0

كتب أحمد محسن - يمرّ الوقت بطيئاً في عيون الركاب. يتداولون السيرة ذاتها. لا فائدة من الحديث عن حكومة جديدة وأخرى قديمة. لا هم إن أسرع السائق، أو إن خفف السرعة. في الحافلة شبح، شبح الانتحاري
 
رغم أن عينيه كبيرتان، لم يكن باستطاعته سوى أن يرى زاوية ضيقة من الشارع فقط. قطعة صغيرة من الرصيف الجالس في منتصف الطريق وبعض المارة. ينظر إلى الخارج بخجل المتطفلين، ويحاول التدقيق في جيرانه الركاب الآخرين بلا جدوى. سترته الرثة لا تخفي بدانة فاقعة، وقبعته المهترئة تلقي على وجهه ظلاً خفيفاً. تقريباً أربعيني، وقد يكون له عائلة صغيرة تقطن في منزل يختبئ داخل الضواحي. ربما أولاده في المدرسة، وعلى الأرجح هو ذاهب إلى عمل شاق، إذ تبدو كفّه الضخمة محفوفة بالحديد والوقت. بصراحة، لا تبدو عليه «هيئة الانتحاري».
تتوقف الحافلة التي تسير بهدوء غير معتاد، ما يجعلها تبدو كسفينة بريّة. يسترق الرجل النظر، مجدداً، إلى الزحمة كمن يحاول التنصل منها. يُفتح الباب فجأة، فيصير الرجل جزءاً من الزحمة. الإنكار لم يعد مجدياً. يمد يده السمينة عبر الباب، ويأخذ دوره في الزحمة: «يا أخي، من فضلك، افتح الجاكيت». باستياء شديد يلبّي الشاب الذي يصعد طلبه، رافضاً التهمة المجانية التي قُذفت في وجهه. يتبادلان ابتسامتين صامتتين. وهذا لا يخفي ملامح كراهية طفيفة نشبت بين الرجلين للتو. تخرق حشرجة الراديو الخلاف العابر. رجل دين يقول: «كل هذا بسبب العدو الصهيو ـــ أميركي». يقول هكذا حرفياً وليس في صوته ما يدل على أنه قاله ممازحاً. يتذمر من حديث الراديو مسنّ إلى جانب السائق، بينما لم يجد الأخير شيئاً يفعله سوى أن «ينفجر» من الضحك. ثم تحدث جلبة. يهرعان من الخلف. يفتحان الباب محدثين صخباً معقولاً. يتذمر بعض الركاب من الحقيبتين اللتين على ظهريهما. طفلان، يغادران «الفان رقم 4» احتفالاً بنهاية الدوام.
في أيام الصحو في بيروت تكون الشمس وافرة. تتجمع برك ماء صغيرة بعد مطر المساء. وفي الصباح، بقوة الشمس، تنعكس عليها صور المباني الصامتة. تصير الشرفات على الأرض، تنزل إلى الطريق، وتستريح في برك الماء. يمكن رؤيتها بوضوح تام، تتلألأ غير آبهة بضجيج المسرعين إلى مشاغلهم. داخل الحافلة سيدة لطيفة، تداعب ابنتها الصغيرة، وتشير بإصبعها إلى البرك التي بقيت على طريق صيدا القديمة. تضحكان معاً، تلعبان لعبة الماء. وعندما ينفذ رأس الصغيرة من النافذة، تستبدل الوالدة رهافتها بالقسوة. تعيد الرأس إلى مكانه، تزيحه إلى صدرها. وبفرنسيّة رقيقة اللكنة، تقول لها: «آسييفو». تهدأ الطفلة ولا يهدأ قلق الجميع. يدور نقاش في المقاعد الخلفيّة عن «الانتحاريين». لا تشارك الطفلة فيه، تتلهى ببرك الماء المكومة على أطراف بيروت.
تصدح عدة آراء في أجواء الحافلة التي تبحر في قلب بيروت. «الحزام يفجّر يدوياً». وهنا يمكن ملاحظة أحد الركاب وهو ينزع يديه المغروزتين في جيبيه اتقاءً للبرد. يصدح رأي عبقريّ آخر: «قد يكون الانتحاري يحمل حزاماً موقوتاً». يثير هذا رعباً إضافياً، ويضحك الركاب بعضهم على بعضهم بتبادل النظرات الواثقة. ربما أقاموا ثقة عابرة، وربما يشك الواحد منهم في جميع الآخرين. لا يمكن التأكد من ذلك. الانتحاري ليس داخل الحافلة، ولكنه قادر على الصعود. يعرفون هذا وتؤلمهم كثرة التفكير فيه. لا يستطيعون سوى الحديث عنه من أول الكفاءات، وصولاً إلى آخر الحمرا، شارع الألوان والفنانين سابقاً، والذي يزداد فراغاً، تزامناً مع كل شائعة. لكنهم في الضاحية لم يعتادوا بعد، ولن يعتادوا. سيبقى هذا حديثاً يومياً. الشبح الذي يرافقهم كظلالهم إلى أعمالهم وبيوتهم والمحال التي يدخلونها ولا يعرفون متى تنفجر. يخشون حتى أن تنفجر ظلالهم. يصدح صوت آخر داخل الحافلة، من المقاعد الخلفيّة: «ليس بالضرورة هذا الفان، قد يكون الانفجار في مكانٍ آخر». يحلّ وجوم، على الأرجح، سببه مضاعفة احتمالات النجاة. على الأرجح يشعرون أنهم نجوا. وذلك لا يمنع شعورهم بتضامن جاد مع الذين لن ينجوا. والتضامن سببه أنهم ناجون مؤقتون، قد يُرسل الموت إليهم، وهم جالسون على مقعد غير وثير، في حافلة غير رحبة. قد تتغيّر وجهة الرحلة فجأة.
في الطريق إلى صيدا، تتسع كآبة المكومين في مقاعدهم داخل الحافلات السريعة. كآبة تتفاوت وتأخذ مقاسات الوجوه. الركاب غالبهم، كما تدل أحاديثهم، مشتاقون إلى عائلاتهم. أنهوا أعمالهم في بيروت، وهم عائدون. مشتاقون إلى عائلاتهم أكثر من قبل. يخافون أن يمتد الشوق حتى ينقطع. يسترسلون في السيرة المشؤومة ذاتها، ويبدأون من مزاح السائق: «في شي انتحاري بالفان؟». لا يجيب أحد. يضحك البعض، والبعض لا تعجبه النكتة. وحافلات صيدا كالحافلة رقم 4. ركاب يتركون طوائفهم في المنزل، يدعون الله وشأنه أثناء تنقلاتهم. إنها حافلات للجميع، وينبغي أن تتوقف وتبدّل ركابها، بلا تدقيق في هوياتهم ومواعيد صلواتهم. وهكذا هي الحال. في حافلة صيدا، تسابق عيونهم الطريق، ويجلسون، كأن المتنبي رآهم وكتب: «على قلق كأن الريح تحتي».

الأخبار

إرسال تعليق

 
Top