0
كتب شارل جبور - شعار الـ10452 كلم2 الذي أطلقه الرئيس بشير الجميّل، تعبيراً عن تعلّقِه بكلّ حبّة تراب لبنانية، وتمسُّكِه بكلّ شبر من الجغرافيا اللبنانية، ورفضِه التنازلَ عن سنتيمتر واحد، تحوّل إلى وصيّة لكلّ لبنانيّ حريص على سيادة بلده واستقلاله ووحدة أراضيه و»لبنان أوّلا»، ولكن ماذا لو كانت هذه الوصية حلمٌ غير قابل للتحقق؟

لم يطلِق مؤسس «القوات اللبنانية» شعاره في مطلع أحداث العام 1975 ولا في سبعينات القرن الماضي، إنّما أطلقه في مطلع الثمانينات، في أعقاب القرار السرّي الذي اتّخذته قيادة القوات في 27 أيلول 1980 في «سيّدة البير» بترشيحه للانتخابات الرئاسية في العام 1982، حيث سأل بشير في أحد الاجتماعات التي تلت هذا القرار عن مساحة لبنان، فجاءَه من يقول 10200، وآخر 10400، وأخيرٌ أكّد على 10450 التي أضاف إليها رئيس منطقة الأشرفية حينذاك جان ناضر كيلومترين، ربطاً بردميّات جونية، فاعتمدت مساحة 10452 كشعار، والتي لا أثرَ لها في كتب الجغرافيا التي تحدّد مساحة لبنان بـ 10200 كلم2.


فالعبرة الأساسية من وراء هذه الرواية أنّ شعار الـ 10452 كلم2 اعتُمد في لحظتين: لحظة ترشّح ضمن برنامج رئاسي، ولحظة شعور ربطاً بمعلومات أنّ العدّ العكسي لأحداث العام 1975، التي انطلقت مع اتّفاق القاهرة في العام 1969، بدأ جدّياً، وأنّ الحلم باستعادة السيادة على كلّ تراب الوطن سيصبح حقيقة.

 

وأيّ مواطن يشعر بوجود فرصة لإعادة الاعتبار إلى وطنه ودولته لا يمكن أن يتردّد، وهذا ما حصل لاحقاً مع اتّفاق الطائف الذي علقت الآمال عليه ليشكّل مدخلاً نحو إنهاء الحرب وعودة الاستقرار والحياة الطبيعية وإعادة بناء الدولة، ولكنّه وُلد ميتاً بسبب اللامبالاة الدولية إزاء الوصاية السورية على لبنان، وما حصل أيضاً مع انتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005 التي أعادت الأمل بوحدة اللبنانيين وتطلّعاتهم نحو بناء دولة مشتركة سيّدة وحرّة ومستقلة، ولكنّ هذه الآمال تلاشت سريعاً بسبب «حزب الله» ورفضِه تسليم سلاحه وإصراره على إبقاء لبنان ساحة متقدّمة في المواجهة الإيرانية.
 

وأيّ مقاربة للواقع الإقليمي واللبناني تفيد أنّ إيران لن تتخلّى بسهولة عن الورقة اللبنانية التي تبقيها على تماس مع القضية الفلسطينية، كما أنّ «حزب الله» لن يتخلّى عن سلاحه ودوره الإقليمي في أيّ حوار أو تسوية سياسية، والرهان على التطوّرات الخارجية لن يغيّر شيئاً في المعطيات على الأرض في ظلّ نظرة الحزب للبنان التي تتناقض بنيوياً مع فلسفة دوره وتحييده عن صراعات المحاور وحصرية السلاح داخل الدولة اللبنانية، وبالتالي أيّ هزيمة للمحور الممانع تجعل «حزب الله» أكثر مرونة بالموافقة على تنازلات ورقية لا فعلية، لأنّه ليس بوارد تسليم سلاحه.
 

ومن الخطأ التمسّك بعناوين وشعارات، ولو كانت وطنية ومبدئية، طالما إنّ تحقيقها مستحيل، واغتيال الرئيس الشهيد كان من أهدافه اغتيال الشعار الذي رفعه (10452 كلم2)، والذي تتالت المحاولات لإحيائه في الطائف وانتفاضة الاستقلال، ولكن دون جدوى، وهذا لا يعني الانصياع لإرادة القتلة والمجرمين،
 

إنّما هناك واقع سياسيّ يجب أخذه في الاعتبار، وهذا الواقع يقول إنّ لبنان بلدٌ تعدّديّ، ولا يمكن لفئة من اللبنانيين أن تفرض إرادتها ومشيئتها على الفئات الأخرى، وإنّ التعايش مسألة رضائية، أي تتمّ برضى وقبول كلّ المكوّنات التي تجتمع ضمن مساحة جغرافية محدّدة وتتّفق على إدارة مشتركة للبلد وتتوافق على عناوين مشتركة في إطار دورٍ واضح المعالم.
 

ويجب الإقرار بأنّ هناك اختلافاً جوهرياً في النظرة إلى لبنان ودوره بين من يريده مساحة للموت ومواجهة إسرائيل حتى إزالتها من الوجود وإلحاق الهزيمة بالاستكبار العالمي وتعميم ثقافة الممانعة والمقاومة، وبين من يريده مساحة للحياة وقيام دولة طبيعية تنعم بالاستقرار والازدهار، وكلّ النظريات القائلة بأنّ إسرائيل تحول دون ذلك ساقطة،
والدليل هو الأردن ومصر وسوريا ولبنان قبل العام 1969، لأنّ المهم أن تثبت الدولة في لبنان أنّها قادرة على حماية سيادتها من الداخل قبل الخارج، كونه لا يمكن تحصين السيادة في وجه الخارج قبل حصر السلاح في الداخل، وتكوُّن قناعة عامّة أنّ السلاح الشرعي وحده الضمانة للجميع، في موازاة استظلال الشرعية الدولية التي وحدها حمت الحدود السورية-الإسرائيلية لأكثر من أربعة عقود، وليس توازن العرب المختلّ بالمطلق لصالح إسرائيل.


وهناك فارق جوهريّ بين المقاومة الفلسطينية ومقاومة «حزب الله»، وهذا الفارق يكمن في أنّ اقتلاع الأولى كان ممكناً من منطلق أنّ لبنان لم يكن وطناً للفلسطينيّين ولن يكون وطناً بديلاً، فيما هو بالفعل وطن الحزب وأهله وشعبه وجمهوره، بمعزل عن أفكاره الدينية والسياسية والعقائدية والأيديولوجية، والمزايدة عليه بالهويّة اللبنانية مرفوضة رفضاً باتّاً جملةً وتفصيلاً، ولكن لا يستطيع «حزب الله» بالمقابل المزايدة على لبنانية الفريق الآخر من قريب أو من بعيد، لا في نضالاته وتضحياته، ولا بعمق تجذّره في لبنان وفضلِه في تطوّره وقيامه وصولاً إلى صورته الحالية، وبالتالي إذا كان أيّ من الفريقين ممنوعاً عليه المزايدة على الآخر، فهذا يعني أنّ على الطرفين إمّا الاتفاق على المشترك بينهما الذي لا يخرج عن عنوان الدولة ووظيفة لبنان التاريخية «لا شرق ولا غرب» والتي من دونها يهلك، وإمّا الانفصال والطلاق بمحبّة وتفاهم. ولكن لم يعد جائزاً استمرار الوضع والنزف على صورتهما الحاليّة.

 

وإذا كان البيان الوزاري شكّل خطوة على هذه الطريق بإعطاء كلّ فريق في فقرة واحدة الجملة التي تجسّد تطلعاته، وكأنّهما جسمان منفصلان، فيجب تطوير هذا التوجّه وترجمته على أرض الواقع، لأنّ «حزب الله» لن يتنازل عن المقاومة، ولبنان لا يمكن أن يستعيد عافيته واستقراره ودوره في ظلّ هذه المقاومة.
 

وما حصل منذ اتفاق الطائف إلى اليوم أنّ فئةً من اللبنانيين فرضت مشيئتها على الفئات الأخرى باسم المقاومة ومشتقّاتها، ولا أحد في وارد التشكيك بصدق قناعاتها وتوجّهاتها، وهذا من أبسط حقوقها، ولكن من حقّ الفئات الأخرى أيضاً أن تعبّر عن قناعاتها وتترجم رؤيتها ونظرتها للبلد، وبالتالي حان الوقت لتسمية الأشياء بأسمائها، فإذا كان البعض يرفض لبنان الـ10452 بدوره المحايد والشراكة في القرار الوطني وامتلاك الدولة وحدَها حقّ احتكار العنف والقرار الاستراتيجي، فإنّ لبنان الـ10452 بدوره المقاوم والممانع مرفوض رفضاً باتاً، ولذلك لا حلّ سوى بإسقاط هذا الشعار وتجزئته بالشكل الذي يستطيع عبره كلّ طرف أن يعيش صدق قناعاته وأفكاره وحرّيته على المساحة الجغرافية التي توفّر له هذه الحرّية.

الجمهورية 21\3\2014

إرسال تعليق

 
Top