الوطنية المعروفة، لكن ومع ذلك فإن الاعتراف العربي بهما، أي بهاتين الثورتين العربيتين العظيمتين، لم تكن تشوبه أي شائبة، وإن التشكيك في تمثيلهما للشعب الجزائري والشعب الفلسطيني قد اقتصر على فرنسا الاستعمارية وعلى إسرائيل وعلى بعض الحاقدين والمأجورين الذين عانت من أمثالهم كل حركات التحرر عبر كل حقب التاريخ السابقة واللاحقة.

قبل مؤتمر «الصومام» الذي انعقد في العشرين من أغسطس (آب) 1956، أي بعد أكثر من عامين على انطلاقة الثورة الجزائرية التي تعتبر، وهي كذلك، من أهم ثورات القرن العشرين على الإطلاق، كانت ولاياتها العسكرية غير مترابطة، وكانت «المركزية» التي تجسد وحدة القيادة وتراتبية قراراتها شبه معدومة، ولذلك فقد كان لا بد من هذا المؤتمر المهم جداً لتنظيم الهياكل الثورية ووضع الاستراتيجية الضرورية لإحراز الانتصار وتقسيم البلاد بدل الولايات إلى نواحٍ عسكرية، والتنسيق بين كل القوى والتنظيمات المشاركة في هذه الثورة. وحقيقة، إن هذا المؤتمر الذي انعقد في قرية «إيفري» بوادي «الصومام» بالقبائل في الشمال الجزائري كان بمثابة انقلاب سياسي على ما كان يعتبر زعامات تقليدية كانت تؤيد الحلول السلمية مع الفرنسيين، ومن بين هؤلاء، كما يقال، عبان رمضان وفرحات عباس وأيضا مصالي الحاج.

وهنا فإن ما يجب أن تأخذه المعارضة السورية في الاعتبار والتوقف عنده ملياً هو أن مؤتمر الصومام هذا، الذي أُعْطي بعد استقلال الجزائر اسم «المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني»، قد حسم مسألة من هو المسؤول عن الجناح السياسي لهذه الثورة، حيث تسلم هذه المهمة جيش التحرير تحاشيا لصراعات السياسيين وتجنباً لأي انحراف بالثورة وفقاً لتوجهات هؤلاء وولاءاتهم العربية وغير العربية. وحقيقة، إنه لو لم يحسم ثوار الميادين هذه المسألة الخطيرة بسرعة، وإنه لو لم يأخذوا بأيديهم زمام الأمور، فلربما تأخر الاستقلال وتأخر استرجاع الإرادة الوطنية لعدة أعوام بعد عام 1962، أي بعد انتصار ثورة المليون ونصف المليون شهيد التي أنهت استعماراً دام لنحو مائة واثنين وثلاثين عاماً وأكثر.

هذا بالنسبة للثورة الجزائرية التي كان عليها، تحاشيا للتدخلات الخارجية، أن تمنع التعددية السياسية بالنسبة لحَمَلةِ السلاح وأن تعتبر جبهة التحرير هي التنظيم الوحيد الذي له الحق في العمل في المجال العسكري الجزائري، أما بالنسبة للثورة الفلسطينية فإن المعروف، ورغم أن «فتح» هي صاحبة الرصاصة الأولى وأنها مهدت لهذه الثورة على مدى نحو ستة أعوام من التنظيم والاستعداد والتدريب وأول معسكراتها التدريبية كان في «شرشال» في الجزائر، فإنه قد ظهرت، بعد حرب عام 1967 التي استكمل الإسرائيليون خلالها احتلال فلسطين كلها بالإضافة إلى الجولان السورية وسيناء المصرية، عشرات التنظيمات التي معظمها تنظيمات «مايكروسكوبية» والتي بعضها الآخر مجرد اختراقات استخبارية عربية مبكرة للساحة الفلسطينية، لكن هذا لم يَحُلْ دون بقاء حركة المقاومة الفلسطينية، أي «فتح»، عموداً فقرياً لهذه الثورة، ولم يَحُلْ دون اعتراف العالم بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.

لقد كانت الساحة الفلسطينية تعاني من حمولة زائدة أكثر مما تعاني منه الساحة السورية الآن، ولعل ما تجدر الإشارة إليه أن الفصائل التي كانت تتبع بعض الأنظمة قد وقفت ضد قرار قمة الرباط الشهير في عام 1974 الذي اعتبر منظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وذلك بحجة أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية وأنه لا يجوز أنْ يُعْطى تمثيلها وبصورة حصرية للفلسطينيين وحدهم. وهنا فإنه يجب التذكير بأنَّ الاسم الحقيقي لمنظمة «الصاعقة» التابعة لسوريا هو «طلائع حزب التحرير الشعبية»، وأن اسم المنظمة التابعة للعراق هو «جبهة التحرير العربية»، أي من دون أي ذكر لفلسطين.. والآن فإن اسم «حماس» هو «حركة المقاومة الإسلامية»، وإن اسم «الجهاد» هو «حركة الجهاد الإسلامي»، أي من دون أي ذكر لفلسطين أيضاً.

الآن هناك انقسام في الساحة الفلسطينية أخطر كثيراً من انقسام الساحة الوطنية السورية، فهناك منظمة التحرير التي تضم حركة «فتح» والجبهتين «الشعبية» و«الديمقراطية» وحزب الشعب (الشيوعي) وبعض التنظيمات الصغيرة الأخرى، وهناك «حماس» و«الجهاد» ثم هناك الدويلة، التي تشبه حزب الله في لبنان، التي أقامتها «حماس» بقرار إيراني في غزة، وهناك السلطة الوطنية الفلسطينية، لكن ومع ذلك ورغم ذلك فإن العرب كلهم يعترفون، ربما بعضهم على مضض، بـ«المنظمة» وكذلك أيضا معظم دول العالم التي تتعامل معها كدولة، والمعروف أن منظمة التحرير هذه هي التي تفاوض الإسرائيليين وغيرهم باسم الشعب الفلسطيني لأنها الممثل الذي لا ممثل غيره لهذا الشعب.

ثم ماذا نقول؟.. إننا نقول إذا كانت الانقسامات الحزبية والسياسية من المفترض أن تحول دون أن تتبوأ جهة مقعد بلدها في الجامعة العربية فإن هذا يجب أن يُطبَّقَ على نوري المالكي، الذي يمثل جزءاً من حزب الدعوة (الإيراني) أكثر من تمثيله للعراق والشعب العراقي، وذلك قبل أن يطبق على «الائتلاف» السوري.. فرئيس الوزراء العراقي له مشكلة مع كل المكونات العراقية من السيد مقتدى الصدر، الذي يشكل ثقلاً رئيسياً في الساحة السياسية العراقية، إلى السيد عمار الحكيم إلى مرجعية النجف إلى إياد علاوي ومجموعته التي فازت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لكنها حُرمت من الوصول إلى الحكم بمؤامرة أميركية - إيرانية.. ثم إلى الشمال الكردستاني صاحب الدور التاريخي في إضعاف نظام صدام حسين والمساهمة في إسقاطه.

والغريب والمستغرب فعلاً أن الجامعة العربية، ومعها بعض العرب والكثير من «استراتيجيي» آخر زمن من المستأجرة أقلامهم وعقولهم من قبل المخابرات السورية والإيرانية، تأخذ على «الائتلاف» السوري أنه لم يستطع حسم المعركة بسرعة وإسقاط بشار الأسد، وكل هذا وكأنهم لا يعرفون أن هذا «الائتلاف» يواجه إيران التي لها وجود عسكري على أرض سوريا يقدر بعشرات الألوف، وهذا غير الميليشيات المذهبية العراقية وغير ميليشيات حزب الله وغير الدعم العسكري الروسي الذي بقي متواصلاً دون حدود. وهنا ألا يتطلب هذا اعتبار سوريا دولة محتلة مما يضع العرب كلهم ودون استثناء أمام مسؤولية قومية تاريخية، ويدفعهم على الأقل إلى إيقاف كل هذه الانتقادات غير المبررة التي توجه زوراً وبهتاناً إلى المعارضة السورية، إذا كانوا يفضلون التمسك بذلك الشعار المخجل القائل: «ابعد عن الشر وغني له»؟!

لقد دمَّر هذا النظام المستمر عملياً منذ عام 1963 الحياة السياسية في سوريا، ولقد جاء حافظ الأسد في عام 1970 ليرتكب أفظع المجازر التي عرفها التاريخ، وبخاصة في حماه عام 1982، وليتَّبِعَ سياسة مذهبية في القوات المسلحة حولتها من جيش لكل الشعب السوري إلى جيش لطائفة دون غيرها، ولهذا فإنها كانت معجزة ما بعدها معجزة أن تكون هناك هذه المعارضة الباسلة، التي رغم خذلان العالم لها ورغم التآمر عليها فإنها تمكنت من الصمود بأقل الإمكانيات، ولهذا فإن من حقها أن تطالب بمقعد سوريا في الجامعة العربية وبخاصة أن هناك اعترافا بـ«الائتلاف» من قبل مائة وست وعشرين دولة بأنه الممثل «الشرعي» لشعب سوريا.

صالح القلاب - الشرق الأوسط 27\3\2014

إرسال تعليق

 
Top